وبحسب الأرقام الصادرة عن المديرية العامة للأحوال الشخصية في وزارة الداخلية للفترة الممتدة بين عامي 2020 إلى 2023، والتي تمت دراستها ومقارنتها مع أرقام الفترة من 2016 إلى 2019 من قبل “الدولية للمعلومات”، تبين أن التراجع في نسبة النمو السكاني بلغت نحو 40 في المئة.
وفي مراجعة لأعداد الولادات والوفيات في العام 2023 وفقا للأقضية ظهر كما أوردت “الدولية للمعلومات” أن الزيادة السكانية كانت ضئيلة أو شبه معدومة في المدن، في حين شهدت المناطق الزراعية، وخاصة التي تتمتع بأغلبية إسلامية مثل عكار وبعض مناطق الشمال، وصور ومحيطها جنوبا، ارتفاعا في معدلات النمو السكاني.
لكن الأهم من ذلك، كشفت المراجعة أن المجتمع اللبناني يتجه نحو الشيخوخة، وهو ما يثير تساؤلات حول المستقبل الديموغرافي للبلاد وتأثيره على مختلف القطاعات الاقتصادية والاجتماعية.
تراجع خطير
تشكل الديموغرافيا اللبنانية تحديا معقدا يمتد إلى ما هو أبعد من الأرقام والإحصاءات، إذ وفقا لتقرير “الدولية للمعلومات”، يصنّف اللبنانيون بناء على انتماءاتهم الطائفية والمذهبية، بدلا من التركيز على هويتهم الوطنية كمواطنين لبنانيين أولا.
يعتبر التقرير أن هذا التصنيف الطائفي في التعامل مع السكان هو السبب الرئيسي لعدم إجراء أي تعداد رسمي للسكان منذ عام 1932. “فالكثير من الأطراف السياسية اللبنانية تخشى أن يؤدي الكشف عن الحقائق الديموغرافية إلى تغيير التوازنات الطائفية القائمة، رغم الاتفاق على مبدأ المناصفة في المناصب السياسية والإدارية العليا، بغض النظر عن التوزيع العددي للطوائف”.
ورغم غياب التعداد الرسمي، فإن الحقائق الديموغرافية تبقى متداولة بطرق غير رسمية مثل أعداد طلاب المدارس أو الناخبين، لكنها تظل غير دقيقة تماما، ويشير التقرير إلى وجود أخطاء في هذه الأرقام، منها القيود المكررة للزوجات أو أسماء المتوفين التي لم تُشطب من السجلات.
وبلغة الأرقام، شهد لبنان خلال الأعوام 2016-2019 ولادة 354,866 فردا مقابل 100,771 حالة وفاة، ما أدى إلى زيادة سكانية قدرها 254,095 فردا، بمتوسط سنوي بلغ 63,523 فردا.
لكن هذه الأرقام تغيرت بشكل ملحوظ بعد الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالبلاد، حيث انخفض عدد الولادات في الفترة من 2020-2023 إلى 271,913 فردا، بينما ارتفع عدد الوفيات إلى 119,101 حالة. ما أسفر عن زيادة سكانية بلغت 152,812 فردا فقط، بمتوسط سنوي قدره 38,203 فردا.
عند مقارنة هذه الفترات، يتضح أن النمو السكاني في لبنان تراجع بنسبة 39.8 في المئة بعد الأزمة، مما يعكس تأثيراتها العميقة على التركيبة السكانية في البلاد.
وتعليقا على ذلك، يؤكد منسق مختبر الديموغرافيا في مركز الابحاث، معهد العلوم الاجتماعية، الجامعة اللبنانية، شوقي عطية، أن لبنان يشهد انخفاضا حادا في معدلات الولادات منذ عام 2020، موضحا أن “هذا الانخفاض تفاقم بشكل ملحوظ خلال جائحة كورونا.
ورافق هذا الانخفاض في الولادات ارتفاع في عدد الوفيات بنسبة بلغت نحو 20 في المئة بين عامي 2020 و2021، حيث سجل عام 2021 زيادة ملحوظة في أعداد الوفيات مقارنة بالعام السابق”.
ويشير عطية في حديث لموقع “الحرة” إلى أن “جميع الطوائف في لبنان تتجه نحو الشيخوخة، وإن كان هناك تفاوت بين الطوائف في سرعة هذا الاتجاه”، محذرا من أن “المجتمع اللبناني بأكمله سيتجه نحو الشيخوخة خلال العقود المقبلة”.
ويشرح “قبل عشر سنوات توقعت أن يشهد لبنان تراجعا سكانيا ملحوظا بحلول عامي 2045 و2050، نتيجة للتحولات الديموغرافية والاجتماعية التي يمر بها، لكن مع التغيرات السريعة وثبات النمو السكاني حاليا عند صفر في المئة، من المرجح أن يبدأ هذا النمو بالتراجع في المستقبل القريب”.
من جانبه يشير مدير برنامج الصحة الجنسية المتكاملة للنساء في “الجامعة الأميركية في بيروت”، فيصل القاق، في حديث لموقع “الحرة” إلى أن “معدل الخصوبة في لبنان بدأ بالانخفاض منذ سبعينيات القرن الماضي، ولا يزال مستمرا حتى اليوم”.
كواليس المشكلة
بحسب ما أوردت “الدولية للمعلومات” سجل قضاء المتن أدنى زيادة سكانية بين اللبنانيين في العام 2023، حيث بلغ عدد الولادات 1,431 حالة، في مقابل 1,420 حالة وفاة، ليكون صافي الزيادة 11 فردا فقط.
وجاء قضاء كسروان في المرتبة الثانية إذ سُجّلت 941 ولادة مقابل 872 حالة وفاة، ما أدى إلى زيادة سكانية صافية قدرها 69 فردا، أما قضاء بشري، فقد حل في المرتبة الثالثة حيث بلغ عدد الولادات 397 حالة، في مقابل 310 حالات وفاة، ليصل صافي الزيادة إلى 87 فردا.
يرتبط تراجع الزيادة السكانية “بتحسن الأوضاع المعيشية وارتفاع مستوى التعليم والثقافة، مما يؤدي إلى انخفاض معدلات الخصوبة وارتفاع معدلات استخدام وسائل منع الحمل، ليس فقط في لبنان، بل في العديد من الدول العربية” بحسب القاق.
ويضيف القاق، وهو عضو أيضا في مجموعة الخبراء لسياسات الصحة في منظمة الصحة العالمية، أن “لبنان يسجل حاليا أحد أدنى معدلات الخصوبة في العالم العربي، حيث تتراوح الأرقام بين 1.8 و2، في حين أن الحد الأدنى المطلوب للتعويض عن الوفيات داخل التركيبة السكانية هو معدل خصوبة يبلغ حوالي 2.1″، مشيرا إلى أن “عدد الولادات السنوي تراجع من حوالي 100 ألف في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي إلى حوالي 62 ألف فقط حاليا.”
كما يرتبط تراجع النمو السكاني “بظاهرة الهجرة المتزايدة في لبنان”، ويشير إلى أن “عدد المهاجرين كان حوالي 25 ألف سنويا بين عامي 1996 و2016، وارتفع إلى 78 ألف سنويا منذ عام 2018″، لافتا إلى أن “هذه الأرقام تشكل تهديدا كبيرا على التركيبة السكانية في البلاد، خاصة في ظل ارتفاع نسبة المغادرين من الفئات الشابة والمهنية ذات المستويات التعليمية العالية”.
تراجع معدلات الإنجاب في لبنان يتجاوز وفق القاق “البعد الطائفي والمذهبي، فقضية الولادات والسكان معقدة ومتشابكة. وهذه الظاهرة ترتبط بعوامل متعددة منها المعتقدات الثقافية والدينية للسكان، والبيئة الحضارية والريفية، وكذلك النظرة الشخصية للأمور، والمستوى المعيشي، والدخل، والمهن”.
من جانبها ترجع الأستاذة الجامعية والباحثة الاجتماعية، البروفيسورة وديعة الأميوني، التراجع في النمو السكاني في لبنان إلى مجموعة من العوامل، منها “التغيرات في نمط الحياة، وتأخر سن الزواج، والاتجاه نحو الأسرة النواتية الصغيرة، بالإضافة إلى هجرة الشباب إلى الخارج بحثا عن فرص عمل أو تعليم، أو هربا من الظروف السياسية والأمنية الصعبة في البلاد”.
هذا الانخفاض في النمو السكاني يؤثر بشكل كبير بحسب ما تقوله الأميوني لموقع “الحرة” “على قوة العمل، مما يؤدي إلى تراجع الإنتاجية المحلية ويزيد من الضغط على النظامين الاجتماعي والاقتصادي”، موضحة أن “ارتفاع نسبة كبار السن يضيف ضغوطا إضافية على نظم الرعاية الصحية والخدمات الاجتماعية”.
أما عطية فيقول “النمو الطبيعي للسكان، الذي يتمثل في الفرق بين الولادات والوفيات، شهد تراجعا ملحوظا نتيجة لانخفاض الولادات وارتفاع الوفيات. إضافة إلى ذلك، سجّلت البلاد بين 75 ألف و100 ألف حالة هجرة وسفر كمعدل سنوي منذ عام 2020 حتى اليوم، مع ترجيحات بأن يكون النمو السكاني 0%، مما يؤدي إلى تحول المجتمع اللبناني إلى مجتمع معمّر يعاني من الشيخوخة”.
ويلفت عطية إلى أن “لبنان هو الأول بين الدولة العربية من حيث نسبة المسنين الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاما، حيث تجاوزت هذه النسبة 15 في المئة”.
المشكلة الرئيسية كما يقول عطية “ليست في معدلات الإنجاب بقدر ما هي في الهجرة”، مشيرا إلى أن “انخفاض معدلات الإنجاب، بالإضافة إلى ارتفاع أعداد المهاجرين، سيؤدي إلى تدهور أكبر في النمو السكاني”.
وكان تقرير “التشغيل والآفاق الاجتماعية في الدول العربية – اتجاهات 2024” الصادر عن منظمة العمل الدولية في مارس من هذا العام، كشف عن تدهور مقلق في سوق العمل في لبنان، حيث أشار إلى ارتفاع ملحوظ في معدلات البطالة بين الشباب، والتي بلغت ذروتها عند 47.8 في المئة في عام 2022.
كما أوضح التقرير أن نسبة الشباب اللبنانيين الذين هم خارج إطار العمل والتعليم والتدريب وصلت إلى 26.1 في المئة، وفيما يتعلق بالبطالة طويلة الأمد، أشار التقرير إلى أن نسبة كبيرة من العاطلين عن العمل في لبنان يعانون منها، حيث وصلت النسبة إلى 48.9 في المئة.
انعكاسات خطيرة
لدى القاق مخاوف على مستقبل لبنان لجهة ضعف الاحلال السكاني، “مشابهة للمخاوف التي تواجهها دول مثل روسيا، إيطاليا، واليابان. هذه الدول تعاني من مشكلات سكانية تتمثل في نقص التعويض السكاني وازدياد نسبة كبار السن نتيجة لتحسن الرعاية الصحية وغيرها من العوامل”.
ويشدد القاق على الآثار الكارثية لتراجع أعداد الشباب في البلاد، مؤكدا أن “هذه الفئة تمثل العمود الفقري لقوة العمل ومحركا أساسيا للنمو الديموغرافي والتنمية الاقتصادية”، ويحذر من أن “هذا التراجع يؤدي إلى تآكل الخبرات والمهارات التي تعتمد عليها عجلة الإنتاج، مما ينعكس سلبا على كافة القطاعات”.
كذلك يرى عطية أن انعكاسات هذه التحولات الديموغرافية على المدى الطويل ستكون خطيرة جدا، “حيث سيؤدي تحول لبنان إلى مجتمع معمّر إلى ضغوط كبيرة على نظام الضمان الاجتماعي، الذي يعتمد تمويله على القوى العاملة. وفي ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية للبنان، فإن الوضع قد يصبح أكثر تعقيدا خلال 20 إلى 30 عاما”.
وفي مواجهة تحديات انخفاض عدد السكان، يؤكد عطية على “ضرورة تبني سياسات ترفع من معدلات الخصوبة، التي انخفضت حاليا إلى 1.7 ولادة للمرأة الواحدة وهو أقل من معدل الاحلال الذي يبلغ 2.1 طفل لكل امرأة، وهو المستوى المطلوب للحفاظ على استقرار عدد السكان، وأي نسبة أقل من ذلك تؤدي حتما إلى تقلص الكتلة السكانية”.
إضافة إلى ذلك، يشدد عطية على أهمية “التركيز على خلق فرص عمل، وتشجيع الاستثمار، وتعزيز الاستقرار في البلاد، لمواجهة الهجرة المتزايدة إلى الخارج التي تفاقم مشكلة انخفاض عدد السكان. هذه السياسات المتكاملة ضرورية لضمان مستقبل لبنان الديموغرافي والاقتصادي”.
أما القاق فيرى أن معالجة هذه الأزمة، تتطلب اتخاذ إجراءات عاجلة “لخلق فرص عمل حقيقية وجاذبة للشباب، وذلك لوقف نزيف الهجرة وضمان استقرارهم في وطنهم” ويشدد على أهمية توفير شبكة أمان اجتماعي قوية تضمن لهم حياة كريمة، بالإضافة إلى رواتب عادلة تغطي احتياجاتهم الأساسية، ويقول “الشعور بالأمان المالي والمهني من ضمن العوامل التي تشجع الشباب على الزواج والإنجاب عند من يرغب، مما يساهم في تجديد دماء المجتمع وتعزيز النمو السكاني”.
كذلك ترى الأميوني أن “معالجة هذه المشكلة تتطلب “صياغة وتنفيذ سياسات جديدة للتعامل مع هذه التغيرات، منها العمل على جذب الشباب اللبناني المغترب للعودة إلى وطنهم، بالتوازي مع تطوير برامج مستدامة تحسّن من جودة الحياة وتجعل الإقامة في لبنان أكثر جذبا بعد تطبيق السياسات الإصلاحية”.
وتؤكد أن “التعامل مع هذه الاشكاليات يتطلب تنسيقا بين السياسات الاقتصادية والاجتماعية والصحية، لضمان استجابة فعّالة للتحديات المرتبطة بتراجع النمو السكاني في لبنان”، مشددة أن “معالجة هذه القضية تقع بشكل أساسي على عاتق الدولة اللبنانية العجوز”.
أما “الدولية للمعلومات” فتشير في تقريرها إلى أنه “في الدول التي تخطط للمستقبل، يتم تحديد أسباب تراجع النمو السكاني بعد إجراء مسح سكاني شامل وتفصيلي لا تكون الطوائف محوره، “وهذا أساسي لوضع الخطة التي ستطرح الحلول”.