وهذا ما أشار إليه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في قداسه في الـ31 من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، حين قال “نرفض امتداد هذه الحرب إلى جنوب لبنان، فيجب إيقافها وحماية اللبنانيين وبيوتهم وأرزاقهم، فهم لم يخرجوا بعد من نتائج الحرب المشؤومة”.
الراعي طالب كذلك بإزالة أي منصة صواريخ مزروعة بين المنازل في بلدات الجنوب التي تستوجب رداً إسرائيلياً مدمراً، متسائلاً “أهذا هو المقصود؟ فليحترم الجميع قرار مجلس الأمن 1701 بكل بنوده لخير لبنان. ونأسف للصدامات الثلاثة الاعتدائية على القوات الدولية في غضون ساعات وعلى التوالي في كل من بلدة الرمادية، وبلدة الطيبة الحدودية، وبلدة كفركلا الأمامية، بهدف الحد من تحركها”. ووجه في المقابل الشكر تكراراً للدول المشاركة في هذه القوات الدولية لحفظ السلام في الجنوب.
وكان الجيش اللبناني أعلن أواخر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي في بيان، عن أنه “نتيجة عمليات المسح والتفتيش لمناطق إطلاق الصواريخ نحو الأراضي الفلسطينية، عثرت وحدات من الجيش على 21 منصة إطلاق صواريخ”، موضحاً أن المنصات عثر عليها في مناطق “وادي الخنساء والخريبة في قضاء حاصبيا (جنوب شرق)، والقليلة في قضاء صور (جنوب غرب)، واحدة منها تحمل صاروخاً معداً للإطلاق، وعملت الوحدات المتخصصة على تفكيكه”.
ومنذ اندلاع حرب غزة أكتوبر الماضي لم تهدأ الجبهة الجنوبية، حيث يواصل “حزب الله” استهدافه مواقع إسرائيلية، وفي المقابل يرد الجيش الإسرائيلي بالقصف الجوي والمدفعي على القرى الحدودية. واتهم الحزب بأنه “حول مناطق جنوب لبنان إلى ساحة حرب كما فعلت حماس بغزة”.
ووفقاً لوكالة “رويترز” قتل أكثر من 100 من مقاتلي “حزب الله” وأكثر من 20 مدنياً في لبنان، كما قتل تسعة جنود إسرائيليين في الأقل. وكان نائب الأمين العام لـ”حزب الله” نعيم قاسم، قال إن إسرائيل “ليست في موقع أن تفرض خياراتها” في ما يتعلق بوجود “الحزب” في الجنوب على الحدود معها.
وأضاف “نحن اتخذنا قرارنا بأن نكون في حالة حرب ومواجهة على جبهة الجنوب في مواجهة إسرائيل، لكن بما ينسجم مع متطلبات المعركة، وحين تتمادى تل أبيب سيكون الرد عليها أقوى، وأما أن تهدد إسرائيل فلا قيمة للتهديدات لدينا، لأننا سنكون جاهزين وحاضرين ونحن لم نخض هذه المعركة نزهة أو عن عبث…”.
الاعتداءات على “يونيفيل”
وتعرضت قوة حفظ السلام الدولية في جنوب لبنان “يونيفيل” لاعتداءين خلال أقل من 24 ساعة، وتحديداً في الـ27 والـ28 من ديسمبر الماضي، استهدفا الوحدتين الفرنسية والإندونيسية مما أدى إلى إصابة أحد الجنود التابعين لها.
من جانبها، أعلنت القوة الأممية، في بيان، عن أن إحدى دورياتها تعرضت لهجوم من قبل مجموعة من الشبان في بلدة الطيبة في جنوب لبنان، مما أدى إلى إصابة أحد الجنود، كما أشارت إلى تضرر آلية.
ودعت “يونيفيل” السلطات اللبنانية إلى “إجراء تحقيق كامل وسريع وتقديم جميع الجناة إلى العدالة”، معتبرة أن “الاعتداءات على الرجال والنساء الذين يخدمون قضية السلام ليست فقط مدانة، ولكنها تشكل أيضاً انتهاكاً لقرار مجلس الأمن الدولي 1701 والقانون اللبناني”.
وكانت “الوكالة الوطنية للإعلام” ذكرت أن مجموعة من الشبان من بلدة كفركلا اعترضت طريق دورية تابعة لـ”يونيفيل” من الكتيبة الفرنسية أثناء مرورها في البلدة وأجبرتها على التراجع بعد ضرب آليتها بعصا حديدية، كما تحدثت عن “إشكال” في بلدة الطيبة بين “مجهولين” وعناصر من الكتيبة الإندونيسية، بعدما “اعترض المجهولون الدورية وتهجموا عليها وأقدموا على تكسير زجاج الآلية، مما أدى إلى إصابة أحد العناصر بجروح”. وأشارت الوكالة إلى حل الموضوع بعد التواصل مع المعنيين من دون وقوع إصابات، ومن ثم أعلنت نائبة مدير مكتب “يونيفيل” الإعلامي كانديس أرديل في بيان أنه “عند نحو الساعة التاسعة صباحاً، تم اعتراض طريق جنود حفظ السلام لمدة أربع دقائق تقريباً خلال مرورهم في كفركلا، وذلك بينما كانوا في طريقهم إلى مقرنا في القطاع الشرقي”.
وقالت “بعد مناقشة قصيرة مع سكان المنطقة، واصل حفظة السلام طريقهم”، مضيفة “إننا نواصل تأكيد أهمية حرية حركة يونيفيل بينما نعمل على استعادة الأمن والاستقرار في جنوب لبنان”.
يشار إلى أن أرديل وعقب اغتيال القيادي في “حماس” صالح العاروري، قالت إن القوة تشعر بقلق عميق إزاء أي احتمال للتصعيد قد تكون له عواقب مدمرة على الناس على جانبي الخط الأزرق. وأضافت “نواصل مناشدة جميع الأطراف لوقف إطلاق النار، ومناشدة أية أطراف تتمتع بالنفوذ على أن تحث على ضبط النفس”.
القرار 1701
وأوردت وكالة “الصحافة الفرنسية” في تقرير لها أنه تتعرض دوريات تابعة للقوة الدولية بين الحين والآخر لاعتداءات، خصوصاً من مناصري “حزب الله” الذي يتمتع بنفوذ قوي في جنوب لبنان، تسبب آخرها في الـ14 من ديسمبر 2022 بمقتل جندي إيرلندي وإصابة ثلاثة من رفاقه خلال حادثة تخللها إطلاق رصاص على سيارتهم المدرعة أثناء مرورها في منطقة العاقبية.
وأوقف أحد المتورطين، وأعيد إطلاق سراحه الشهر الماضي، مع مواصلة إجراءات محاكمته. وأضاف تقرير “الوكالة الفرنسية” أن القرار 1701 الذي أنهى حرباً مدمرة خاضها “حزب الله” وإسرائيل عام 2006 عزز من وجود القوة الدولية البالغ عددها 10 آلاف جندي، وكلفها مراقبة وقف النار بين الجانبين.
وانتشر الجيش اللبناني بموجب القرار للمرة الأولى منذ عقود عند الحدود مع إسرائيل بهدف منع أي وجود عسكري “غير شرعي”. وكثيراً ما عمد الحزب إياه على مهاجمة قوات الطوارئ الدولية، واتهمها بـ”الانحياز لإسرائيل، وعدم تسليط الضوء على اعتداءاتها التي تطاول البلدات اللبنانية، وأدت إلى سقوط عشرات الضحايا بينهم مدنيون وصحافيون”.
وكانت العلاقات الإعلامية في “الحزب” اتهمت في وقت سابق عبر بيان “الانحياز الأعمى والتجاهل المقصود والمتعمد من قبل الأمين العام للأمم المتحدة والقوات الدولية العاملة في جنوب لبنان (يونيفيل)، ومن قبل الناطق الرسمي باسم البيت الأبيض، ومن قبل عدد من وسائل الإعلام العالمية، الذين امتنعوا عمداً عن تسمية الجهة التي أطلقت النار وقتلت الصحافي الشهيد عصام خليل العبدالله وجرحت عدداً آخر من الصحافيين من جنسيات متعددة”.
“رسالة إلى المجتمع الدولي”
وواجهت القوة الدولية تعقيدات عديدة في التعامل مع ما يسمى “البيئة الحاضنة” للحزب في الجنوب، بخاصة بعد التعديلات التي أدخلها مجلس الأمن على مهامها، مجيزاً لها حرية التحرك وتسيير دوريات وإجراء عمليات تفتيش من دون التنسيق مع الجيش اللبناني.
وتوترت الأجواء بعد اشتعال الجبهة الجنوبية بين الحزب والقوات الإسرائيلية. وقال مصدر ميداني في جنوب لبنان، لصحيفة “الشرق الأوسط” إن “التوتر الذي يشوب العلاقة بين الطرفين ليس وليد الأحداث الأخيرة، بل هو قائم منذ انتهاء حرب يوليو (تموز) 2006 وصدور القرار 1701، الذي حظر أي وجود مسلح جنوب الليطاني باستثناء الجيش اللبناني والقوة الدولية”.
من هنا يربط مراقبون بين الهجمات التي تتعرض لها القوة الدولية و”حزب الله” في محاولة منه لتوجيه رسالة إلى المجتمع الدولي برفضه تطبيق القرار 1701. ويتساءل مصدر سياسي لبناني في حديثه إلى “اندبندنت عربية” عن سر عدم تعرض “يونيفيل” طوال وجودها في الجنوب ومنذ عام 1978 لاعتداء في بلدات ذات غالبية سنية أو مسيحية أو درزية، فيما تتعرض لاعتداءات في بلدات التي يكون الولاء فيها لـ”حزب الله”.
ويتابع أن ما يحدث جنوباً هو بسبب ما حكي عن تعزيز دور القوة الدولية وفرض قيود على وجود الحزب في مناطق عمل هذه القوة. وكانت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، نقلت عن مصادر قولها إن الولايات المتحدة تستكشف اتفاقية دائمة محتملة لترسيم الحدود البرية بين إسرائيل ولبنان، على غرار اتفاق الحدود البحرية الموقعة في العام الماضي يكون هدفها الأساس معالجة النزاعات الحدودية.
وكان وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت قد تعهد بأن 80 ألفاً من السكان الذين تم إجلاؤهم مع بدء الحرب مع “حماس” لن يعودوا إلى ديارهم إلا بعد دفع “حزب الله” إلى شمال نهر الليطاني. وأوضح أن بلاده تأمل في دفع “حزب الله” إلى الوراء من خلال “الوسائل الدبلوماسية” في المقام الأول، لكن إذا فشل ذلك، فسوف “تتصرف بكل الوسائل المتاحة لها” بما في ذلك استخدام العمل العسكري.
من هنا يعتبر المصدر السياسي اللبناني أن “الحزب” يرفض وبشكل تام أي مناقشة أو بحث لدوره العسكري والأمني في نقاط المواجهة مع إسرائيل، أو أي تغيير في مهام “يونيفيل” كي لا يتعرض عملها للخطر والمواجهة في البلدات التي يتمتع بنفوذ فيها.
هل هناك مقايضة بين 1701 ورئاسة الجمهورية؟
رئيس مجلس النواب نبيه بري بدوره قال صراحة “أعطونا رئاسة الجمهورية وخذوا القرار 1701″، أي مقايضة تطبيق القرار 1701 برئاسة الجمهورية على أن تكون من نصيب “حزب الله”.
لكن بري وفي حديث صحافي سابق قال “نحن لا نفرط بمتر واحد من الجنوب أو من الأراضي اللبنانية في مقابل حصولنا على أعلى المناصب في الدولة”، معلناً تمسكه أكثر من أي وقت ببقاء القوات الدولية لمؤازرة الجيش اللبناني بتطبيق القرار 1701 “لكونها الشاهد، بالنيابة عن أعلى مرجعية أممية تتمثل بالأمم المتحدة، على تمادي إسرائيل في عدوانها على لبنان وخرقها أجوائه البحرية والجوية والبرية”.
وأضاف أنها “أصبحت جزءاً منا ومن أهلنا بعد مضي أكثر من 45 عاماً على وجودها في الجنوب في أعقاب أول اجتياح إسرائيلي له عام 1978”.
ويبقى السؤال المهم هل يطبق “حزب الله” القرار 1701 ويلتزم انسحاب مقاتليه من جنوب الليطاني؟
يقول الكاتب السياسي قاسم قصير “إن الدعوة إلى حياد لبنان ليست جديدة بل هي قديمة منذ عشرات السنين، ولا يمكن تطبيقها بحسب كل الدراسات القانونية والدبلوماسية والأكاديمية، في ظل ما يواجهه لبنان من تحديات داخلية وخارجية”.
ويضيف “لكن البطريرك الماروني مار بشارة الراعي عمد منذ عدة سنوات لتبنيها مجدداً وقد استخدم مصطلح (الحياد الإيجابي) أو (الحياد الناشط)، وهو أكد في مواقفه أن الدعوة إلى الحياد لا تعني التخلي عن القضية الفلسطينية والموقف الرافض لإسرائيل، وحصلت نقاشات عديدة حول هذه الدعوة وتم استخدام مصطلح آخر وهو (تحييد لبنان عن الصراعات في المنطقة)، والعودة لاعتماد (إعلان بعبدا)، الذي يدعو إلى النأي بالنفس عن الصراعات في المنطقة ولكنه لا يتناول الصراع مع إسرائيل ولا يدعو إلى التخلي عن المقاومة، وكل هذه المواقف لا تعني التخلي عن دعم الشعب الفلسطيني وعدم الوقوف إلى جانبه، وإن كانت بعض القيادات السياسية والدينية قد عادت لاستخدام هذه المصطلحات لوقف كل العمليات التي تحصل عبر جنوب لبنان لدعم الشعب الفلسطيني”.
وعن الدعوة إلى تطبيق القرار 1701 يشير قاسم إلى أنه “تكررت أخيراً من خلال جهات داخلية وخارجية، الدعوة إلى تطبيق القرار، من أجل وقف العمليات وسحب مقاتلي (حزب الله) والمقاومة من جنوب الليطاني، ولكن لا أحد يتحدث عن آلاف الانتهاكات الإسرائيلية لهذا القرار طوال 17 سنة، وكذلك لا يتحدثون عن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية، وكل الهدف من وراء الدعوات لتطبيق القرار 1701 وقف دعم (حزب الله) وقوى المقاومة في لبنان للشعب الفلسطيني”.
“غضبة الأهالي”
من جهة أخرى، يقول الكاتب السياسي أيمن جزيني إنه “لنعود إلى العملية التي قتل فيها الجندي الإيرلندي وكيفية تعاطي تلفزيون (المنار) حينها مع الحادثة معتبراً أنها نجمت عن (غضبة الأهالي)، لأن إحدى سيارات دورية (يونيفيل) مرت في طريق داخلية، وكأنها تجاوزت حمى ومست حرمات وأعراضاً وكرامات وكشفت ستراً أهلياً، فواجه الأهالي فعلتها بالرصاص ثأراً لشرفهم وأعراضهم المهتوكة”.
أما السيارة الأخرى، التي سلكت الطريق الدولية فلم تتعرض لأي شيء لأنها اتبعت أصول اللياقة والحشمة وصانت أعراض الأهالي وفقاً لـ”المنار”. وهذا يعني أن أهالي تلك النواحي ثأروا جميعاً، وسيبقى القاتل مجهولاً.
ويتابع جزيني أن ما يحصل خطر جداً ويمس بالأمن الوطني اللبناني، ويهدد من ثم وجود القوات الدولية في الجنوب. ويشير إلى أنها رسالة “جلفة وحادة” إلى الأمم المتحدة مفادها أن قوات “يونيفيل” التي تتشكل من جنسيات مختلفة ويبلغ عدد عسكرييها 10 آلاف و521 جندياً، مع موظفين مدنيين أجانب أيضاً يبلغ عددهم 257 شخصاً، صاروا “رهائن” بقوة الأمر الواقع، وسيبقون كذلك ما دام “الحزب” مهجوساً بتعريف “الطريق المسموح” للقوات الدولية عبورها، وكذلك تعيين ما هو “غير مقبول” في حسابات هذا التنظيم الأمني الذي تمتد أزماته وحساباته وأعماله المتشابكة من طهران إلى بيروت، مروراً بدمشق وبغداد.