بعلبك، بيت الدين، بيبلوس، الأرز، صور، القبيات وإهدن و… مهرجاناتٌ ليست كالمهرجانات، بل هي تاريخ من الفن والثقافة ارتقى معه لبنان إلى أدوار وألقاب، إلى «دُرة الشرقيْن» الذي كلما دارتْ عليه الأيام يَنهض في كل مَرةٍ من كبوته ويَخرج من قعرٍ سحيق ليعانقَ سحاباً ملّ طائر الفينيق «التنقّل» بينه وبين… الرماد.
هي مهرجانات رافقتْ لبنان في أجمل أيامه وكانت بصمةً مُشِعّةً في تلألئه كمنارة حضارية وسياحية في الشرق خبت جذوتها في أيامه السود لكنها لم تنطفئ يوماً بل بقيت شرارة كامنة تترقّب النسمة المؤاتية التي تعيد الروح إليها.
وصيف لبنان هذه السنة أكثر من نسمة… هو عاصفة من الناس والحماس والفرح والسياحة ألهبتْ حرارةَ المهرجانات وأشعلت مسارحها وأضواءها من جديد وكأن الوطن الصغير يرقص فوق جَمْرِ الأزمات التي بدا أنها صارت بـ… «كواتم صوت».
مهرجانات كبرى أطلقتْ برامجَها الدولية لهذا الصيف وأخرى ما زالت تنتظر انتهاء الترتيبات والمفاوضات والعقود لتعلن عن انطلاقتها. لكن الأسماء الكبيرة ليست وحدها على ساحة المهرجانات في هذا الصيف الواعد الذي يبلْسم جِراح لبنان ويشكل واحة استراحة في مسيرة نكباته المتسلسلة. فعدد كبير من القرى تتهيأ لمهرجات «على قدها» تضخّ حالة من الفرح في وتستقطب الزوار وتولّد حركة تجارية نشطة.
.. كأنه لبنان الأمس وقد عاد به الزمن الى أعوام ما قبل الانهيار الكبير، لبنان الذي تآلف مع التحديات وعرف كيف يروّضها، يستلّ سيف الفن والفرح والسياحة ليواجه به (أو ربما ليهرب عبره) كل مشاكله السياسية والمالية والاقتصادية والمعيشية.
قبل أيام، احتفلت مدينة جبيل بمهرجان «الفلوكة» للقوارب الصغيرة التي أتت من مختلف البلدات الساحلية لترسو في مينائها وتحمل على متنها زوار «مدينة الحرف» في رحلات بحرية تكشف جمال الساحل اللبناني.
أكثر من 150 «فلوكة» اجتمعت في ميناء جبيل وتزيّنت بالأعلام اللبنانية وشعارات المدن الفينيقية القديمة. وشهد السنسول البحري معرضاً متنوعاً للحرفيين والطهاة وأصحاب المواهب في لوحةٍ ملوّنة تضج بالموسيقى والصخب والزوار المقيمين والمغتربين.
كذلك تطلق جبيل مهرجان بيبلوس الدولي السنوي الذي تفتتح الفنانة هبة طوجي والمؤلف الموسيقي أسامة الرحباني فعالياته في اوائل أغسطس، ويليه حفل عازف البيانو غي مانوكيان. ولا يغيب أبناء جبيل الموهوبين عن المشاركة في مهرجانها مثل عازف البيانو أليف أبي سعد والأخت مارانا سعد مع جوقتها «فيلوكاليا» و فرقة «عشتار» والمغنية كارلا رميا.
بدورها أقامت مدينة جونية الساحلية وسط شوارعها التراثية مهرجانها السنوي الذي يمتد طوال شهر يوليو تحت عنوان «بنصّ جونيه» ويشهد نشاطات ترفيهية وفنية وموسيقية ومَعارض حرفية وأسواق تراثية ومأكولات لبنانية وعالمية ضمن أجواء من الفرح والزحمة وبرسم دخول يكاد يكون مجانياً.
كما أعلنتْ رئيسة لجنة مهرجانات جونية الدولية زينة افرام عن برنامجها لصيف 2023 تحت شعار «لبناني أنا»، وهو يستضيف المطربة اللبنانية العالمية عبير نعمة ويقدّم أمسية وطنية عاطفية بعنوان «لبنان حكاية حب» بإشراف الشاعر الكبير نزار فرنسيس وأداء المغنية كارلا شمعون.
أما ثقافياً فتنظم مهرجانات جونية مسابقة تصوير فوتوغرافية وطنية للهواة والمحترفين هدفها تسليط الضوء على جمال طبيعة لبنان وثقافته. وستُقام مختلف العروض في صالة السفراء في كازينو لبنان.
ضهور الشوير التي تُعتبر من أشهر المصايف في لبنان أقامت مهرجانها السنوي بنسخته العشرين، وقد حظي بإقبال لافت من أهل البلدة وضيوفهم الذين أتوا من مناطق عدة ليشاركوها فرحها ويغنوا معها على أنغام حنين وغي مانوكيان.
وتستعدّ البلدة كما كل عام لإطلاق مهرجان المغتربين الذي يتخلله حفل انتخاب ملكة جمال المغتربين الذي بات موعداً ثابتاً في كل صيف منذ أكثر من نصف قرن ويشكل جسر تواصل بين لبنان المقيم و لبنان الانتشار من خلال الجمال.
عدوى الفرح
وتطول لائحة البلدات والقرى الساحلية والجبلية التي أطلقت مهرجاناتها أو أعلنت عنها… تطول لكنها لا تتشابه، فلكل مهرجان نكهته التي يستمدها من ميزة البلدة وأهلها ورغبتهم في تقديم الأكثر تميزاً.
فبلدة حصرون الشمالية العالية التي تميّزت بشارعها المزيَّن بالمظلات الملوَّنة أطلقت مهرجان الزهور، في فكرةٍ ايطالية المنشأ لكنها تلبْننتْ واتخذتْ طابعاً قروياً لبنانياً عريقاً.
إهدن عروس المصايف الشمالية ستستضيف مهرجاناً فنياً يضيف الى سحر موقعها وعراقة ضيافتها سحراً. فالبلدة التي تشكل قبلةً للزوار في الصيف تستعدّ بكل ما أعطيت من مميزات لإحياء صيفٍ حافلٍ يليق بمَن يقصدها. مهرجاناتها تحفل بالغناء والكوميديا والموسيقى الصاخبة في حفلاتٍ بأسعار مدروسة جداً تُغْري الراغبين بمشوار الى إهدن وحتى بـ «النومة» في ربوعها.
البترون زهرة الساحل اللبناني وأجمل مدينة سياحية فيه، تُوَزِّعُ نشاطاتها على أشهر الصيف ولا تكتفي بمهرجان مركزي واحد.
فموقع المدينة ودورها السياحي يتطلب منها إبقاء شعلة الفرح متوهجة بشكل دائم لإرضاء آلاف الزوار الذين يتوجهون إليها يومياً. وتشتمل مهرجانات البترون على حفلة موسيقية لفرقة أدونيس وعرضاً غنائياً مسرحياً على مدى ليلتين لجورج خباز إضافة الى حفلات موسيقية على الشاطئ وفي ساحة كنيسة مار اسطفان الأثرية.
وقبل نحو 3 أسابيع، افتُتح «متحف البترون تحت الماء» عند السور الفينيقي والذي تضمن معرضاً لعدد من الآليات العسكرية التي أصبحت خارج الخدمة وتعود للجيش اللبناني بهدف تعزيز رياضة الغطس.
قرية القبيات الشمالية البعيدة ترتدي مهرجاناتها طابعاً بيئياً تنموياً وسياحياً يستمدّ زخمَه من جمال الطبيعة وتَنوُّعها في المنطقة والحاجة الى تنميتها واجتذاب الزوار إليها. وسيقام المهرجان هذه السنة في موقعه الجديد في معمل الحرير التاريخي ويُفتتح البرنامج البيئي برياضة المشي بالطبيعة في غابة كرم فبراير التي تتميّز بشجر الأرز والشوح واللذاب.
وليلاً يفتتح البرنامج الفني مع أمسية استثنائية للفنان غي مانوكيان لأول مرة في مهرجانات القبيات الدولية وحفل للفنان جو أشقر بأسعار رمزية. ولا يخلو المهرجان من نهار سياحة دينية تتخلله زيارة لأبرز المواقع الدينية في عكار، وجولة على مواقع طبيعية.
منطقة الزعرور المتنية الجبلية المعروفة بكونها مركز تزلج شتاءً ترتدي في الصيف مع «جرودي» ثوباً مضيئاً تميّزه سهراتٌ تبدأ بمنظر رائع من أعلى الجبل لمغيبِ الشمس ومن ثم نشاطات مميزة، مثل سهرة البالونات الملوَّنة التي تُطلق في الجوء ومعها مناطيد حرارية تحمل الزوار في جولة الى الأعلى لاكتشاف مناظر طبيعية خلابة على أصداء الموسيقى الصادحة من الأرض. وتتكثف النشاطات الصيفية مع سينما في الهواء الطلق وعروض كوميدية لأشهر الكوميديين وأخرى موسيقية لفنانين يحاكون تطلعات الشباب في أجواء تختلف عن المهرجانات التقليدية.
سواحٌ عرب مندهشون
مناطق كثيرة لم تعلن عن مهرجاناتها بعد لكنها حتماً تستعدّ لها. فالفرح عدوى، واللبنانيون متعطّشون له، والمغتربون يستعيدون مع المهرجانات أجمل ذكريات لبنان الراسخ عميقاً في وجدانهم. أما الزوار العرب فيعيشون دهشةً ما كانوا يتوقعونها بحسب اعتراف جميعهم. والمشوارُ في ذاته الى مناطق المهرجانات يعادل برنامجها حماسةً ومتعة… وقْفاتٌ على الطريق في محطات للأكل والشرب والاستراحة، وباصاتٌ مكيَّفة تنقل الرواد وتتيح لهم التعرف إلى مواقع سياحية وطبيعية متعددة على الطريق. أما التنظيم والاستقبال والنشاطات المختلفة فتعكس حِرَفية في العمل السياحي وتَرَسُّخاً لبنانياً في فن إحياء المهرجانات.
مهرجانات دولية
المهرجانات الكبرى تعود بزخم وإن احتجب بعضها. فحتى اليوم لم تعلن مهرجانات الأرز عن أي نشاط، ومهرجان صور لم يطلق فاعليته بعد فيما بيروت تشهد حفلات متفرّقة كبرى في مواقع مختلفة لا تدخل تحت عباءة تسمية او مهرجان محدد. فمن تامر حسني وكاظم الساهر وناصيف زيتون، إلى عمرو دياب مروراً بوائل كفوري وغيرهم… نجومٌ أحيوا ويحيون تباعاً أمسيات حافلة، في الفوروم دو بيروت أو في أسواق بيروت حيث سيكون حفل عمرو دياب (19 اغسطس المقبل) شرارة إعادة الحياة إليها.
صحيح ان النجوم العالميين الذين كانوا يستقطبون جمهوراً من كل أنحاء العالم يغيبون عن المهرجانات اللبنانية بسبب عدم القدرة ربما على دفع تكاليف قدومهم المرتفعة مع فِرَقهم الموسيقية بالدولار لكن لا يغيب الفن العالمي الراقي مثل الباليه، الجاز، البيانو عن المهرجانات وكذلك أسماء لبنانية وصلت الى العالمية مثل ميسا قرعة، دونا خليفة وسواهن.
مهرجانات بيت الدين تحتفي هذا الصيف بنسختها الأربعين. 40 عاماً مضت على إطلاقها وسط الكثير من الصعوبات والتحديات في منتصف الثمانينات كما قالت رئيسة المهرجانات السيدة نورا جنبلاط.
وقد تكيّف المهرجان في بداياته مع الظروف القاسية التي كان يمرّ بها لبنان ثم إنطلق نحو العالمية محققاً عبر السنوات الكثير من النجاحات وأرقاماً قياسية بتنظيم أكثر من 500 حفل إستضاف فيها أكثر من 6600 فنان وموسيقي ومُبْدِع مفسحاً المجال أمام مشاركة ما يزيد عن 700 ألف مُشاهد في باحات القصر التاريخي العريق.
اليوم يتكيف مهرجان بيت الدين كما قالت السيدة جنبلاط في حفل إطلاقه مع الأوضاع المستجدة التي فرضها الانهيار الاقتصادي في لبنان، وهو أعلن عن موسم 2023 كفعل إيمان، وتأكيد على دور لبنان الثقافي والفني، ورسالته الحضارية، مطلقاً هذه المرة المواهب اللبنانية والعربية الشابة التي تستحق أن تطلّ من على خشبة مسرح بيت الدين مع كل ما يمثله من رمزية تاريخية ومعنوية كبيرة.
فرح الديباني، فرقة شيكويلو وغي مانوكيان، دونا خليفة وآرثر ساتيان، ميساء قرعة و مسرحية «شيكاغو بالعربي» هي الحفلات المنتظرة التي وعد بها مهرجان بيت الدين، وبعضها قد بيعت كل تذاكرها مسبقاً في دلالةٍ لما لهذا المهرجان من جمهور ينتظر فاعلياته بشوق كل عام.
مهرجانات بعلبك الدولية تشكّل علامة فارقة في جدول المهرجانات اللبنانية. فتاريخها يعود الى منتصف القرن العشرين، ومنذ ذلك الوقت استضافت أكبر الأسماء العربية والعالمية ومسرحيات فيروز والرحابنة، وحافظت على مسارها الثقافي رغم الكثير من العراقيل التي اضطرتها للتوقف في مراحل مختلفة.
اليوم المهرجانات «ترجع عَ دراج بعلبك» بعد غياب قسري أثناء جائحة كورونا لتقدّم للسنة الثانية عروضاً فنية تليق بهذا الصرح الأثَري العظيم. وقد انطلقت المهرجانات التي تنتظم سنوياً على مدرجات معبد باخوس في بعلبك في الأول من يوليو بحفلة هي عبارة عن لوحات رقص باليه ورقص معاصر مع نجم دار «لا سكالا» في ميلانو روبرتو بوليه.
كما أطلت فرقة الكندي الموسيقية الصوفية الحلبية التي انطلقت العام 1983 مع منشد الفرقة الشيخ حامد داود ومجموعة موسيقيين ودراويش. وتلتها حفلة موسيقية بعنوان «الجذور في أيدينا.. من إسبانيا ولبنان» بمشاركة الفنان ناتشو أريماني، والعمل أنتج خصيصاً لمهرجانات بعلبك. وفي 14 يوليو كانت حفلة من العمر مع ابن البقاع النجم اللبناني ملحم زين، قبل الختام مع حفلة «فودو تشيللو» حيث وقفت على أدراج معبد باخوس المغنية الفرنسية الإفريقية إيماني يرافقها 8 عازفي تشيللو.
وقد تَأهَّبَ أهالي بعلبك وبلديتها كما الجيش وقوى الأمن لتوفير أفضل الأجواء للمهرجانات وإعداد «مدينة الشمس» بأسواقها وشوارعها ومحلاتها التجارية ومطاعمها لاستقبال زوارها بأرقى صورة تعكس وجه لبنان المضيء.