في صمت عاشوا معاناتهم، كتموا آلامهم، لكن عزيمتهم لم تنكسر، وإرادتهم ظلت عصيّة على الانحناء.. إنهم مسيحيو الشريط الحدودي الجنوبي في لبنان، الذين لطالما فُرِض عليهم دفع ثمن فاتورة حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
مع اندلاع حرب غزة، انتزع قرار الحرب والسلم من يد السلطة اللبنانية مرة أخرى، لتواجه قرى الشريط الحدودي المسيحية من جديد سحب النيران الداكنة، ومع تصعيد العمليات العسكرية، يجد أبناء تلك القرى أنفسهم في مواجهة مع المخاطر التي أثقلت كاهلهم.
وللشهر الثامن على التوالي وعيون من تبقى من أهالي هذه القرى مشرّعة على مصراعيها، خوفاً من قذائف تباغتهم أو انفجارات تهزّ أركان حياتهم، في ظل تعقيدات المشهد وغرق المنطقة في المزيد من الضبابية.
يضاف إلى قلقهم الأمني، معاناة معيشية تزداد حدّة يوماً بعد يوم، فمع تقطّع سبل العيش وتراجع النشاطات الاقتصادية، تصبح إمكانية تلبية احتياجاتهم الأساسية تحدّياً كبيراً.
القوزح.. إصابة في الصميم
من رحم التاريخ، تروى حكاية القوزح، قرية لبنانية عتيقة، عمرها ألف عام، حفرت آثارها الرومانية ذاكرة المكان، ونسج أهلها خيوط الحياة ببساطة وكرم.
ومنذ اندلاع المعارك بين حزب الله وإسرائيل، حيث القصف متواصل على البلدات المجاورة لهذه القرية لاسيما على بيت ليف، نزح أهلها، تاركين وراءهم صدى ضحكاتهم في الأزقة، وعبق ذكرياتهم في البيوت الحجرية، وآثاراً صامتة، وحقولاً خضراء.
لم يبق في هذه القرية، كما يقول مختارها السابق متى نجم “سوى تيريز ونزهة، الشقيقتان الطاعنتان في السن، تحرسان إرث العائلة، وذاكرة والدهما الراحل الخوري بطرس نجم”.
أغلبية أهالي القرية بحسب ما يقوله نجم لموقع “الحرة” “مهاجرون بين أميركا وكندا وأستراليا، حيث كان يسكن فيها حوالي ألف نسمة، وقبل اندلاع المعارك بين حزب الله وإسرائيل كان عدد سكانها نحو 150 نسمة نزحوا تباعاً، ومؤخراً عادت أربع عائلات، لعلّها تحيي روح المكان الذي يشتهر بمناخه الجميل وآثاره وكرم أهله، ولكن، قبل أيام قليلة، فُتحت جراح جديدة في قلب القوزح، عندما تعرّضت الحارة القديمة فيها للقصف”.
الحارة القديمة، شريان تاريخ القوزح، وذاكرة أجيالها، تكبّدت خسائر فادحة، وفقاً لما يقوله نجم “فقد تهدّم قسم كبير من بيوتها العتيقة، تلك البيوت التي عمرها 200 سنة، لكن مهما حصل سنعيد ترميمها لتبقى حكاية تروى للأجيال القادمة عن حبنا العميق لهذه الحارة التي نعتبرها رمزاً لتراثنا وحضارتنا العريقة”.
ويشدد على أن “الدمار الذي طال قرى الشريط الحدودي المسيحية لا يذكر مقارنة بما طال القرى الشيعية، حيث المشهد فيها يفطر القلب، وفعلاً حزننا كبير على ما آل بجيراننا الذين تربطنا بهم علاقات تاريخية، أُسسها المحبة وتبادل الأفراح والأتراح”.
يزور متى بلدته بين الحين والآخر، لكنه لم يعد يبيت فيها، فقلبه معلّق هناك، وجزء من روحه سكن تلك الأزقة الضيقة، ويقول “رحلت عائلات القوزح تاركة حقول التبغ والزيتون تئنّ حزناً، فلم تُقطف ثمار الزيتون العام الماضي، ولم يزرع تبغ هذا العام. توجه البعض إلى بيروت، بحثاً عن الأمان، بينما لجأ آخرون إلى دير في رميش، أو استقروا عند أقاربهم هناك، كل ذلك نتيجة صراعات يمكن أن تحل بعيداً عن لغة النار”.
يناجي نجم بلدة القوزح، داعياً لها بالحفظ والسلام، متمنياً عودته وأبنائها عما قريب، لتعود الحياة تنبض في شوارعها، وتزهر حقولها من جديد.
عين إبل.. والظلال القاتمة
في قلب بنت جبيل، تقف بلدة عين إبل شامخة، رافعة راية الصمود في وجه عواصف الحرب العاتية. لم تقصف البلدة حتى الآن، لكن أصوات القصف تتردد في أرجائها من القرى المجاورة والأحراج المحيطة بها.
يحذّر رئيس بلديتها، عماد اللوس، من أن عين إبل، مثل باقي القرى المجاورة، تعيش في حالة حرب تحيط بها من كل جانب، وتلقي بظلالها القاتمة على حياة الأهالي.
عين إبل، تلك البلدة الساحرة التي تبعد عن الحدود حوالي 6 كيلومترات، كانت قبل اندلاع المعارك بين حزب الله وإسرائيل تتحول في فصل الصيف إلى واحة حياة نابضة بالحركة، فمع قدوم المغتربين والمصطافين، يرتفع عدد سكانها من 1500 نسمة في الشتاء إلى حوالي 4000 نسمة.
اليوم، كما يقول اللوس لموقع “الحرة”، “يخيم شبح النزوح على القرية، حيث غادر نصف سكانها بيوتهم بحثاً عن الأمان بعيداً عن أصوات القصف ومشاهد الدمار، لا سيما من يملكون منازل في العاصمة، وأولئك الذين تسمح لهم أحوالهم المادية باستئجار منزل، ومن لم يستطيعوا الرحيل، يواجهون قسوة الأيام بقلوب صامدة وعزائم لا تقهر”.
نزوح الأهالي لا ينفي أنهم متمسكون بأرضهم ومنازلهم، فهم ليسوا مجرّد قاطنين، بل هم روّاد هذه الأرض، وصنّاع تاريخها، وحماة حاضرها، فإن غادرها بعضهم لحين أن تضع الحرب أوزارها إلا أنهم سيعودون إليها حتماً، فهم يدركون أن هذه الأرض وطنهم، وهم بالتأكيد غير راضين عن هذه الحرب.
ويهدّد النزوح الجماعي الحالي مستقبل الأجيال القادمة، خاصة مع إغلاق مدرسة عين إبل النموذجية لراهبات القلبين الأقدسين، التي تضم تلاميذ من كل القرى التي حولها، ولفت اللوس إلى أنه “أكثر من نصف التلاميذ من الطائفة الشيعية والبقية من عين إبل ورميش. مئات الطلاب يتابعون دروسهم عبر الإنترنت، كحلّ مؤقت لا يغني عن الحاجة الماسة للعودة إلى المقاعد الدراسية”.
لم تقو أصوات القذائف والصواريخ على إسكات أجراس كنائس البلدة التي لا تزال تقرع كأنها لحن يقاوم صخب الحرب، كما ما زالت القداديس قائمة على إيقاع القصف الذي يتصاعد بوتيرة يوميّة.
وخلال الأعياد تقام الاحتفالات، في تحدّ للظروف القاسية، ويشير اللوس إلى أن ” ثلثي أهالي البلدة من الموارنة والبقية من الكاثوليك”.
تعرف البلدة وفقاً لما يقوله اللوس “بطابعها السياحي، حيث تنتشر فيها المطاعم والفنادق، كما يمارس سكانها عدداً من المهن، مثل النجارة والحدادة”.
يخشى أهالي عين إبل، بحسب اللوس، من خطر توسع المعارك، ويقول “كل الدلائل تشير إلى أن الصراع قد يتفاقم، وأن تداعياته ستكون وخيمة، وفي ظل الظروف الصعبة مدت يد الدعم والمساندة لأبناء البلدة من جهات مسيحية ومجلس الجنوب وجمعيات غير حكومية”.
وفي قلب عين إبل، حيث تنسج خيوط الإيمان مع خيوط التاريخ، ينتظر مشروع ضخم وضع اللمسات الأخيرة عليه، إنه مزار “أمّ النور”، ويشرح رئيس البلدية “هذا المزار، الذي سيصبح أعلى برج للسيدة مريم العذراء في لبنان، أكثر من مجرّد مبنى حجري، فهو شعلة تضيء دروب أبناء بنت جبيل ولبنان”.
وصل العمل في مشروع المزار إلى مراحله الأخيرة، “فقد تم الانتهاء من بناء البرج الذي يبلغ ارتفاعه 62 متراً، بينما يقف التمثال الضخم للسيدة مريم العذراء جاهزاً بانتظار أن يوضع على قمته، بارتفاع يبلغ 14 متراً. ولكن، الظروف الحالية تحول دون إتمام هذا المعلم الديني”.
دبل.. فرار من الجحيم
في حضن الجنوب، حيث تتراقص أشجار الزيتون على نسمات الهواء العليل، تقع بلدة، دبل، التحفة الفنية التي رسمت بألوان الأخضر والذهب، والمعروفة بهدوئها، الذي كسرته وطأة القصف الذي يعصف بمحيطها وعلى أطرافها.
تحاول دبل الذي يعود اسمها الى الآرامية السريانية، وتعني التين المجفف، التي يسكنها حوالي 560 عائلة، أي ما يعادل حوالي 3500 نسمة، الإبقاء على شعلة الحياة فيها متّقدة، رغم صعوبة الأمر في ظل ما يدور في البلدات المجاورة لها.
فمنذ بداية الأحداث، نزح 80% من أهالي البلدة، وفقاً لتصريحات رئيس بلديتها السابق، إيلي لوقا، “تاركين وراءهم منازلهم وأرزاقهم، بحثاً عن الأمان في أحضان العاصمة، ظنوا بداية أن عودتهم ستكون قريبة، لكن الأيام تحوّلت إلى أسابيع، والأسابيع إلى أشهر، ليدركوا أن رحلة النزوح قد تطول”.
بين بيروت وبلدته، يتنقل لوقا وعائلته، حاملين في قلوبهم حبّاً لبلدتهم لا يوصف، ويقول “بقيت 320 عائلة صامدة في القرية، فنحن ولدنا وترعرعنا على وقع أصوات المعارك، والآن يجبر من بقي في البلدة على العيش ذات المشهد”.
وفي هذه البلدة، تشكل الطائفة المارونية النسيج الأساسي للمجتمع، يتكاتف أبناؤها، يدعمون بعضهم البعض، يشاركون همومهم وأفراحهم، ويواجهون التحديات بروح واحدة.
ويقول لوقا “نحاول قدر الإمكان توفير المساعدات الغذائية لمن تبقى في البلدة، لكن في ظل الوضع الحالي، انخفضت مساعدات الجمعيات بسبب العدد الكبير للبلدات التي تحتاج إلى المساعدة.”
دبل المعروفة بزراعة التبغ والزيتون كمصدر رئيسي للدخل، أوقفت المعارك نشاطها، وأدت إلى تدهور الأراضي وفقدان الأشجار لخضرتها، ويقول لوقا “بدأ حوالي 5 في المئة من سكان البلدة في الآونة الأخيرة، بزراعة الخضراوات في خيام بلاستيكية، مما فتح أفقاً جديداً أمامهم وساعدهم على تأمين دخل بديل وتلبية احتياجاتهم من الخضراوات، كما أن 80% من شباب البلدة اختاروا الانضمام إلى مؤسسات الدولة العسكرية”.
مدرستان تشكلان نواة العلم والمعرفة في البلدة، “مدرسة رسمية، ومدرسة الراهبات الأنطونيات، وقد طالتهما شظايا الحرب، حيث أغلقتا أبوابهما، ليتلقى تلاميذهما دروسهم عبر الإنترنت”.
ورغم كل الصعوبات، يحافظ سكان دبل على ممارسة شعائرهم الدينية، ويشرح لوقا “تزيّن دبل كنيستان لمار جرجس، إحداهما أثرية تم بناؤها عام 1720 كانت أول ما لجأ أهالي البلدة لها واستوطنوا وعمّروا فيها وقد تم ترميمها منذ حوالي 30 سنة، والثانية تم بناؤها قبل حوالي 60 عاماً”.
وتتميّز دبل “بوجود منطقة حزور، التي تضمّ مغارة أثرية يعتقد أنّ السيد المسيح والسيدة مريم العذراء قد مرّا وناما ليلة فيها عندما كانا متوجهين للتبشير في منطقة قانا وصور حسب ما يخبر الكهنة”.
ويقول لوقا “لدينا كذلك مزاران في البلدة للسيدة مريم العذراء، مزار في حزور تسمى الطريق المؤدية إليه، على خطى المسيح، وآخر في منتصف البلدة، كما تضم البلدة العديد من المغارات الأثرية، إضافة إلى بقايا قصور الأميرات التي مازالت تعرف باسمهن، كقصر ايمه وقصر جيني وغيرها من المعالم الأثرية”.
تعيش دبل كلّ يوم بيومه، معتمدة على إيمانها وصمودها. ففي كل صباح، يشرق بحسب لوقا “شعاع أمل جديد يضيء دروب هذه البلدة الصامدة”.
رميش.. صرخة في وجه الخطر
في مارس الماضي، هبّت رياح التوتر على بلدة رميش الحدودية، بعد محاولة عناصر من حزب الله نصب منصّة صواريخ بين منازل البلدة المكتظة.
لم يقف أحد أبناء رميش مكتوف الأيدي أمام هذا المشهد المروّع، فخرج معبّراً عن رفضه القاطع، ليُواجه بإطلاق نار من قبل عناصر الحزب، فخرج أهالي رميش (يسكنها نحو 6500 شخص) وقرعوا أجراس كنائسهم، معلنين رفضهم لتحويل بلدتهم إلى ساحة حرب تهدد أرواحهم وممتلكاتهم.
ولم تقتصر صرخة رميش على حدود البلدة، بل تجاوزتها لتلامس قلوب اللبنانيين في كافة أنحاء الوطن، حيث عبّر سياسيون ومواطنون على مواقع التواصل الاجتماعي عن تضامنهم مع رميش، مستنكرين محاولة تحويلها إلى خندق في معركة لا علاقة لها فيها.
رميش البلدة التي تنشد السلام ويناضل أهلها من أجل حياة كريمة، تقاوم ببسالة خوفاً من أن تصبح ضحية لصراعات حزب الله ومسرحاً لمعاركه وحروبه.
يتحدث رئيس المركز الكاثوليكي للإعلام، عبدو أبو كسم عن واقع القرى المسيحية على الشريط الحدودي في جنوب لبنان، مؤكداً على أنها جزء لا يتجزأ من هوية المنطقة، وأنها تعاني من تبعات الأحداث الجارية بشكل كبير.
يشير أبو كسم في حديث لموقع “الحرة” إلى أن هذه القرى شهدت نزوحاً كبيراً نحو بيروت، مما أدى إلى إغلاق المدارس، وخلق حالة من القلق الشديد بين أهالها.
ولكنّه يؤكد في الوقت ذاته على أن الكنيسة الكاثوليكية حاضرة بقوة في هذه القرى، “من خلال الآباء الكهنة الذين لم يتركوا رعاياهم وساهموا في تقديم الخدمات الروحية والإنسانية والاجتماعية لهم”.
ويشير إلى أن السفير البابوي زار هذه القرى أكثر من 4 مرات، كما أن مطران الأبرشية يعمل قدر المستطاع في دعم صمود أهالها وبقائهم في أرضهم، وكذلك بعض المؤسسات المسيحية وغير المسيحية.
وكشف أبو كسم عن تحضير المركز الكاثوليكي مع جمعية نورج لمؤتمر في 21 من الشهر الجاري سيشارك فيه 12 رئيس بلدية “بهدف توضيح هواجسهم ومتطلباتهم”.
وتشهد الحدود اللبنانية اشتباكات وقصف متبادل بين حزب الله والجيش الإسرائيلي، على خلفية إعلان حزب الله التصعيد العسكري على إسرائيل منذ اليوم التالي للهجوم غير المسبوق الذي شنته حركة حماس في السابع من أكتوبر.
ويعلن حزب الله استهداف مواقع وأجهزة تجسس وتجمعات عسكرية إسرائيلية دعما لغزة و”إسنادا لمقاومتها”، فيما يرد الجيش الإسرائيلي بقصف جوي ومدفعي يقول إنه يستهدف “بنى تحتية” للحزب وتحركات مسلحين قرب الحدود.