في أجواء الأصالة
على أنغام موسيقى الشيخ يوسف المنيلاوي وعبده الحامولي وعبدالحي حلمي وغيرهم من رواد الطرب في بلاد الشام، كانت “جلسة سمع” لأندر التسجيلات من أواخر القرن الـ19 ومطلع القرن الـ20 في مقر “مؤسسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربية” (آمار) بمناسبة يوم الأرشيف العالمي. أجواء ثقافية وموسيقية بامتياز سيطرت على المكان لتعيد إلى الذاكرة أجمل الألحان والموسيقى الراقية والعريقة، وتخللتها وقفات تثقيفية من عالم الموسيقى ابتداء من اختراع إديسون الفونوغراف كأداة حفظت أجمل الأنغام القديمة، وكانت الانطلاقة لما هو معروف الآن في الموسيقى. واعتمد أولاً الأسطوانة المزودة بإبرة تحفر خطوطاً عميقة، فأحدثت ثورة آنذاك، عندما أصبح من الممكن أن يسجل الإنسان صوته.
في المبنى المجهز بالكامل لاستقبال كما لحفظ التسجيلات القيمة والنادرة في ظروف مناسبة من حيث التهوية والأمان، انطلقت مؤسسة “التوثيق والبحث في الموسيقى العربية” بأعمالها عام 2009، واستطاعت أن تجمع تدريجاً ما لا يقل عن سبعة آلاف أسطوانة من عصر النهضة، فحافظت على أهم مقتنيات الموسيقى العربية الكلاسيكية في العالم وأكثرها تميزاً. تملك في مقرها نحو ستة آلاف ساعة من تسجيلات البكر والأسطوانات، إضافة إلى استوديو مزود بأحدث الوسائل التقنية لتحويل المواد الموسيقية إلى ملفات رقمية، حفاظاً على هذه المجموعات النادرة. جهود جبارة تبذل للحفاظ على المجموعة الكبرى من إرث الموسيقى العربية من بلاد الشام ومصر، بالتعاون مع مجموعة من الباحثين في علم الموسيقى من مختلف أنحاء العالم. حول انطلاقة المؤسسة، أوضح أكرم ريس في حديث مع “اندبندنت عربية” أنها حصلت بمبادرة خاصة من مهتمين في مجال الموسيقى للحفاظ على هذا الإرث. “تخصصت المؤسسة بمرحلة زمنية تراوح بين القرن الـ19 وأواخر ثلاثينيات القرن الماضي. شهدت تلك المرحلة تحولات كثيرة وحروباً رافقتها تحولات اجتماعية وثقافية. تلقائياً حصل تهميش وظلم للممارسات الثقافية التي كانت سائدة. من هنا، ولدت المؤسسة للحفاظ على هذا الإرث الأساسي في تاريخ المنطقة، بأسلوب مدروس وعلمي فيكون متاحاً لعشاقه وللأجيال القادمة”.
إرث موسيقي من مصر
توافر أهم الإرث الموسيقي في مصر بفضل الإعلام والأكاديميات، فيما بقي هناك ضعف ملحوظ في هذا المجال في بلاد الشام. فكانت هناك صعوبة كبرى في الحفاظ على التراث والعودة إلى الأرشيف. وكانت بداية التسجيلات الموسيقية في مصر بعد ابتكار آلة الفونوغراف، فتوجهت الشركات العالمية إلى مصر لإنجاز التسجيلات الموسيقية، خصوصاً أن مصر كانت رائدة في مجال الفنون والموسيقى، لذلك في تلك الحقبة، توجه كثر من مطربي بلاد الشام إلى مصر لتسجيل أغانيهم وموسيقاهم، إلى أن أنشئت شركة لبنانية وأصبح المصريون يتوجهون إلى لبنان للتسجيل، فحصلت التوأمة في هذا المجال بين البلدين. وكان التفاعل عبر الزمن على المستوى الموسيقي، مرتفعاً بين بلاد الشام ومصر مع مرور الوقت، لذلك يتركز أرشيف التسجيلات الموسيقية على المنطقة. تجدر الإشارة إلى أن التسجيلات الموسيقية بقيت نادرة منذ مطلع القرن إلى ثلاثينيات القرن الماضي، ومن الطبيعي التمسك بكل ما يمكن توفيره منها، سواء من الغناء الفولكلوري أو الموشحات أو تلاوة القرآن. لم تتوافر إلا عن طريق الصدفة تسجيلات حرص أشخاص على الحفاظ عليها، رغم سهولة تلفها. فالمواد التي صنعت منها الأقراص آنذاك، كانت سهلة الكسر وفي غاية الهشاشة. لذلك، بقيت التسجيلات من تلك الحقبة عملة نادرة.
جهود وخبرة وشغف
وبفضل الأبحاث والدراسات، توصلت المؤسسة إلى اقتناء أرشيف غني يعكس تاريخاً عريقاً. جرت دراسته وتصنيفه في مسار طويل حظي بدعم عشاق عالم الموسيقى الأصيلة وعلماء وخبراء فيه، مع اهتمام خاص بفنون المقامات التي تشكل خيطاً يربط بين الأنواع كافة، وفق ما أوضح الدكتور ريمون افرام، أحد المسؤولين في المؤسسة، فقد تعكس الكتب ما حصل من تطورات في مجال الموسيقى، ولكن تبقى التسجيلات أيضاً خير مؤشر إلى واقع الممارسات الموسيقية في تلك الحقبة. علماً أن الأسطوانات الخاصة بالموسيقى العربية تسجل مرة واحدة في المؤسسة. فتنقل إلى ألمانيا حيث ابتكر خبير جهازاً لا يؤذي المادة الشمعية الدقيقة التي في الأسطوانة، فلا تتعرض للتآكل. بالتالي، لا يمكن الاستماع إلا إلى تسجيلات عنها. وتكون أرشفة التسجيلات الموسيقية بحسب الإصدارات أو بحسب المطرب أو النوع الفني أو الآلة الموسيقية المعتمدة أو بحسب المنطقة الجغرافية.
ويضح فرام أن التطور التكنولوجي لعب دوراً مهماً في حفظ هذا الإرث عبر تسجيل الموجودات وفق برامج متطورة حفاظاً عليها. وتكون البداية مع غسل القرص في عملية دقيقة والتصحيح والترميم وحفظه بعناية في ورق خال من الأسيد. فكافة المواد المستخدمة لتسجيلات الموسيقى هي حساسة وتتأثر بعوامل الطقس والزمن والغبار والاستخدام، مما يؤدي إلى تآكلها وتكدس ترسبات معينة فيها. يتطلب ذلك أساليب خاصة وخبرات للحفاظ على التسجيلات.
وبحسب مهندس الموسيقى والمسؤول عن الأرشيف أسامة عبدالفتاح، تتوافر برمجيات في تطور دائم لحفظ التسجيلات بأعلى مستوى من الدقة، مما سمح بتوثيق نسبة 80 في المئة من الأرشيف رقمياً. ومع مواكبة كل التطورات التكنولوجية للحصول على نتيجة فضلى، يبقى الأهم الحفاظ على المادة الأساسية في ظروف ملائمة تمنع تلفها مع الوقت. فلا بد من حفظ هذه التسجيلات النادرة اللبنانية والمصرية والسورية والفلسطينية، بشكل أمثل.
أما الأسطوانات الشمعية التي عرفت في مصر بالكبايات، وتعود إلى ما بين عامي 1895 و1902، فسُجلت عليها أدوار بأصوات عبده أفندي الحمولي وبهية المحلوية والشيخ سلامة حجازي ومحمد أفندي صادق وتجويد للقرآن الكريم. كانت كلها مجهولة الوجود، ومنها تسجيلات عبده الحمولي، الذي كان هناك اعتقاد أنه لم يسجل أبداً، فيما تبين وجود أسطوانة له لاحقاً، وباتت موجودة في مقر المؤسسة حيث يمكن عيش متعة الاستماع إليها.
إرث قيم للأجيال القادمة
يبدو صون التراث الموسيقي العربي أولوية اليوم، بالاعتماد على تسجيلات لمطربين وعازفين طبعوا تلك الفترة، ومن واصلوا هذا المسار في بقية الدول العربية. لذلك، سعت مؤسسة “آمار” إلى جعلها في متناول الناس من خلال أقراص مضغوطة ومنشورات وعبر الإنترنت. وكانت للشيخ يوسف المنيلاوي أولى المجموعات الكاملة التي أنتجتها المؤسسة، وتتألف من 62 أسطوانة نقلت إلى 10 أقراص مضغوطة وتمثل مختلف أوجه فنه من دور وقصيدة وموال وموشح… أعطيت لهذا العمل الأولوية لمكانته الفنية وجودة التسجيلات الفنية. وكانت أسطواناته تعد مرجعاً أول في مجال الغناء المتقن في مطلع القرن الـ20.
في عام 2013 أصدرت المؤسسة عملاً من أربعة أقراص مضغوطة للفنان الكبير عبدالحي أفندي حلمي الذي تميز بأسلوبه الغني بالابتكار وحرية التعبير وقوة الإحساس. فوقع الاختيار على 45 قطعة من مختلف الأشكال التي غنى بها، وألوان الطرب التي وشح بها مغناه. وبالتعاون مع مؤسسة أبوظبي للموسيقى والفنون، أصدرت المؤسسة مجموعة حملت عنوان “رواد الطرب في بلاد الشام” ضمن أعمال 28 مطرباً ومطربة وعازف لبناني وسوري وفلسطيني، هم من أوائل الفنانين الذين سجلت لهم أسطوانات في بداية القرن الـ20.
وفي خمسينية غياب أمير الكمان العربي سامي الشوا، أصدرت المؤسسة، بالتعاون مع مؤسسة أبوظبي للموسيقى والفنون، مجموعة تضم عدداً مهماً من أعماله وكتاباً عن حياته. وفي عام 2014 أنتجت المؤسسة عملاً موسيقياً لمصطفى سعيد وكلمات الشاعر تميم البرغوثي بعنوان البردة، تم تقديمه في بيروت ثم في لندن.
وكانت كل شركة إنتاج تصدر كتيبات تحتوي على أرقام إنتاجاتها من أقراص. وتوافرت لدى المؤسسة من خلال موسيقيين وخبراء في علم الموسيقى، بعد أن باتت معروفة عالمياً. فاستطاعت أن تنتج أقراصاً جمعتها من هذا التراث الغني من المرحلة الكلاسيكية لإغناء مجموعاتها، حتى باتت تملك النسبة الكبرى من هذا التراث. وهي أكبر مجموعة من بلاد الشام ومصر من تلك الحقبة تجتمع في مكان واحد، بفضل جهود أعضائها وخبرائها وشغفهم. أما جمع هذا الإرث الموسيقي النادر الوجود، فكان ممكناً بوسائل عدة، إما من خلال أشخاص يضعون مقتنياتهم من التسجيلات بشكل دائم، أو من خلال من يقدمونها للمؤسسة أو باستعارة القرص لتنتجه المؤسسة وترد التسجيل بعدها، فيبقى التسجيل وحق نشره للمؤسسة. وهذا ما يسمح للأجيال المقبلة من الاستفادة من هذا الإرث الغني عبر تكوين البنى التحتية لخلق حالة موسيقية خاصة، تعطي الصورة الأجمل عن إرث قيم.