وهذا مع العلم بأن التلويح بالتصنيف «الرمادي» هو بمثابة تحذير من عقوبات غير مباشرة تُفرَض على شكل مقاطعة من المستثمرين ومؤسسات التمويل الدولية، نظراً لارتفاع مخاطر التعامل مع لبنان كبلد «مشبوه»، حيث يجد نفسه في عزلة دولية. وفيما يرى بعض المراقبين أن هذا التصنيف ليس بالسوء الذي يروج له، فهناك دول عدة أضيفت إلى هذه اللائحة، ولم تتأثر قطاعاتها المالية مع الخارج بشكل جذري. لكن يبدو أن وضع لبنان مختلف بسبب الضغوط السياسية الأميركية التي تمارسها واشنطن، حتى إن مندوبَي الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي في «مينا فاتف» هما مَن طلب إعادة درس تقييم لبنان، وقد فُسر الأمر على أنه ذو خلفية سياسية.
ولذا يجري حالياً حاكم مصرف لبنان بالإنابة، وسيم منصوري، مباحثات في واشنطن تركز على ظروف لبنان الأمنية والسياسية والاقتصادية، في ظل غياب سلطة الدولة وزيادة التهرب الضريبي وضعف الرقابة، ومخاطر تحوّل الاقتصاد الوطني إلى «اقتصاد أسود». وكذلك أسهمت الجمعيات الأهلية التي تسيطر عليها الأحزاب السياسية، في تنشيط حركة تبييض الأموال، وهي تتلقى المساعدات من مصادر خارجية. وبلغة الأرقام، يعتمد لبنان على ثلاثة مصادر للتدفقات الرأسمالية: أولها الاستثمار الأجنبي المباشر، وقد انخفض من 2.6 مليار دولار عام 2018 إلى 50 مليون دولار فقط العام الماضي. وثانيها المساعدة الإنمائية الخارجية الرسمية، وقد أصبحت مقتصرةً على مساعدة النازحين السوريين، وبعض المساعدات الصغيرة لبرنامج الغذاء والتعليم في لبنان، وقيمتها لا تتجاوز 1.35 مليار دولار. أما المصدر الثالث، فهو التحويلات الخارجية، وقد بلغت نحو 7.5 مليار دولار سنوياً، وفق تقرير الأمم المتحدة، لكن هذا الرقم لا يعكس حقيقة الواقع، لأنه يقتصر على تحويلات تسلك الممرات الرسمية، بينما تدخل معظم التحويلات لبنان نقداً بـ«الشنط» عبر المطار، مما يرفع حجم التحويلات الكلي إلى 22 مليار دولار (وفق أرقام «الدولية للمعلومات»). وكان وفد أميركي برئاسة جيمس بيكر، نائب مساعد وزير الخزانة، زار بيروت في مارس الماضي، وأبلغ المسؤولين اللبنانيين قلق واشنطن من نمو «الاقتصاد الأسود»، ومحذِّراً من مخاطر تداعياته، ومؤكداً لهم على ضرورة مكافحة اقتصاد «الكاش».
ولوحظ وجود اختلاف في تفسير التعميم الأساسي رقم 165 الذي أصدره حاكم مصرف لبنان، وهو يرى بأنه يهدف إلى وقف اقتصاد «الكاش» بغية وضع حد لجرائم تبييض الأموال، في حين يراه بيكر عكس ذلك، ويستشهد بدراسة أعدها معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى تحت عنوان «عصابات الكاش»، ووصفت هذا التعميم بأنه يشكل «جهداً مشبوهاً للتحكم بالاقتصاد النقدي، ويسهل واقع تبييض الأموال، من دون رقابتها، والمرور بالنظام الأميركي عبر المصارف المراسلة».
ومع سيطرة اقتصاد «الكاش» وتبييض الأموال. ورغم توافر «الدولار» في السوق، فإن الاقتصاد اللبناني لا يقوم اليوم على خلق الثروة، وإنما تأتيه الثروة من الخارج، ولذا يدرك المجتمع الدولي ما يحصل في لبنان، ويتعامل مع الواقع من منطلق سياسي لا اقتصادي، للضغط على الطبقة السياسية لقبول ملفات وتغييرات حساسة في المنطقة.