شهدت السوق العقارية تقلبات عدة في السنوات الأخيرة، ما بين مراحل ركود وأخرى شهدنا فيها ازدهاراً في هذا المجال، وإن كان البعض يعتبره وهمياً بوجود عوامل عديدة لعبت دوراً في ذلك. فعلى رغم أن الأزمة الاقتصادية لا تزال على حالها وكذلك القدرة الشرائية للمواطنين على حالها، يحكى عن “فورة” في سوق العقارات وعن ارتفاع ملحوظ في الأسعار إلى مستوى يمكن فيه منافسة الأسواق العقارية في دول الخليج حيث الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي، بعكس الوضع في لبنان، هذا ما يطرح تساؤلات حول حقيقة الوضع الحالي في السوق العقارية وحول ما يمكن توقعه من ازدهار في المرحلة المقبلة، في ظل تراجع القدرة الشرائية للمواطنين.
ركود مستمر
يبدو وكأن التقلبات في سوق العقارات وحالة الركود تزامنت مع انطلاقة الأزمة في عام 2019، إنما في الواقع شهدت السوق العقارية ركوداً من عام 2015. فالتطوير العشوائي للمشاريع والعرض فائض نتيجة انجذاب المستثمرين إلى الفوائد العالية التي قدمتها المصارف للاستفادة منها، بدلاً من الاستثمار في القطاع العقاري. أما المطور العقاري فجذبته التسهيلات المصرفية والقروض لإطلاق مشاريع كبرى على نطاق واسع، هذا ما شكل ضربة لسوق العقارات وتسبب في تخمة فيه فخرجت الأمور عن السيطرة حينها، بحسب ما يوضحه الخبير والمستشار في الشؤون العقارية جورج نور. لذلك شهدنا ركوداً نتيجة انعدام التوازن بين العرض والطلب. مع بداية الأزمة حصل تحول كبير مع تدهور العملة الوطنية، مما تسبب في فوضى في قطاع العقارات. فأراد المواطنون عندها تهريب أموالهم المحجوزة في المصارف بأي وسيلة، فيما أراد المطور العقاري سداد ديونه، وكان الحل بالشيكات المصرفية. انخفضت عندها أسعار العقارات بنسبة ما بين 40 و60 في المئة من قيمتها.
لكن في مرحلة لاحقة، تمكن المطورون العقاريون من سداد ديونهم ولم يعودوا بحاجة إلى خفض أسعار العقارات، كما تراجعت كميات الدولارات في المصارف، وانخفضت القدرة الشرائية للمواطن مع تراجع معدلات السيولة. وأصبح المطور العقاري حريصاً على الدفع بالدولار “الفريش”. لم يعد البيع حاجة ملحة له، فيرفع السعر سواء تمكن من البيع أو لا، هذا ما أوحى للبعض بارتفاع أسعار العقارات بشكل غير مسبوق. إنما في الواقع هي حالات محدودة وخاصة وليست قاعدة يمكن تعميمها في السوق أو التحدث عن ازدهار. وبفضل أموال فئة من اللبنانيين الذين يعملون في الخليج ربما يكون الطلب قد زاد إلى حد ما. إلا أن الطلب ليس على العقارات عامة، بل ربما على شاليهات أو على بيوت قديمة في الجبال. هي اختيارات محدودة في ما يعرف بالـMarche Niche الذي يخص فئة محدودة من الناس لها اختيارات محددة من العقارات. انطلاقاً من ذلك، يعتبر نور الزيادة التي يجري الحديث عنها في سوق العقارات في لبنان وهمية لأهداف ترويجية، حتى إن الترويج لارتفاع الأسعار عامة وهمي. في الواقع أسهم ارتفاع أسعار المواد المستخدمة في البناء والارتفاع العالمي في أسعار النفط أيضاً في ارتفاع أسعار العقارات بطبيعة الحال، كما أصبح المبيع نقداً ولم يعد التقسيط ممكناً.
“في علم العقارات حركة السوق ترتبط بالعرض والطلب بشكل أساسي، فمع تراجع الطلب تنخفض الأسعار والعكس صحيح. شخصياً لا أتوقع قيام مشاريع جديدة كبرى في السنوات العشر المقبلة لأن السوق لا تحتمل ذلك بغياب الطلب والسيولة النقدية. أما مطورو العقارات فينتظرون للبيع من المشاريع الموجودة أصلاً بدلاً من الدخول في استثمارات جديدة تكبدهم مزيداً من الخسائر، خصوصاً أن التمويل غير متاح حالياً. ولعدم توافر القروض السكنية”.
طلب في اتجاه محدد
للتحدث عن ازدهار في سوق العقارات وتنشيط الحركة الاقتصادية ولادة ثقة بين المودع والمصارف، وهذا ليس سهلاً في المرحلة الحالية. فمع تراجع القدرة الشرائية للمواطنين وعدم توافر السيولة النقدية ولا القروض المصرفية لن يقدم المواطنون على شراء العقارات أو الاستثمار في هذا المجال، إلا في حال وجود حاجة ملحة إلى ذلك، بالتالي من الطبيعي أن يخف الطلب ويقتصر على شريحة محدودة من الناس قادرة على دفع مبالغ كهذه نقداً. علماً أن الطلب قد يتركز اليوم على الشقق السكنية ذات المساحات الصغيرة التي لا تتخطى 110 أمتار، بما يتناسب مع متطلبات الحياة العصرية. أما الشقق ذات المساحة الكبيرة فغير مرغوبة حالياً، مما يؤدي إلى انخفاض أسعارها. ولأن المواطن يبحث عن شقق أصغر مساحة وأقل ثمناً قد يبحث خارج العاصمة. لذلك، هناك اتجاه متزايد إلى شراء الشقق في الضواحي، فارتفعت أسعارها بشكل ملحوظ وبدأنا نشهد ازدهاراً عقارياً في الأطراف.
في المقابل قد يزيد الإقبال على الاستثمار في الأراضي أو حتى على المكاتب والمحلات التجارية لمن يملك السيولة النقدية وليس على الشقق السكنية، لكن يتوقع نور أن تعود الحركة العمرانية إلى النهوض تلقائياً مع التكاثر السكاني، آملاً في أن تسعى الدولة أيضاً إلى التنظيم في قانون الإيجارات لانطلاقة جديدة في الحياة الاقتصادية.
بين لبنان والخليج… أرقام مبالغ فيها
من جهته يشير الخبير العقاري والمهندس وليد ضاهر إلى أن الأرقام المتداولة حول أسعار العقارات في لبنان مبالغ فيها، فالإشارة إلى مكتب خارج العاصمة سعر المتر الواحد فيه خمسة آلاف دولار مبالغ فيه. بشكل عام، ترتفع أسعار العقارات في لبنان بخاصة في وسط بيروت، فيصل السعر الأعلى إلى خمسة آلاف دولار للمتر الواحد وما دون ذلك للمكاتب، لكن قد يرتفع إلى ما بين ستة آلاف وثمانية آلاف للمتر الواحد للشقق السكنية، ويختلف السعر بحسب عوامل عديدة. أما المناطق المحيطة كالأشرفية والحمرا في بيروت فتأتي من بعدها في مستوى الأسعار، وتتراوح الأسعار فيها بين ألفين وثلاثة آلاف دولار للمتر الواحد، ومع الابتعاد عن هذه المناطق تنخفض الأسعار أكثر.
لم تعد الحركة في سوق العقارات أبداً إلى ما كانت عليه في السابق في لبنان كما يحكى، ولا يمكن أن يحصل ذلك لعدم توافر السيولة النقدية ولا الحركة الاقتصادية الطبيعية والاستثمارات ومع استمرار الأزمة. حالياً، ارتفعت الأسعار في بيروت لتبلغ نسبة 75 أو 80 في المئة مما كانت عليه قبل الأزمة، ولم تستعد المستويات السابقة. ووحدها الشقق السكنية المصنفة Prime Location استطاعت أن تحافظ على سعرها إلى حد ما، لتمتعها بمواصفات مطلوبة تتيح المطالبة بأسعار أعلى، لكن لا تتوافر منها اختيارات كثيرة.
وفي مقارنة بين أسعار العقارات في لبنان وتلك التي في السعودية، يشير ضاهر إلى أن سعر المتر الواحد قد يتراوح بين 10 آلاف و15 ألف دولار.
أما في دبي فشهدت سوق العقارات ازدهاراً ملحوظاً في عام 2022 مع قدوم المستثمرين الكبار الذين هم في معظمهم من روسيا. ويستفيد بشكل خاص من الأسعار المخفضة في دبي من يشترون العقارات على المخطط قبل التنفيذ. فترتفع قيمة العقار لاحقاً وتعود بأرباح هائلة في حال اتخاذ قرار البيع في وقت لاحق.
وحول أسعار الشقق في دبي تشير المستشارة العقارية في دبي سينتيا الخوري إلى أنها بمعدل ثلاثة آلاف دولار للمتر الواحد إلى ثمانية آلاف دولار للشقة الأغلى ثمناً. وقد تصل أسعار الشقق الفخمة إلى 37 مليون دولار أميركي.
في مقارنة بين السوق العقارية في دبي ومثيلتها في بيروت، تشير الخوري إلى أن المشاريع الاستثمارية الكبرى والعقارات الفخمة والبنى التحتية المتطورة معروفة في دبي، وهذا تحديداً ما يجذب المستثمرين من العالم إليها. علماً أن دبي تحتل المرتبة الرابعة في العالم كسوق عقارية للشقق الفخمة من حيث المبيعات، في ظل الأزمة الاقتصادية في العالم.
“أما السوق العقارية في بيروت فترتبط إلى حد كبير بعوامل تاريخية وثقافية، إذ تقدم بيروت مزيجاً من العقارات العصرية والتقليدية التي تجذب كثيرين والتي تعكس تاريخ البلاد. فمما لا شك فيه أن التركيز في السوق العقارية في لبنان هو بشكل خاص على الهندسة المعمارية العريقة في المدينة، وهذا ما يشكل عنصر جذب أساسي، لذلك لكل من دبي وبيروت عناصر جذب معينة يمكن أن تسهم إيجاباً في السوق العقارية لكل منهما”.
كارين اليان ضاهر – الخبر من المصدر