يعكس خروجُ جمر الأزمتين المالية والرئاسية إلى فوق الرماد المتناثر على مساحات واسعة من القرى الحدودية اللبنانية مع إسرائيل، تَشابُكَ المَخاطر التي تتكاتف لتضع «بلاد الأرز» على فالقٍ مصيري وتُعَمَّقَ حال «فقدان الجاذبية» على كل المستويات بما يعزز الخشيةَ من سقوطٍ حرّ… «ثلاثي الدفع».
وإذا كانت معاودة تحريكُ الملف الرئاسي، الذي يدور في حلقة مفرغة منذ 1 نوفمبر 2023، عبر «مجموعة الخمس حول لبنان» (تضم الولايات المتحدة، فرنسا، السعودية، مصر وقطر) تأتي على خلفية استشعار أعضائها بأهمية فصل هذا الاستحقاق عن مجريات حرب غزة و«الجبهة التوأم» في الجنوب اللبناني فلا يكون الرئيس العتيد جزءاً من ترسيماتِ التفاهمات المقبلة ووليد توازناتها، إلى جانب ضرورة ملاقاة «اليوم التالي» للحرب بنظامٍ تشغيلي للمؤسسات «على رأسه الرئيس»، فإنّ أقوى عودةٍ للانهيار المالي إلى الواجهة منذ «طوفان الأقصى» على شكل إضراباتٍ متسلسلة في القطاع العام وتداعياتها على مرافق عدة وصرف الرواتب وحتى على «الأمن الغذائي» وإمدادات شهر رمضان المبارك، أطلقتْ «جرسَ إنذار» مزدوجا:
– أولاً حيال اعتمال الأزمة المالية رغم كل «الترقيعات» التي بدت على طريقة «الاختباء وراء الاصبع» أو «طمر الرأس في الرمال»، وسط ذهولٍ حيال السياسات الـ «خبط عشواء» في ما خص الحوافز للقطاع العام أو العطاءات والتي تسبَّبت آخِر «نسخها» المتصلة بتخصيص موظفي وزارة المال ورئاستي الجمهورية والحكومة والهيئات الرقابية بمبالغ مالية دون سائر موظفي الدولة بانتفاضةٍ ضدّ «التمييز بين موظفي الإدارة» وإعلان 7 وزارات الإضراب، قبل أن يْفْضي قرارُ وقفِ العمل بالحوافز الإضافية للعاملين في «المالية» ورفاقهم – «على أن يُستكمل البحث في هذا الملف برمته في جلسة مجلس الوزراء (اليوم) من خارج جدول الأعمال» – إلى «ثورة غضب» في صفوف هؤلاء أتبعوها بإعلان الإضراب المفتوح.
وفي موازاة التأثيرات المباشرة لهذا الإضراب «المالي» على واقع بقية الإدارات العامة وصرف الرواتب التي تصبح مهدَّدة بحال لم يتم إيجاد حل سريع كما على صرْف الاعتمادات للاستيراد، برز تنبيه نقابة مستوردي المواد الغذائية من التداعيات الكبيرة للإضراب الذي أعلنه موظفو وزارة الزراعة ومراقبو حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد، لا سيما لناحية توقف إدخال البضائع خصوصاً المواد الغذائية عبر المعابر الحدودية والموانئ اللبنانية، معتبرة «أن ما يزيد من تداعيات هذا الأمر هو حدوثه قبل شهر رمضان المبارك، حيث هناك كميات كبيرة من المواد الغذائية المستوردة والتي تصل تباعاً في هذه الفترة لإمداد الأسواق بها»، محذرة من «أن توقف عملية إخراجها من المرافئ سيؤدي حتماً إلى حصول نقص حاد في البضائع في الأسواق فضلاً عن التأثير المباشر على إمدادات شهر رمضان».
– وثانياً لجهة ابعاد عودة «النقار» الداخلي، وليد «القلّة»، بعد استكانةٍ نسبية على قاعدة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وسط تحركات في الشارع أيضاً للمتقاعدين لتصحيح رواتبهم ستكون ذروتُها اليوم على تخوم السرايا الحكومية.
واعتبرت أوساط مطلعة أن هذا الضجيج المستعاد يعكس تسليماً بأن مسار «الميني حرب» في الجنوب لا قدرة محلية على التحكّم به ولا بآفاقه، علماً أن مخاطر انفلات المواجهات تتزايد في ظلّ إمعان إسرائيل في اللعب خارج قواعد الاشتباك ومحاولة «حزب الله» تحقيق ردعٍ صعب في ضوء «الرقابة الذاتية» التي يفرضها على عملياته ربْطاً باعتباراتٍ متشابكة يدخل في إطارها تفادي طهران الانجرار إلى تصعيدٍ شامل تعتبر أن تل ابيب تريده وتتقاطع إيران مع الولايات المتحدة في الرغبة بتجنّبه.
وكان بارزاً أمس أن جبهة الجنوب استقطبت الاهتمام، من زاويتين:
– الميدان الذي بقي على التهابه حيث استهدفت إسرائيل بالقصف المدفعي بلدات عدة، في موازاة غارات على قرى أخرى بينها بليدا والخيام قبل أن يشن الطيران المعادي غارة عصراً في كفررمان على مبنى يُطل مباشرة على اوتوستراد النبطية – مرجعيون وسط معلومات عن أن شقة تم استهدافها وعن مقتل ما لا يقل عن ثلاثة أشخاص (تردد انهم من “حزب الله”) وإصابة آخرين ومسارعة الحزب إلى فرض طوق أمني حول مسرح الجريمة.
وفي المقابل، ورداً على استهدافات إسرائيل لمدنيين في لبنان ودعماً لغزة، نفّذ حزب الله سلسلة عمليات أبرزها ضد مقر قيادة اللواء الشرقي 769 في ثكنة كريات شمونة، و«مبنى يتمركز فيه جنود العدو الإسرائيلي في مستعمرة كفر يوفال وحققنا إصابة مباشرة»، وذلك قبل أن تفيد تقارير إسرائيلية عن اعتراض صاروخ فوق صفد من دون تفعيل صافرات الإنذار، ما تسبب بدوي انفجار كبير في المنطقة.
وفي حين تحدثت قناة «الجزيرة» عن تسلل مسيّرتين من جنوب لبنان إلى منطقة إصبع الجليل، أعلن الجيش الإسرائيلي انه ضرب خلال الساعات القليلة الماضية مواقع في جنوب لبنان انطلقت منها صواريخ في اتجاه كريات شمونة ويوفال، لافتاً إلى أن مقاتلاته قصفت مجمعاً عسكرياً لحزب الله في منطقة مارون الراس وبنية تحتية «تستخدمها عناصر مسلحة» في كفركلا والخيام.
– والزاوية الثانية المساعي الديبلوماسية لتوفير مخرج يتيح خفْض التصعيد على جبهة الجنوب عبر خريطة طريق متدرّجة وصولاً إلى حل مستدام، وهو ما يصبح أكثر قابلية للتحقق «نظرياً» بحال نجحت مساعي الوصول الى صفقة لتبادل الأسرى بين تل أبيب وحماس، رغم الاقتناع الراسخ بأن جبهة الجنوب باتت قائمة في ذاتها، في سياقاتها المتفجرة كما الانفراجية التي يُعمل عليها تحت ضغط النار.
الورقة الفرنسية
وفيما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يؤكد خلال جولة في شمال الجولان إصراره على «إعادة الأمن» إلى شمال إسرائيل متوعّداً «سنعيد الأمن في الشمال بكل الطرق، سياسياً إذا أمكن، وإلا عسكرياً، وعلى حزب الله أن يفهم ذلك»، أشارت معلومات في بيروت إلى أن الخارجية اللبنانية تسلمت من الجانب الفرنسي الورقة الرسمية بالاقتراحات الخاصة بمعالجة التوتر في الجنوب والتي سبق أن قدّمها «بالأحرف الأولى» (بطريقة غير رسمية) وزير الخارجية ستيفان سيجورنيه خلال زيارته للبنان.
وكشفت صحيفة «نداء الوطن» أن الورقة تتضمّن فقرة تتعلق بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا وضرورة البحث فيها مستقبلاً، في ما بدا وفق أوساط متابعة «حلاً وسطياً» بين عدم إدراجهما ضمن أي تَفاهُم تحت عنوان تنفيذ القرار 1701 وبين إصرار حزب الله ولبنان الرسمي على أن يكونا جزءاً من الحل المستدام، بمعنى إحداث «ربْط نزاع» حيالهما بما يكرّس «حقّ لبنان» نظرياً بالتفاوض اللاحق حولهما.
وذُكر أن الورقة الرسمية تحمل عنوان السفارة الفرنسية في لبنان، وأنها باللغات العربية والفرنسية والانكليزية، وهي ستكون مدار بحث بين رئيس الحكومة ووزير الخارجية عبدالله بوحبيب لوضع الردّ الرسمي عليها الذي يُرجّح أن يصرّ على «الحل الشامل»، وذلك بعدما كان المسؤولون اللبنانيون امتنعوا عن تقديم أي جواب حين طرح سيجورنيه الصيغة غير الرسمية، ولكن مع إشاراتٍ إلى امتعاضٍ من عدم شمول مزارع شبعا وتلال كفرشوبا بالحلّ المقترح إضافة الى ملاحظات أخرى.
ومعلوم أن الطرح الفرنسي يوازيه مسعى أميركي عبر الموفد آموس هوكشتاين لإيجاد مَخْرجٍ يبدأ بعد وقف القتال في غزة، وهو الموقف الذي يصرّ عليه «حزب الله»، ومن مندرجاته الأولية أولويةُ ابتعاد الحزب عن الحدود لِما بين 8 و10 كيلومترات بحيث يَطمئنّ سكان المستوطنات الإسرائيلية للعودة، وذلك ريثما تكتمل عناصر التفاهم المتكامل بما في ذلك على النقاط البرية المتنازَع عليها.
وكانت الورقة الفرنسية بصيغتها غير الرسمية والتي تهدف إلى إنهاء الأعمال القتالية مع إسرائيل والتوصل لتسوية بشأن الحدود المتنازَع عليها، تتضمّن 3 مراحل، وأعادت إلى الأذهان حين كُشف عنها وقف النار الذي أنهى عدوان 1996 الإسرائيلي بما عُرف بـ «تفاهم أبريل»، وكذلك القرار 1701 الذي أنهى حرب 2006.
ونصّت المرحلة الأولى على أن يقوم «حزب الله» وإسرائيل بوقف العمليات العسكرية. وفي غضون ثلاثة أيام، تقضي الخطوة الثانية بأن تسحب الجماعات المسلّحة اللبنانية مقاتليها على الأقل 10 كيلومترات شمال الحدود، ويبدأ لبنان بنشر مزيد من جنود الجيش في الجنوب (تم اقتراح نشر 15 ألف جندي) وتوقف إسرائيل التحليق فوق الأراضي اللبنانية.
أما الخطوة الثالثة، خلال عشرة أيام، فهي أن يستأنف لبنان وإسرائيل المفاوضات حول ترسيم الحدود البرية «بطريقة تدريجية» وبدعم من قوة اليونيفيل. كما سيخوضان مفاوضات حول خريطة طريق لضمان إنشاء منطقة خالية من أي جماعات مسلحة غير تابعة للدولة بين الحدود ونهر الليطاني.
ودعا الاقتراح إلى بذل جهد دولي لدعم انتشار الجيش اللبناني «بالتمويل والعتاد والتدريب»، كما إلى «التنمية الاجتماعية الاقتصادية لجنوب لبنان».
كما نصّ على أن «تهدم الجماعات المسلحة اللبنانية جميع المباني والمنشآت القريبة من الحدود ولا تعاود بناءها وتسحب القوات المقاتلة بما يشمل مقاتلي الرضوان، وهي قوة النخبة التابعة لحزب الله، وكذلك القدرات العسكرية مثل الأنظمة المضادة للدبابات إلى مسافة 10 كيلومترات على الأقل شمال الحدود».