كثيراً ما عدت كندا وجهة مثالية للهجرة بكل ما فيها من مقومات وعوامل جذب. فمنذ عقود بدا أنها تتمتع بكل الميزات التي يبحث عنها الإنسان في وجهة يختارها لبناء حياة جديدة، وإيجاد فرص عمل والأمان والاستقرار. وبالنسبة إلى المواطن اللبناني كانت هذه عناصر مفقودة في بلده، خصوصاً بعدما زاد الوضع سوءاً فيه منذ بداية الأزمة الاقتصادية. وإذا كان حلم الإنسان العيش في بلاد فيها مقومات العيش الكريم فإن كندا كانت الاختيار المفضل لكثيرين. وهذا ما شكل حافزاً للهجرة إليها بهدف تأسيس حياة جديدة. لكن أخيراً بدأت تسجل حركة هجرة عكسية ملحوظة من كندا للبنانيين وغيرهم من أبناء الشعوب التي لم تعد تجد فيها “الوجهة الحلم” كما في الماضي. وتتعدد الأسباب وراء ذلك وفق تجارب مهاجرين لبنانيين قرروا مغادرة “جنة كندا” والعودة إلى أرض الوطن، بعدما اكتشفوا أن تلك الوجهة التي علقوا عليها آمالاً لم تكن على قدر توقعاتهم.
حياة تنقصها المتعة
عندما قرر جورج الانتقال للعيش في كندا مع عائلته خلال الأزمة كان يدرك جيداً أن الأمور لن تكون سهلة. إذ إنه تلقى تعليمه الجامعي في كندا ويعرف أن الحياة ليست سهلة فيها. لكن بناء على إصرار زوجته وكونهما يملكان الجنسية الكندية، هاجرا بحثاً عن الأمان والاستقرار من أجل طفليهما بما أن الأمور كانت في غاية الصعوبة في لبنان. فكانت الأزمة المالية والاقتصادية في أوجها مع انقطاع الأدوية وفقدان مواد كثيرة تحتاج إليها العائلة. لذلك، وعلى رغم أنه لا يؤثر الحياة في كندا تقدم باستقالة من عمله في لبنان، وانتقلت العائلة إلى كندا حيث وجد عملاً مباشرة. لكن سرعان ما تبين للزوجين أن الحياة أكثر صعوبة مما تصورا مع الطفلين. وعانيا طوال عامين من الضغوط والتوتر بسبب ظروف الحياة التي لا تتخللها أية تسهيلات أو خدمات كتلك الموجودة في لبنان، خصوصاً في ما يتعلق بالعناية بالأطفال وبكل شؤونهم. فهم في حاجة إلى كل الاهتمام طوال ساعات النهار. ويغلب الروتين على الحياة على حد قول جورج ما بين العمل والاهتمام بالأطفال، من دون أن يكون من الممكن إيجاد سبيل للترفيه كما في لبنان. فلا حياة اجتماعية ولا مجال لإقامة علاقات وصداقات إلا بصورة محدودة مما يزيد من الضغوط. فلم يكن هناك أي مجال للاستمتاع بالحياة. ويعيش الناس كلهم بهذه الصورة حتى في عطلة نهاية الأسبوع. وإن كان الأولاد استمتعوا طوال عامين بوجود حدائق ومتنزهات وأنشطة مناسبة لأعمارهم. ويذكر جورج أن العائلة لم تشعر بالسعادة على رغم أن الأمور الأساس في الحياة مؤمنة للشعور بالاستقرار.
ومن جهة أخرى يدعو المناخ في كندا إلى الاكتئاب بسبب الطقس البارد والثلوج والألوان الداكنة. فكان جورج يترقب رؤية الألوان في الطبيعة والسماء كما في لبنان حتى في أيام الشتاء. ويضيف أن “النظام التربوي في كندا في الأعوام الأخيرة يشجع على الحرية الجنسية وحرية اختيار الجنس بوتيرة متسارعة لا تشبهنا. فهناك ميل إلى جعل مثل هذه الأفكار تبدو طبيعية واعتبار تغيير الجنس مقبولاً. وصحيح أن الأطفال لم يتأثروا بذلك لصغر سنهم إلا أن مكوثهم في هذه البلاد كان يعني حتماً تأثرهم في وقت لاحق بهذه الأساليب التربوية والمبادئ”.
تجربة فشلت خلال أشهر
لم تكن اللبنانية جولي مسلم زارت كندا قبل أن تتخذ قرار الانتقال إليها. علماً أن شقيقتها تعيش فيها منذ أعوام عديدة. وقررت عائلة مسلم الهجرة منذ بداية الصيف الحالي علّ التأقلم مع نمط الحياة في البلاد يكون أسهل في فترة العطلات، وفي ظل الطقس الصيفي. لكن خابت الآمال بعد تجربة العيش خلال أشهر قليلة لم يتمكن أفراد العائلة خلالها من الاستمرار لفترة أطول، خصوصاً أنهم توقعوا أن تسود أجواء الكآبة أكثر بعد مع بداية فصل الشتاء. وتصف مسلم كندا بالبلاد الرائعة فعلاً كما يمكن توقعه، لكن في المقابل النظام المعتمد وأسلوب العيش يفقدها الحيوية التي اعتادها اللبنانيون. فبدا لها أن الناس يعيشون حياة “روبوتات” في نظام صارم ويحتل العمل الجزء الأكبر من الحياة، فيما لا يبدو أن للتسلية والترفيه بالصورة الذي اعتادت عليها في لبنان مكاناً.
وعلى رغم أن العائلة انتقلت في فصل الصيف فإنها فوجئت بأنه في يوم واحد كانت تشهد على مرور أربعة فصول، بحيث يصعب التخطيط لأنشطة معينة في الخارج بسبب المطر المحتمل والطقس العاصف المفاجئ، بعد أن تكون الشمس مشرقة.
كما بدا أن البلاد تفتقد الحياة النابضة سواء في النهار أو في الليل بما يختلف عما اعتادت عليه العائلة في لبنان، خصوصاً في ما يتعلق بالحياة الليلية، إذ تغلق المطاعم أبوابها في العاشرة ليلاً. حتى إن المتاجر الكبرى كانت مقفلة في أيام الأحد فلا يكون هناك مجال للتسلية. أما في ما يتعلق بالضمانات والمعاش التقاعدي فهي من المسائل التي لا يستفيد منها المواطن تلقائياً وبطريقة عشوائية كما يعتقد كثر. فالدولة تأخذ نسبة معينة مرتفعة من الأجور طوال الحياة إلى أن يحصل المواطن على معاش تقاعدي. كما أنه ثمة قوانين صارمة للاستفادة من أجر البطالة مع إلزامية تمضية فترة معينة في كندا للحصول عليه.
أما بالنسبة لنظام الرعاية الصحية فتشير مسلم إلى أنه يفرض شروطاً صعبة، وقد تطول لائحة الانتظار قبل الاستفادة من الخدمة حتى في الحالات التي تعد طارئة، خصوصاً أنه ثمة تصنيف لكل حالة طارئة في درجات معينة. وهي حالة واجهتها جولي مع شقيقتها التي عانت نزفاً حاداً وبعد توجهها إلى المستشفى طلب منها العودة في مساء اليوم التالي لتلقي الرعاية والعلاج، لاعتبار أنه ثمة حالات طارئة أكثر في أعلى لائحة الانتظار. وبسبب هذه العوامل وغيرها قررت العائلة العودة إلى لبنان والتخلي عن فكرة الانتقال للعيش في كندا.
واقع مختلف على الأرض
وتعد هذه من آلاف الحالات التي قرر فيها من هاجروا إلى كندا العودة لأسباب متعددة. وفي هذا الإطار يميز أستاذ الديموغرافيا الدكتور شوقي عطيه في مبادئ الهجرة “ما بين عوامل الطرد التي تدفع الإنسان إلى مغادرة بلاده، وعوامل الجذب التي قد تدفعه إلى اختيار بلد معين للهجرة، وهي عوامل موجودة دائماً في أية حالة هجرة. وبالنسبة للبنان تحتل العوامل الاقتصادية أعلى القائمة بين عوامل الطرد إضافة إلى السعي إلى الأفضل. فخلال عام 2019 بحث كثر عن فرص أفضل للعمل خصوصاً من لم تتوافر لهم فرص عمل بسهولة”. وأضاف “سابقاً، كان المجتمع اللبناني فتياً ويخرج سنوياً عشرات الآلاف، كثر منهم لا يجدون فرص عمل كافية. أما اليوم فهناك تحول في المناطق بنسب متفاوتة مع انخفاض معدلات الشباب”.
وتابع عطيه أنه “وفي مقابل عوامل الطرد التي تحفز المواطن اللبناني على البحث عما هو أفضل له فيترك بلاده، تبرز عوامل الجذب التي يجدها في بلاد أخرى حيث تتوافر ضمانات وتأمينات وفرص عمل، ووضع اقتصادي واجتماعي أفضل. وفي مرحلة طويلة بقيت كندا متميزة بعوامل الجذب التي لديها. وهي لا تزال من البلاد التي تستقبل المهاجرين خصوصاً أنها ثاني أكبر دولة في العالم من حيث المساحة، وعدد سكانها لا يعد كبيراً وفيها مساحات شاسعة. هذا، فيما لا يساعد مناخها على العيش في هذه المساحات. لذلك هناك ميل واستعداد دائم لدى كندا لاستقبال الراغبين بالهجرة. وحتى اليوم وضعت خطة لاستقبال نصف مليون مهاجر سنوياً حتى حلول عام 2026 لزيادة عدد السكان”.
وتابع المتحدث ذاته أنه “في ظل توافر عوامل الجذب وعوامل الطرد، يميل اللبناني عادة إلى تصور الأمور بغير ما هي في الواقع. وكأن كندا هي البلاد التي تمطر فيها ذهباً وسيصبح أكثر ثراء فيها، مما ليس صحيحاً على أرض الواقع”. وأوضح عطيه “حالياً اختلفت الأمور إلى حد كبير في كندا لجهة كلف العيش مع ارتفاع الضرائب وتدني الأجور نسبياً، خصوصاً في حال مقارنتها مع تلك التي في دول الخليج. يضاف إلى ذلك أن ما كان يميزها سابقاً من نظام صحي مجاني تحول إلى نظام معقد مع زيادة عدد السكان، خصوصاً المسنين منهم. إذ يطول الانتظار للوصول إلى الخدمات الصحية وتزيد الصعوبات، وتحصل تصنيفات للحالات لتحديد الأولويات في تقديم الرعاية”.
ومن جهة أخرى، تمر كندا كأية دولة في العالم بتحولات اقتصادية واجتماعية. بالتالي لم تعد تملك الجاذبية التي كانت لها في الثمانينيات بالمستوى نفسه. ففي تلك الحقبة، كانت تعد بلداً ثانياً للبنانيين. وفقدت جاذبيتها مع ارتفاع الضرائب وانخفاض معدلات فرص العمل وتراجع نظام التغطية الصحية. أما في لبنان فعلى رغم كل التحديات في النظام الصحي تعد الخدمات الصحية مؤمنة بسهولة وسرعة، ولا يطلب من المواطن الانتظار وإضاعة الوقت كما في كندا للحصول عليها.
ولفت أستاذ الديموغرافيا إلى أن “المناخ يعد أيضاً من العوائق. فبالنسبة لمن يأتي من بلاد دافئة مثل لبنان ودول الخليج، يصعب التأقلم مع المناخ البارد في كندا. وسجلت في كندا أدنى درجات الحرارة في العالم بحيث لا يمكن لمن لا يستطيعون التأقلم مع مثل هذا المناخ الاستمرار، وهم يعودون إلى بلادهم بعد فترة”. وزاد أن “دراسة كندية أجريت خلال عام 2017 أظهرت أن نسبة 15 في المئة من الأشخاص الذين هاجروا إلى كندا بين عامي 1982 و1987 غادروها خلال 20 عاماً من وصولهم إليها، فعادوا إلى بلادهم أو إلى بلاد أخرى. ولوحظ أن 25 في المئة من الصينيين و25 في المئة من الأميركيين و25 في المئة من اللبنانيين يعودون إلى بلادهم خلال 20 عاماً كما تظهر الدراسة. وهذا ما يؤكد أن اللبناني عاجز عن التأقلم مع الحياة في كندا علماً أن قسماً ممن يعودون يتخذون قرار العودة بعد تمضية فترة معينة في كندا، ومنهم من يقررون المكوث فيها لكنهم يعجزون عن التأقلم”.
وتابع “استجدت عوامل في الأعوام الأخيرة أسهمت بصورة أساس في ظاهرة الهجرة العكسية من كندا، ومنها مسألة الحرية الجنسية وحرية اختيار الجنس. فثمة انفتاح كبير في هذا المجال بصورة تمنع كثيرين من التأقلم وقبول مثل هذه الأفكار. فلم تعد الأمور اختيارية في هذا المجال، بل يلزم الأهل بتعليم أطفالهم هذه الأمور، أما من يعارض فيتعرض لعقوبات. لذلك يختار قسم كبير من اللبنانيين حالياً الهجرة العكسية كحل، رفضاً لهذه “اللا حرية” التي يفرضها النظام في كندا بحجة الحفاظ على حريات فئات معينة”.
وكمعدل وسطي لفت عطيه إلى أن نحو 250 ألف شخص كانوا يدخلون إلى كندا كل عام كمهاجرين. واليوم نسبة 50 في المئة من سكان كندا مولودون خارجها. وخلال عام 2022 أدخلت كندا 400 ألف مهاجر وتخطط لاستقبال 500 ألف مهاجر آخرين. لكن نسبة 15 في المئة تغادر وهو رقم كبير لأن كندا لم تعد اختياراً مثالياً كوجهة للهجرة لأسباب متعددة سواء للبنانيين أو لشعوب أخرى. علماً أن من يعجزون عن التأقلم في كندا قد لا يعودون إلى لبنان بل إلى بلاد أخرى كالخليج أو دول أخرى. ويضاف إلى ذلك أن الهجرة العكسية حصلت لأن الوضع اليوم في لبنان أفضل بكثير من تلك الفترة التي هاجر فيها كثر من اللبنانيين. وتسجل حالياً ظاهرة هجرة عكسية كبيرة في مختلف القطاعات من أطباء ومهندسين وأساتذة جامعات لأن الأوضاع تبدو أفضل في لبنان، وإن لم تكن مثالية بالمقارنة مع مرحلة ما قبل الأزمة.