ويستند التعميم إلى الدراسات ذات الصلة التي تقوم بها وزارة البيئة والجامعات اللبنانية وآخرها من قبل الجامعة الأميركية في بيروت والتي أظهرت التأثيرات السلبية للمولدات الكهربائية على الصحة والبيئة، والمقدر عددها بالآلاف حيث يوجد 9 آلاف مولد في بيروت الإدارية وحدها.
ويأتي هذا التعميم في إطار التذكير بالقرار 16/1 الصادر عن ياسين في فبراير 2022، كما يقول رئيس قسم الكيمياء في كلية العلوم في جامعة القديس يوسف، الخبير في تلوث الهواء، البروفيسور شربل عفيف، وهو يلزم أصحاب المولدات الكهربائية معالجة دخان العوادم بشكل فوري عبر تزويد عادم المولد بنظام فعّال وأكثر كفاءة يمكنه إزالة حتى الجزيئات الدقيقة، إضافة إلى تحديد شروط الحد الأدنى لارتفاع العادم، مع فرض الصيانة الدورية، وهو يسري على جميع المحركات الترددية تحت طائلة إيقاف المولدات المخالفة، كما يلزمهم استخدام فلتر سُخام لجسيمات الديزل للمولدات ذات الطاقة الحرارية التي تفوق 200 كيلوواط.
يذكر أن المولدات الخاصة تنتشر في الأحياء اللبنانية بطريقة عشوائية في ظلّ التقنين الكبير في التغذية الكهربائية، فمنذ سنوات طويلة لم يجد اللبنانيون سبيلاً لمواجهة العتمة إلا من خلال الاشتراك بهذه المولدات، قبل أن يتوجه عدد منهم إلى خيار ألواح الطاقة الشمسية لاسيما بعد رفع الدعم عن استيراد المحروقات وما استتبعه من ارتفاع فاتورة المولدات التي تجاوزت الحد الأدنى للأجور بأضعاف.
وأزمة الكهرباء ليست حديثة في لبنان، إلا أنها تفاقمت في السنوات الأخيرة، وهي من الأسباب الرئيسية للانهيار الاقتصادي والمالي الذي وصل إليه البلد، إذ بحسب البنك الدولي ما يقارب من نصف الدين العام اللبناني أي حوالي 40 مليار دولار يعود إلى هذا قطاع.
وبعد أن كانت المولدات غير شرعية قبل عام 2011 تمت قوننتها بسبب الحاجة إليها في ظل تراجع إنتاج مؤسسة كهرباء لبنان للتيار، وذلك بموجب قرار لمجلس الوزراء ضبط من خلاله تسعيرة المولدات لتبدأ وزارة الطاقة بتحديدها شهرياً.
خطر سريع الانتشار
لم يفاجئ تعميم وزير البيئة أصحاب المولدات، ففي شهر مايو الماضي أكد أنه بصدد إعداده لضبط الانبعاثات، وذلك خلال ورشة عمل نظمتها وزارة البيئة اللبنانية بالتعاون مع مؤسسة “هانز زايدل”، تحت عنوان “تلوث الهواء، القاتل الصامت الأول في لبنان”.
دراسات عدة أعدت حول خطورة انبعاثات المولدات الكهربائية، كما يؤكد عفيف لموقع “الحرة”، شارحاً “خلصت دراسات أجرتها الجامعة اليسوعية منذ عام 2015 وآخرها كانت العام الماضي، إلى أن الملوثات الصادرة عن المولدات لاسيما في العاصمة اللبنانية، خطيرة من حيث كميتها ونوعيتها، فبعضها سام جداً، وبعضها الآخر عبارة عن جسيمات لا ترى بالعين المجردة، إذ يقل حجمها عن 2,5 ميكرو ميتر، وهي تحتوي على مركبات ضارة، منها العضوية العطرية والديوكسين، عند استنشاقها تدخل إلى الرئتين ومنها تنتقل إلى الدورة الدموية فباقي أعضاء الجسم، حيث يمكن أن تتسبب في ظهور أمراض خطيرة ومميتة كالسرطان”.
يمكن للجسيمات المنبعثة من احتراق الديزل الانتشار على مسافات بعيدة، كما يشير عفيف “لذلك فإن تطبيق تعميم وزير البيئة الذي أتى استتباعاً للقرار 16/1 أمر لا بد منه” ويضيف “سيتم تطبيق القرار على مرحلتين، الأولى إلزام أصحاب المولدات تركيب فلتر للغازات المنبعثة من العادم وللجسيمات الدقيقة، مع رفع العادم إلى مسافة محددة تفوق الأبنية المحيطة بالمولد على أن يكون عامودياً وغير مغلق، أما المرحلة الثانية فتنص إضافة إلى ذلك على خفض الحدود القصوى بنسبة كبيرة للملوثات المنبعثة”.
وعن مدى قدرة الفلاتر على الحد من التلوث، يجيب عفيف “هناك أنواع عدة منها تختلف بحسب نوع الملوثات، وبحسب قرار وزير البيئة يجب أن تكون فعالية الفلتر في المولدات الصغيرة على الأقل 30 في المئة أما في المولدات الكبيرة فإن الفعالية يجب أن تكون بالحد الأدنى 70 في المئة”، وذلك لحماية نوعيّة الهواء وفقاً لقانون حماية نوعية الهواء لعام 2018 وتنفيذاً للاستراتيجية الوطنية لإدارة نوعية الهواء المحيط عام 2020، وقرار 16/1 تاريخ 2022 المتعلق بحماية نوعية الهواء في لبنان.
فوضى.. قاتلة
تنتشر المولدات في المدن والقرى والأحياء والمستشفيات والفنادق والمؤسسات، وتُشغّل لمدّة تتراوح بين 10 و15 ساعة يومياً، تاركة بصماتها السوداء على الشجر والجدران والطرق وفي كل مكان، كما يقول رئيس حزب البيئة العالمي، الدكتور دومط كامل “فالشعب اللبناني يتنشق السموم على مدار الساعة في عدد كبير من المدن والبلدات نتيجة الفوضى في قطاع يستفيد منه بعض الأشخاص على حساب صحة الناس، من دون أن ينفي ذلك أن هناك مناطق لا تزال تحافظ على هوائها النقي”.
كامل يشرح في حديث لموقع “الحرة” الكارثة التي تسببها المولدات لاسيما المتواجدة بالقرب من الأبنية السكنية، “حيث ينبعث منها كميات ضخمة من الملوثات المدمرة لصحة الانسان عدا عن تدميرها التربة والغطاء النباتي من جراء تسرب الوقود ورمي فضلات الزيوت”، مشيراً إلى أن ” تركيز الجسيمات في هواء بيروت يتخطى ما بين أربع إلى خمس مرات المعدل المحدد من قبل منظمة الصحة العالمية”.
تشتد خطورة آثار انبعاثات المولدات في المدن حيث الكتل الهوائية غير المتحركة بحسب كامل “كذلك الحال في القرى التي يعتمد سكانها على مولدات صغيرة يضعونها على الشرفات أو في مرآب السيارات، فيستنشق الأطفال والحوامل والعجز وكل الكائنات الحيّة سمومها، وقد كشفت دراسات عدة أجريناها إصابة عدد من المواطنين بأمراض سرطانية ووفاة بعضهم نتيجة ذلك”.
وفي اتصال مع موقع “الحرة” رفض رئيس تجمّع أصحاب المولدات الخاصة، عبدو سعادة، التعليق على تعميم وزير البيئة، معلناً أنه غادر التجمّع، في حين أكد عدد من أصحاب المولدات في القرى أنهم أطفأوا مولداتهم بعدما غزت ألواح الطاقة الشمسية لبنان، ومن لا يزال مستمراً في عمله في هذا القطاع شدد على استيفائه الشروط لاسيما لناحية تزويد المولدات بفلاتر للحد من الانبعاثات الضارة.
ويُواجه لبنان تحديات بيئية حادة، بحسب ما ذكر البنك الدولي “وقد بلغت التكلفة السنوية للتدهور البيئي عام 2018 حوالي 4.4 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي- أي ما يعادل نحو 2.39 دولار أميركي. ومنذ ذلك الحين، تفاقمت الأوضاع حيث شهدت البلاد تدهوراً شديداً في مستوى الخدمات العامة الأساسية، فضلا عن زيادة في مستويات التلوث، ومزيداً من الاستنزاف في الموارد الطبيعية”.
بين الثناء والتشكيك
تتسبب نسبة التلوث المرتفعة جداً في هواء المدن (والهواء الداخلي)، بحسب ما سبق أن أشار إليه وزير البيئة بأمراض قاتلة بمعدل شخص من كل 9 أشخاص، كاشفاً أن “الكلفة الصحية الناجمة عن تلوث الهواء تبلغ 900 مليون دولار سنويا”.
وبحسب طبيبة الصحة العامة، ميرنا الفتى، يؤدي تلوث الهواء الناجم عن تشغيل المولدات إلى أضرار صحية عدة، من أعراضها على المدى القصير كما تقول لموقع “الحرة” السعال وضيق التنفس والتهاب الجهاز التنفسي.
أما على المدى الطويل فقد تؤدي إلى “الإصابة بمختلف أنواع مرض السرطان، كون ترسبات الملوثات في الرئتين تجعل الدم حمضياً بدلاً من قلوي، إضافة إلى احتمال الإصابة بأمراض القلب، من دون أن ننسى تأثير التلوث الضوضائي على النواحي البدنية والنفسية والعصبية للمواطنين”.
يذكر أن لبنان سجل بحسب تقرير نشره “المرصد العالمي للسرطان” المنبثق عن منظمة الصحة العالمية في مارس 2021، 28,764 ألف إصابة بمرض السرطان خلال السنوات الخمس الأخيرة، بينهم 11600 حالة عام 2020.
وكانت “الوكالة الدولية لأبحاث السرطان” التابعة لمنظمة الصحة العالمية أشارت سنة 2018 إلى أن لبنان احتل المرتبة الأولى بين دول غربي آسيا، بعدد الإصابات قياساً بعدد السكان، وأن هناك 242 مصابا بالسرطان، بين كل 100 ألف لبناني.
في ظل فوضى قطاع المولدات، يعتبر قرار وتعميم وزير البيئة، بحسب عفيف، غاية في الأهمية، “كونهما يشكلان مرجعاً يمكن للسلطات المحلية أي البلديات الاستناد عليهما لتحرير محاضر ضبط بحق المخالفين للمعايير التي تم وضعها، كما أنهما يلزمان أصحاب المولدات على مراعاة المواصفات المطلوبة عند شراء مولدات جديدة”.
وفي يونيو من العام الماضي، أصدر محافظ مدينة بيروت القاضي مروان عبود بلاغاً فرض من خلاله على جميع أصحاب ومستثمري مولدات الكهرباء (خاص واشتراك) ضمن نطاق مدينة بيروت، المركزّة ضمن الأبنية السكنية أو خارجها، تزويد عادم المولد الكهربائي بنظام فعّال لمعالجة الملوثات الهوائية وإهراء مخروطي لالتقاط الجزئيات، والعمل على صيانة نظام معالجة الملوثات الهوائية بشكل مستمر ودائم مع الشركات المختصة وذلك لتأمين فعاليته والاحتراق الكامل للمشتقات النفطية، على أن يتم توصيل عادم المولد الكهربائي إلى أعلى البناء عند الإمكان، وذلك خلال مهلة شهرين من تاريخه تحت طائلة الملاحقة القانونية.
لكن كامل غير متفائل بالتزام أصحاب المولدات بالتعاميم والقرارات والبلاغات كون “أسعار الفلاتر مرتفعة وهي تحتاج إلى استبدال خلال فترة قصيرة، مع العلم أن قدرتها على الحد من الانبعاثات الضارة محدودة، فهي تخفّض كميتها من دون أن تلغيها”.
حياة اللبنانيين في خطر، كما يشدد كامل، لذلك “يجب وضع خطة عمل فوراً لكي تحل الطاقة البديلة ومعامل الكهرباء مكان دكاكين المولدات، وإلى حينه نحن على أتم الاستعداد لوضع خبرتنا لتنظيم هذا القطاع، أي تحديد الأماكن التي يسمح بوضع المولدات فيها بعد دراسة حركة التيارات الهوائية للحد من انتقال الانبعاثات الملوثة، ولالتزام أصحاب المولدات بالقرارات لا بد من استحداث ضابطة بيئية”.