لم أجد في أبيات الشعر ما يعبّر عن واقع ثورة الرابع عشر من آذار مثل بيت قصيد بشارة الخوري في تلك القصيدة القصيرة الرائعة التي غنّتها فيروز. فيوم الرابع عشر من آذار سنة 2005 كان يوم الفرح العظيم النابع من عمق الحزن والمأساة، هو يوم الأمل المتفجّر من صخرة اليأس المزمن، وهو يوم الحياة التي ولدت من رحم الموت، طائر الفينيق الذي ولد من رماده. هو كل ذلك وأكثر، فمن عاش مثلي، ومثل مئات آلاف اللبنانيين لحظة الفرح العظيم، البشارة العظمى بالقيامة من غفوة الحياة التي هي أشبه بالموت، يعرف معنى تلك اللحظة، وتلك الأيام العظيمة التي اختلطت فيها دموع الحزن مع فرح الأمل. لكننا عدنا إلى الواقع كعاشق خطّ سطراً في الهوى ومحا. خفنا من حريتنا التي وعدتنا بمواطنة، فلجأنا إلى قواقعنا التقليدية، الطائفية، المذهبية، الحزبية، المناطقية… ولم نخرج من بداوتنا المقيتة، وعدنا وأسرنا أنفسنا في قبيلة من قبائلنا الطائفية التي لا تتقن سوى فنّ السطو والغزو والسلبطة على القبائل الأخرى. ولا تعرف أي واحدة منها كيف تبني أو تنجز شيئاً نافعاً، لا لها ولا للبلد، حتى تتوقف عن السطو والغزوات.
نعم لقد تمكّن يوم الرابع عشر من آذار من تحقيق ما كان مستحيلاً، فقد خرج نظام الأسد بعد تسع وعشرين سنة من الاحتلال. لكننا أغفلنا حقيقة الأمر، وهو أنّ هذا الاحتلال تمّ تبديله باحتلال إيراني مقنّع بعناصر محلية. لقد بدأ مسلسل تدمير الرابع عشر من آذار في اليوم الذي توهّم قادة قوى الرابع عشر من آذار بأنّه من الممكن لبننة «حزب الله»، كما أنّ السقطة الثانية كانت بتبرئة «الحزب» من اغتيال رفيق الحريري، هذا مع العلم أنّ القاصي والداني كان يعلم أنّه من المستحيل قيام أي جهاز مخابرات بعملية بهذا الحجم من دون علم مخابرات «الحزب». في التحالف الرباعي تمكّن «حزب الله» من الاستحصال على مربحيْن كبيرين، الأول كان فترة من الزمن لاستعادة أنفاسه وبناء خططه للمرحلة التالية، الثانية والأهم كانت تقسيم جمهور الرابع عشر من آذار، وبالأخص المسيحي منه، عندما اندفع الجنرال ميشال عون ليرمي نفسه وتياره وجمهوره في حضن «الحزب».
كل ذلك كان، وكانت قيادات ونواب وأمنيون يتعرّضون لعمليات اغتيال منظمة أنهكت قوى الرابع عشر من آذار حتى وصلنا إلى غزوة بيروت التي عرض فيها «الحزب» عضلاته وأكد قدراته على هزيمة سريعة لأي نوع من المقاومة المسلّحة. هذه الغزوة أنتجت اتفاق الدوحة، ومن بعدها خسرت ثورة 14 آذار اندفاعتها بعد أن قبل قادتها بمبدأ أنّ العين لا تقاوم المخرز. ذهب بعدها كل واحد منهم إلى ملجأ للأمان في تسويات جانبية، بحجّة تجنّب «الحرب الأهلية» أو «ردع الفتنة الطائفية» أو شعارات مماثلة عبّرت فقط عن ضيق الأفق وعدم القدرة على الصبر والمواجهة. آثر قادة 14 آذار المشاركة الوهمية في السلطة، بالرغم من ربح الانتخابات، وقبلوا بمنح قدرة تعطيل مسار السلطة إلى «الحزب» وحلفائه، بالرغم من القناعة أنّ الأمر سيُستخدم للتعسّف وتعطيل مسار الحكم، إلا إذا لُبّيت رغبات «الحزب». من بعد ذلك أدرك «الحزب» وحلفاؤه أنهم قادرون على فعل ما يريدون متجاهلين ردّات الفعل الضئيلة التأثير والمؤقتة في أحسن الأحوال. هذا ما أسقط حكومة سعد الحريري وشرّع الباب إلى تجاوز الأكثرية والأقلية، وجعل من إعلان بعبدا حبراً على ورق، فاستباح «الحزب» الحدود وأدخل لبنان في صراع متشابك، غطاؤه كان مواجهة الإرهاب، وحقيقته ما زالت بسط سيطرة ولاية الفقيه على عواصم عربية جديدة. كما استمرّ «الحزب» في اغتيال وترهيب كل رموز 14 آذار، ونجح في تطويع كل من سعى إلى السلامة، أو إلى دور في السلطة.
سقطت أيضاً قيادات 14 آذار عندما عُقد اتفاق معراب ببنوده السرّية المستندة إلى حصص السلطة وخانت رفاق الأمس، فنسيت مسألة السيادة ودور «حزب الله» والسلاح غير الشرعي، وسقطت لاحقاً عندما ظنّ البعض الآخر أنّه يمكنه إنشاء حلف مماثل بخيانة رفاق الأمس واستفرادهم وتهميشهم في السلطة ومغانمها. لكن، فوق كل ذلك، سقطت فكرة 14 آذار منذ البداية عندما لم تحمل الشعارات الأولى لثورة 17 تشرين وتسبقها إليها منذ آذار 2005. ففشلت لاحقاً باستلحاق ذاتها بعد أن تلوّثت معظم قياداتها بفساد السلطة.
ما ندفعه اليوم هو نتيجة منطقية لفشل قيادات 14 آذار في خلق دينامية ثورية كان بإمكانها جمع 14 آذار و17 تشرين منذ البداية، وبالتالي فإنّ الثورتين سقطتا بسبب الاستفراد وعدم الوصول إلى أرضيات مشتركة.