صدق أبو تمام بقوله «السيف أصدق إنباءً من الكتب… في حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب»، والسلاح والتنظيم هو الذي يجعل «الحزب» لا يرى لأي «آخر» أهمية ليصبح ندّاً، طالما أنّ علاجه جاهز عند الحاجة. هذا بالفعل ما يردده اليوم ممثلو «الحزب» المفوهون على المنابر، كما الإعلام المرتبط به وبمشروعه.
ومن لديه شك بهذا الأمر فليراجع لائحة الضحايا الطويلة على مدى ثمانية عشر سنة، وما قد يأتي من احتمالات يبيتها «الحزب» على أساس التأثير على المسار السياسي. يعني، ببساطة، أنه لا همّ إن بقيت بعض القوى والأصوات تجاهر بالمعارضة بمختلف مستوياتها وصراحاتها ووقاحاتها، بالنهاية، يعلم الجميع أنّ المخرز أقوى من العين.
أما الكلام الصريح فكلما زاد، فهو سيوظف في معظم الأحيان في التحشيد الطائفي وتصليب التكتل ضمن الطائفة. بالمحصلة، فالصورة التي نشرتها صحيفة «الأخبار» لجهاد أزعور بجوار ضحية سابقة هي محمد شطح، تعبر بوضوح عن السياسة الحقيقية والمستدامة «لإقناع» الآخرين الذين «يحاربون طواحين الهواء»، كما قال محمد رعد. كما أنّ الكثير الآخرين المؤثرين قد تم ترويضهم وصاروا يعتبرون الشذوذ في السياسة حالة بديهية، وأنّ المرض يمكن التعايش معه، مقابل فتات السلطة وأوهامها.
لكن، ماذا يريد «الحزب» من جرّ واستدعاء الجميع إلى الحوار حول الرئيس؟ بالطبع فهو يريد سليمان فرنجية للرئاسة، أو مَن على شاكلته، ليضمن جزءاً حاسماً من السلطة إلى جانبه على أقل تقدير. لكن ما لا يريده في هذه المرحلة، من خلال الحوار على الرئاسة، هو «إقناع» معظم القوى السياسية في لبنان بتسوية جديدة تشبه تلك التي أتت بميشال عون إلى السلطة، حتى لا تكون تبعات الفشل على عاتقه لوحده أمام الناس وأمام العالم، إقليمياً ودولياً.
كما أن رئيساً «توافقياً» قد يُسكت المعارضة، ولو إلى حين، ويعطي الانطباع أنّ «معظم اللبنانيين» توافقوا على الرئيس، وبالتالي لا تصبح السلطة منعوتة بكونها سلطة «الحزب»، طالما أنّ «الجميع» مشاركون بها، وليس «الحزب» لوحده، فيتحمل البلد بكامله تبعات الأمر.
لكن ما هو مؤكد أنّ «الحزب» لن يأتي بأي رئيس من دون سلة تفاهمات مسبقة، ترقى إلى حد الالتزامات، تؤمن له جملة من الأمور. الأهم منها هو الحفاظ على الوضع العسكري والانتشار الأمني وحرية الحركة ووسائل تأمينها لـ»الحزب»، والاعتراف بالأمر الواقع إلى حين الوصول إلى حلول استراتيجية موسعة على رقعة لبنان وسوريا والعراق معاً. بالوقت ذاته، على أي تفاهمات أن ترعى تأمين أو ضمان الحاجات المالية لـ»الحزب»، أكانت شرعية أو خلافها، وذلك لتأمين مصاريف عشرات آلاف المقاتلين والموظفين وأسر الشهداء المرتبطين بـ»الحزب» ومؤسساته الاقتصادية والتربوية والجهادية، ويوفر على إيران أعباء مالية كبيرة، فيما شعبها يعاني من تبعات السياسات الإمبراطورية لقيادتها.
وهنا، على أي حكومة أن تتفهم هذا الأمر وتصبح مشابهة في تركيبتها وتوزيع السلطة فيها لما كان على مدى سنوات طويلة. الشيء الآخر المطلوب هو إهمال التحقيق في قضية المرفأ حتى تصل إلى مرحلة الوفاة السريرية ليتخطاها الزمن. يعني، إمّا أن تأتي تشكيلات قضائية تغير المحقق العدلي، أو أن يستمر الحصار القائم على التحقيق بشكل إداري.
ما رشح عن لقاءات المبعوث الفرنسي جان ايف لودريان هو أنّ رئيس «كتلة المقاومة» لم يقل أي شيء مما سبق، لكنه أكد على الحوار لاختيار الرئيس من دون سلة مطالب ورغبات قد تطرحها المعارضة. من هنا، فإنّ التمسك بترشيح سليمان فرنجية سببه أنه يحمل معه سلة شروط «الحزب» المذكورة أعلاه لتسهيل انتخاب رئيس للجمهورية. أما عدا ذلك، فلا مانع من استطالة أمد شغور سدة الرئاسة إلى أجل غير مسمى، بانتظار أن «يقتنع» المعارضون بخيار فرنجية، أو أن يقبلوا بسلة الشروط مسبقاً لاختيار رئيس جمهورية ورئيس حكومة وتشكيلة حكومية تضمن تلك الشروط.
في وقت الانتظار، سيستمر تحلّل الدولة وما تبقى من المؤسسات، وستتصاعد الدعوات إلى الانفصال والعودة إلى إمارة الجبل، وإن حصل ذلك، فإن باقي لبنان يسقط في حضن إيران بشكل شبه رسمي، كما توقع سفير إيران في دمشق في ثمانينات القرن الماضي بقوله «لبنان الآن يشبه تفاحة تنضج على الغصن، يكفي أن ننتظر تحت الشجرة لتسقط في حضننا».