سنطرح موضوع الفدرالية سريعاً في مقالنا و فائدتها الأساسية على التركيبة اللبنانية بوضعها الحالي و كم هي صيغة توحيدية لا تقسيمية كما يشيّع بعض الفارغين أو الخبثاء في مواجهة هذا الطرح .
في كل العالم هنالك دول تتكون بشكل أساسي من مجموعات متناقضة فكرياً و تلك المجتمعات يحلو للبعض تسميتها بالتعددية فما هي هذه التعددية ؟
التعددية هي تجمّع شعوب مختلفة فكريا أو اتنياً أو دينياً أو عرقياً الخ .. في أرض واحدة و ضمن كيانٍ واحد و اضطرارها للتعايش مع بعضها رغم كل الإختلافات فيما بينها و التي تكون أحياناً عميقة جداً و لها جذور تاريخية خاصة عندما تتشكل هذه البلدان من مجموعات دينية بشكل أساسي كما هو الحال عندنا في لبنان .
هذه التعددية تتطلب تلقائياً صيغة معقدة نوعاً ما للتوفيق بين تلك المكونات و لمحاولة إما إيجاد قواسم مشتركة بين بعضها أو تنظيم الإختلاف الموجود و المستعصي على الحل بطريقة منهجية و علمية بحيث يتم الفصل بين مواطني تلك البلدان على ما يختلفون عليه و الجمع بينهم على ما يتفقون و هذا ما يتطلب توزيعاً دقيقاً للسلطة على أساس ديمغرافي بالدرجة الأولى تجنباً للصراعات و الحروب و الأزمات الدائمة كما يحصل عندنا .
هذا هو الوضع اللبناني تحديداً ، فبالأساس شكّل الكيان اللبناني ملجأً لأقليات مضطهدة في مكان ما من هذا الشرق المتوتر فأتت اليه لتنعم ببعض الحرية و الهدوء و هرباً من سطوة قوى معينة لا تعترف بوجودها و حقها بالإختلاف ، و تباعاً دخلت الى هذه البقعة العديد من المجموعات على فترات زمنية طويلة .
هذا الدخول أتى بحسب الوضع السياسي لكل مجموعة في تلك الفترات التاريخية ، فمن كان مظلوماً هرب الى لبنان ليتحول لاحقاً بدوره الى ظالم و شمولي و بقي هنا و أبقى تلك الأفكار معه و هكذا دواليك ، من هنا رأينا تشكل الكيان اللبناني ، و ليس المجتمع ، لأن لبنان لا يتكون من مجتمع واحد بل عدة مجتمعات ، اذا من هنا رأينا تكون لبنان من المجموعات التي أتت اليه فكان على صورتها و طبعاً جزء من هذه المجموعات كان شمولياً بالأساس بعقيدته و نظرته للأمور لكن ظروفاً معينة نتيجة هزائم محددة في زمن ما اجبرته على الهجرة الى أرض أخرى فجاء بأفكاره معه الى هنا .
من هذا المنطلق تحديداً بدأت معانات لبنان ، فليس صحيحاً أن كل المجموعات اللبنانية هي مجموعات شمولية بشكل أو بآخر و لا تتقبل الإختلاف لا بل العكس ، تاريخياً سكنت لبنان مجموعات منفتحة جداً تقبلت الآخر برحابة صدر و اسنقبلته دون النظر الى خلفياته الفكرية المتزمتة .
ما جرى أن بعض تلك المجموعات حاولت و مع الوقت و نتيجة نظرتها العقائدية قضم تلك الأرض و محاولة السيطرة كلياً عليها و طبعاً هذا القضم و الإلغاء لن يحصل إلا بإضعاف المجموعات الأخرى التي نسميها اليوم ليبيرالية ، و هذا ما يجري تحديداً في لبنان في هذا الزمن و هو في سياق الصراع المستمر عندنا منذ مئات السنين .
لن نستفيض بالشرح أكثر و لكن اردنا من خلال هذه النظرة الموجزة القاء الضوء على عمق المشكلة اللبنانية و هي الصراع الدائم بين مجموعتين ، واحدة منفتحة على التطور و التقدم الإنساني و العلمي و الثقافي و الحضاري و أخرى تريد العودة بنا الى عصور غابرة لم يعد ممكناً العودة اليها في زمننا هذا ، فلماذا الفدرالية و لما هي صيغة توحيدية لا تقسيمية ؟
أثبتت كل التجارب و في مختلف المراحل أن الخلاف بين المجموعات اللبنانية خلاف عميق ، جذوره ضاربة في التاريخ ، حتى نكاد نقول أن كل مجموعة لبنانية هي كيان قائم بذاته يملك كل مقومات الكيانات تقريباً ، فكل طائفة لديها مؤسساتها التربوية و الاقتصادية و الصحية و الإجتماعية الخ … و لديها نظمها و قوانينها الداخلية التي تتفوق على نظم الدولة المدنية و ما قواتين الأحوال الشخصية سوى خير شاهد على ذلك و ما سياسات الأوقاف و الدورة الاقتصادية الداخلية لكل طائفة المرتبطة بها سوى دليل آخر على ما نقول .
هذه المجموعات لا تختلف فيما بينها اختلافاً صغيراً و سطحياً هي تتناقض فيما بينها لحد الإختلاف الكلي تقريباً ، من نمط الحياة الى المناهج الدراسية الى ارتباطاتها الفكرية و الثقافية بأبعادها الإقليمية و الدولية الى كل شيء و هذا معروف في لبنان ، فكل طائفة لديها علاقاتها الخاصة مع الخارج و التي تكون نقيضة لعلاقات الطائفة الأخرى غالباً و هذا ما يستجلب علينا كل المشاكل و هو ما يحلو للبعض تسميته صراع الآخرين على أرضنا ، هو ليس صراع الآخرين ، هو صراع هؤلاء الآخرين بعد تحولهم الى جزء من النسيج اللبناني مع آخرين أيضاً مرتبطين عضوياً بآخر ما خارجاً بعد تحولهم أيضاً الى جزء من النسيج اللبناني في مرحلة تاريخية ما .
لنوضح الفكرة أكثر ، بعض المجموعات اللبنانية هي ليست مجموعات لبنانية متحالفة مع خارج ما ، هي مجموعات تعتبر نفسها امتداداً طبيعيا لهذا الخارج في الداخل اللبناني ، فارتباطها بهذا الخارج يعتبر عضوياً و طبيعيا بسبب رابط الدين الذي أثبتت الأحداث أنه أقوى من كل الروابط الأخرى في زمننا و منذ ظهور الأديان .
هذا التناقض الكلي بين المجموعات اللبنانية دفعها الى التناحر الدائم و الصراع المستمر على السيطرة و النفوذ ، إما خوفاً من الآخر عند البعض لحماية نفسه من الشموليين و إما حباً بالسيطرة عند آخرين ، تلك السيطرة التي تمر حتماً بإلغاء الآخر المختلف ، و من هنا رأينا تلك الكمية الضخمة من الأزمات المستمرة منذ عشرات السنين و التي لا تنتهي ، من التغير الدائم لجغرافية الكيان الى إشكاليات الدساتير و القوانين و تفسيراتها المتضاربة كل حسب أهوائه الى ما سمي بالهيمنة المارونية الناتجة أصلاً من الخوف على المصير وسط هذا البحر الشمولي الكبير الى ما تشهده هذه الأيام من ضرب لركائز الدولة العميقة في لبنان تمهيداً لإزالتها نهائيا من الوجود .
هذا الصراع سيستمر و لن ينتهي ببعض الصفقات الجانبية كما يظن بعض البسطاء أو بتبويس اللحى و العواطف الكاذبة و الفارغة كما يعتقد بعض الوصوليين و الإقطاعيين و هو حتماً لن ينتهي أيضاً بسيطرة مجموعة على أخرى و و فرض مشيئتها على الجميع و دروس التاريخ خير شاهد على ذلك .
النتيجة الوحيدة و المباشرة لهذا الصراع هي ما نشهده حالياً ، تعطيل شامل كامل لكل شيء ، شلل و جمود مدمّر و قاتل دون أفق أو بصيص أمل بمستقبلٍ ما للبنان ، لقد استنزف هذا الخلاف المستعر الكيان اللبناني حتى أوصله الى الأبواب الموصدة و الحائط السميك المسدود فما العمل ؟
ان اراد اللبنانيون انقاذ انفسهم من مأزقهم اليوم هم أمام خيار من اثنين لا ثالث لهما :
إما الطلاق و الإنفصال بعد العجز عن العيش معاً مع ما يستتبعه ذلك من تقسيم جغرافي و ظهور كيانات أصغر من رحم الكيان اللبناني أو إيجاد صيغة بإمكانها تنظيم خلافاتهم الدائمة بشكل حاسم ، نهائي و علمي .
من هذا المنطلق تكون الفدرالية صيغة موحِدة لا مفتّتة ، تمنع لبنان من التمزق و التحول الى كيانات صغرى ضعيفة و متناحرة ، فالفدرالية أقله ستحافظ على دولة واحدة لها جيش واحد انما مركبة على الصعيد الإجتماعي كما هو حاصل في أغلب المجتمعات المتعددة الحضارية .
ربما لن تحلّ الفدرالية كل المشاكل ، خاصة مشكلة العلاقات الخارجية و الارتباط العضوي لبعض المجموعات اللبنانية بخارجٍ ما لكنها حتماً ستبقي على لبنان الواحد أملاً بإيجاد الحلول اللازمة لكل الأزمات لاحقاً و هذا بحد ذاته انجاز بدل الانجرار الى التفتت و انهيار الكيان لصالح كيانات مضعضعة تائهة و غير قابلة للحياة فيخسر الجميع و تسقط الهوية و يندثر لبنان فتندثر معه تقريباً كل مجموعاته المتناحرة و المتعبة و الى الأبد .
الفرصة اليوم هي لبناء صيغة جدية قابلة للحياة تنبثق من واقع المجتمعات اللبنانية كما هو بعكس الصيغة الفوقية المفروضة عليهم ، الفرصة اليوم هي للتوحيد على أساس منطقي و علمي قبل تفتت الكيان فهل من عقلاء في لبنان سيستجيبون ؟ على كل طارحي الفدرالية أن يستمروا بطرحها و عليهم إعلاء أصواتهم أكثر و السعي الجدي لإقناع الجميع بها ، فالبديل مجهول ، مدمر و مخيف .