يرتفع الضغطُ العسكري على جبهة لبنان إلى مستوياتٍ غير مسبوقة في الكثافة والامتداد الجغرافي، من الجنوب إلى البقاع مروراً بقلب العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية، في الوقت الذي يقف مقترح وقف النار أمام اختبارٍ مفصلي الأسبوع الطالع مع العودة المرتقبة للموفد الأميركي آموس هوكشتاين إلى المنطقة لمحاولةِ الاستفادة من momentum دبلوماسي – سياسي يرتكز على واقعٍ ميداني، ميزانُه حتى الساعة انتصاراتٌ بالمفرّق لإسرائيل من دون هزيمة بالجملة لـ«حزب الله»، لإبرام تسويةٍ يُخشى أن تتحوّل جاذبةً لأقوى «الصواعق» بحال تُركتْ لدينامياتِ ما بعد تَولّي دونالد ترامب منصبه رسمياً في 20 يناير وما سيعنيه ذلك من فقدان إمكان القيام بتراجعاتٍ على «سلّم» الربْط الإيجابي مع العائد إلى البيت الأبيض.
اغتيال محمد عفيف
وإذ تنتظر بيروت وصولَ هوكشتاين في الساعات المقبلة في محطةٍ سينتقل بعدها إلى إسرائيل حيث يُتوقع أن يكون فيها بعد غد، هو الذي كان نُقل عنه أنه لن يعود إلى المنطقة ما لم يكن لَمَسَ بوادر تشي بأن تحقيق الخرق المطلوب ممكنٌ في ضوء مقترحٍ قدّمه إلى لبنان الذي يستعدّ لردٍّ عليه ربما يتسلّمه الموفد الأميركي «باليد» أو يتبلور أكثر في ضوء الـ «سين جيم» مع الأخير حول النقاط – الألغام، مضتْ إسرائيل بإستراتيجية «حرق الأخضر واليابس» في مسرح الحرب المترامي مع استعادةٍ خطيرة لمسار الاغتيالات، وفي قلب بيروت، حيث استهدفت أمس مسؤول العلاقات الإعلامية في «حزب الله» محمد عفيف بغارة في منطقة رأس النبع على تخوم وسط العاصمة اللبنانية.
وجاء اغتيال عفيف، الذي سقط معه 3 كانوا برفقته وتردد أنهم من جهاز العلاقات الإعلامية في «حزب الله» بينما كانوا يعقدون اجتماعاً في مبنى مقر حزب البعث العربي الاشتراكي في رأس النبع، ليطرح علامات استفهامٍ حول إذا كانت تل أبيب بهذه العملية «تربط» مع مرحلةِ تكريس الأسابيع الفاصلة عن 20 يناير الأميركي – إذا لم يمرّ مقترح وقف الحرب خلال جولة التفاوض الحاسمة لهوكشتاين – مطحنةَ دم ودمار بلا سقوفٍ، وذلك عبر إعطاء إشارةِ «انتقال» بنك الأهداف إلى شخصياتٍ من خارج الصف القيادي العسكري والأمني «الموصول» بالسياسي، إلى الهيكلية الإعلامية لـ «حزب الله» وربما لاحقاً الجسم السياسي.
ولم يكن عابراً أنه بعد 38 يوماً على محاولة اغتيال مسؤول «الارتباط والتنسيق» في «حزب الله» وفيق صفا في غارةٍ على محلة النويري في بيروت، عادتْ إسرائيل لتضرب في العاصمة اللبنانية، وتحديداً في مبنى قريب لمنطقة «السوديكو» مستهدفة عفيف الذي يُعتبر من جيل المؤسسين في الحزب وتولى إدارة الاخبار والبرامج السياسية في قناة «المنار» ويضطلع بأدوار تواصلية واسعة مع الإعلام وكان مستشاراً إعلامياً للأمين العام السابق السيد حسن نصرالله.
وبعد اغتيال نصرالله في 27 سبتمبر وتَحَوُّل الضاحية الجنوبية هدفاً لـ «اجتياح جوي»، اشتدّت مواجاته في الأيام الأخيرة، عقد عفيف أكثر من مؤتمر صحافي بين ركام معقل «حزب الله»، وكان هو مَن أعلن في 22 أكتوبر مسؤولية الحزب «الكاملة والتامة والحصرية عن عملية قيساريا واستهداف منزل مجرم الحرب وزعيم الفاشية الصهيونية (…) بنيامين نتنياهو»، متوجهاً إليه: «وإن لم تصل إليك أيدينا في هذه المرة فإنّ بيننا وبينك الأيام والليالي والميدان».
وتَرافَقَ هذا الاغتيال الذي يُعدّ أول استهدافٍ لشخصية من خارج الدائرة العسكرية أو الأمنية التي تطلّ أيضاً على السياسة، مع إمعان إسرائيل في الغارات المفرطة على الضاحية الجنوبية لبيروت التي باتت «أجواؤها مفتوحة»، منذ أيام، للطيران الحربي على مدار الليل والنهار مع توسيع رقعة الاستهدافات إلى أطرافها ولا سيما الشياح (تُعد معقلاً لحركة أمل بزعامة رئيس البرلمان نبيه بري) مع ملامسة «خط النار» منطقة عين الرمانة ذات الغالبية المسيحية، كما حصل أمس مع سقوط صاروخ سوّى مبنى من 12 طبقة بالأرض في محيط مستشفى «الحياة» وفي نقطة غير بعيدة عن كنيسة مار مخايل.
وتَعَمَّدَ الجيشُ الإسرائيلي أن يعلن أنه على مدار الأسبوع المنصرم «أغار سلاح الجو على نحو 50 هدفاً إرهابياً في ضاحية بيروت الجنوبية الذي يواصل استخدام المنطقة لتخطيط مخططات إرهابية ضد دولة إسرائيل»، موضحاً «ان بين الأهداف التي جرى قصفُها السبت منزلا كان يعود إلى حسن نصرالله، وأنه تم (محاولة) استهداف الأخير في هذا المنزل أيام حرب لبنان الثانية (2006) وأعيد بناوه من جديد. واستخدم حزب الله هذا المبنى كبنية إرهابية».
مواجهات برية طاحنة
في موازاة ذلك، كان الميدان جنوباً يشتعل غاراتٍ مدمّرة على العديد من المناطق ومواجهات برية طاحنة وبعضها من مسافة صفر بين «حزب الله» والجيش الإسرائيلي خصوصاً على محور بلدات شمع – طيرحرفا – الجبين في القطاع الغربي حيث تَجْري محاولة تقدُّم لم تنجح فيها القوات المحتلة التي تتكبّد خسائر كبيرة، في الوقت الذي يَمْضي الحزب في رضقات صاروخية نحو العمق الإسرائيلي وخصوصاً حيفا حيث أدى أحد الصواريخ (السبت) على وسط المدينة والتي تصدّت لها الدفاعات الجوية إلى تدمير كنيس في شارع الكرمل بشكل كامل.
استهداف الجيش اللبناني و«اليونيفيل»
وإذ انطبع يوم أمس بسقوط ما لا يقلّ عن عنصرين للجيش اللبناني بقصف إسرائيلي على مركزهم في بلدة الماري (حاصبيا) وإصابة آخرين بجروح، برز إعلان قوة «اليونيفيل» أن دورية تابعة لها تضم جنود حفظ سلام فرنسيين وفنلنديين واجهت السبت – أثناء قيامها بدورية في قرية بدياس – منعاً لحرية الحركة من مجموعة من الأفراد كان واحداً منهم على الأقل مسلحاً، مشيرة إلى أنه بعدما«تمكنت الدورية من تجاوز المعوقات وأكملت مسارها المخطَّط له، أُطلق عليها بعد نحو ساعة، وفور عبورها بلدة معركة، نحو 40 طلقة من الخلف، وكان ذلك على الأرجح من أفراد تابعين لجهات غير حكومية (…) وأصيبت بعض آليات الدورية بالرصاص»، ومذكّرة بأن «أي هجوم ضد جنود حفظ السلام يشكل انتهاكاً صارخاً للقوانين الدولية والقرار 1701، الذي يشكل أساس ولاية اليونيفيل الحالية».
وبدا من الصعب فصْل ما تعرّضت له «اليونيفيل» ومجمل «اندفاعة النار» الإسرائيلية عن دخولِ مساعي وقف «حرب لبنان الثالثة» منعطفاً حَرِجاً، فإما يكون مقترح هوكشتاين، الذي يحظى بـ «مباركة» ترامب وفريقه، باب الانفراجِ القريب وإما تستوجب نقاط شائكة في المسودة صولات وجولاتٍ من تَفاوضٍ سيكون بـ«أسلحة الاحتياط»من إسرائيل لانتزاعِ الشروط التي تعتبر أنها تضمن لها «عقوداً من الأمان» عبر مساريْن متوازييْن:
– الأول إبعاد «حزب الله» عن جنوب الليطاني بما «يدفن» سيناريو 7 أكتوبر من الشمال.
– والثاني إيجاد صيغة لـ «خطر» السلاح المتوسط والبعيد المدى الذي دمّرتْ جزءاً منه وتصرّ على آليات لمنْع معاودة تكوينه ومن دون أن يتّضح حتى الساعة سياقُ معالجةِ أو «تحييد» الباقي منه شمال الليطاني، وهل يُترك لعملية «لي ذراع» سياسية عبر ملف الإعمار أو لمرحلةِ انحدار التمكين السياسي للحزب في مفاصل السلطة كأحد انعكاساتِ الحرب، وتالياً لاقتناعٍ لبناني بأن وضعيته كما هي لم تكن ممكنة ولابد بإزائها من تفعيلٍ للقرار 1559 ولو اتّخذ لبوس تنفيذ اتفاق الطائف بعنوان حصْر السلاح بيد الشرعية، مع ما يعنيه كل ذلك من «أفخاخ» يُخشى أن تنفجر بالواقع المحلي وأن يكون «تسليم وتسلُّم» بين «حرب آخَرين على أرض لبنان» وبين «اقتتال داخلي».
ربط نزاع
وعلى وقع أسئلة كبرى، من شأنها استشراف المرحلة المقبلة، حول هل تكون طهران في وارد «ربط نزاع» بالمعنى الإيجابي مع إدارة ترامب على قاعدة الحضّ على السير بوقف للنار بشروط معقولة، فتكون «حفظتْ رأس» ذراعها الأقوى في لبنان وجنّبتْ وضعية قد تجد نفسها فيها (بعد 20 يناير) أمام مفاضلةٍ بين نظامها و«حزب الله»وتالياً«وزّعت المخاطر»، لم يكن ممكناً أمس تَلَمُّس ما ستقوم به إسرائيل حيال مقترح وقف النار، الذي يفترض أنها كانت مطلعة على تفاصيله، وهل اقتنعتْ بأن ساعةَ الحلّ دقّتْ وتالياً هي في وارد تدوير الزوايا النافرة، أم أن الضغط بالنار الذي جعلها تلجأ إلى إستراتيجية «غاراتٍ كل ساعتين» في كل لبنان هو «لدفع حزب الله إلى التسوية» بشروطها «كما هي».
وتشير أوساط مطلعة إلى أنه في حال صحّ ما نقلته صحيفة «هآرتس» أمس عن مسؤولين إسرائيليين وأميركيين من أنه تم احراز تقدم في المحادثات نحو وقف النار بين إسرائيل والحزب وأن «القضية التي لم تحلّ بعد هي مطالبة إسرائيل بحرية العمل عسكرياً في لبنان»، وهو ما كان محور المشاورات الأمنية لبنيامين نتنياهو مساء أمس، فإنّ معالجة هذه النقطة «المستحيلة» بالنسبة إلى لبنان (وحزب الله – إيران) ممكنة بتراجُع ظاهري عنها، أقله علناً، لتبقى محور تفاهُم مكتوما أو ملحقا سريا مع واشنطن،على أن تحاول تل أبيب«تعويضها» في الاتفاق بلجنة مراقبةٍ لتطبيق القرار 1701 بصلاحياتٍ وأدواتٍ تنفيذيةٍ تَعتبرها «بوليصة تأمين» لمنْعٍ فعّال لمعاودة تسليح الحزب (عبر الحدود) أو «ترميم» بنيته التحتية العسكرية وللإشراف على تفكيك منشآته جنوب الليطاني.
وهذه النقطة تحديداً، أي اللجنة، مازالت محور اعتراضاتٍ لبنانية وسط تحبيذ بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي توسيع اللجنة الثلاثية الحالية التي تتولى «إدارة الشكاوى» حول أي خروق للـ 1701 والخط الأزرق منذ 2006 (تضمّ ضباطاً من لبنان و إسرائيل واليونيفيل) لتضم ضباطاً من فرنسا والولايات المتحدة، ومع رفْضِ أي «حضور» لألمانيا وبريطانيا كما منْحها صلاحياتٍ زاجرة أو تغيير تفويض «اليونيفيل» ومهمّتها في اتجاه السماح لها بالتحرّك بمعزل عن الجيش اللبناني.
ولا تقلّ تعقيداً النقطة التي تتعلق بـ «الدفاع عن النفس» للطرفين إذا لَزِم الأمر وهل في الأمر «التفاف» على رسْم بيروت خطاً أحمر حول التسليم لإسرائيل بحريةِ الحركة والتصرف في لبنان لمعالجة أي انتهاكاتٍ مفترَضة للاتفاق، أو قطبة مخفية تطلّ على محاولة انتزاعٍ تسليم ضمني من بيروت بانتفاء أي دور للحزب في «الهجوم كما الدفاع» – خصوصاً أن الحزب وبموجب الاتفاق سيصبح خارج جنوب الليطاني – وبما يمهّد تالياً لمعالجة كل وضعية سلاحه خارج الدولة.