يوم 14 آذار/ مارس 2005 الاستثنائي، خرجت الجموع تطالب برحيل جيش الوصاية الأسديّ. لكن جرت المبالغة في الإجماع الاستقلالي للناس. جرى التفاؤل بهذا اليوم فوق طاقته، على أنّه لحظة إبرام عقد ولادة لأمة. هذا مع أن يوم 14 آذار هذا، على كثرته العددية غير المسبوقة ولا الملحوقة، جاء ردّاً على تحشيد الجمهور الممانعاتي في مهرجان «شكراً سوريا» قبل ذلك بأيام قليلة، أي جمهور 8 آذار، وعلى خلفية الانقسام حول السبيل المفترض سلوكه لمعرفة من قتل رفيق الحريري، بل الانقسام حول الموقف من الاغتيالات المتسلسلة وموقع كل فريق بإزائها.
إنما قيل أنّ «الناس العاديين» كان مناخهم حاضراً أكثر في ساحة 14 آذار، في وقت طغى مشهد الناس الملتزمين عقائدياً وحزبياً في ساحة 8 آذار. أو قيل إن 14 آذار كيوم، كان أكثر تعددية في مشاربه ومكوناته من 8 آذار. وفي كل الأحوال جرى التخفيف، بفنون حجاجية وخطابية شتّى، من واقعة الانقسام السياسي الحاد بين اللبنانيين، والذي يحيل، إلى التقاطع بين الشقاق الأهلي وبين الاستقطابات الإقليمية.
بعد عقد ونصف العقد هيمنت فيه القسمة بين 8 و14 آذار ومعها المكابرة على الطابع الأهلي للشقاق بحجة إقليميته.
مع انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 ظهر المشهد الانتفاضي الجماهيري أوسع انتشاراً على خارطة البلد. مع أن توقيت نزلة أبناء كل طائفة إلى الساحة لم يكن هو نفسه. فحين نزل شباب الضاحية وشاباتها كان أهل بيروت من البيئة السنّية ما زالوا مترددين. وحين نزل أهل بيروت كانت وسائل حزب الله قد نجحت، بين الضغط والإقناع، والاستفادة من التهديف السريع على الحزب من قبل أخصامه المتترسين بالحراك نفسه، قد نجحت في تخفيض نسبة المشاركة الشيعية في الانتفاضة. وحيثما لم ينفع الضغط والإقناع اعتُمدت الخشونة.
في المناطق الأخرى، كانت استقالة وزراء القوات من الحكومة الذي يطالب المنتفضون بتنحيتها دافعاً لزيادة زخم تحركات مناطق ساحلي المتن وكسروان. وهذا واقع كابر عليه من انتدبوا أنفسهم لاحقاً لتمثّل 17 تشرين. فهؤلاء رموا «القوات» بأنها طرف من أطراف «المنظومة» اللاحق بها التنديد، في حين كانت «القوات» عامل توسيع لخارطة الانتفاضة، وعنصر إرهاق لها، بتركة 14 آذار في الوقت نفسه، ولم تكن في ذلك لوحدها، فمعظم من نطق باسم 17 تشرين من «المستقلين» أو كما تسمّوا «التغييريين» كانوا في ساحة 14 آذار /مارس 2005. في المقابل، حين نجح «حزب الله» في حمل الشيعة على صرف النظر عن دينامية 17 تشرين، تراجع حضور أبناء الطبقات الشعبية في احتشادات وسط بيروت. أما في شمال لبنان، في طرابلس، فقد تعاقب حضور كل من «الطبقة الوسطى» و»الطبقات الشعبية» في دينامية الانتفاضة، وعلى نحو مفارق. فعندما ترصع المشهد بساحة ممتلئة بالناس، كان حضور «الطبقة الوسطى» هو المهيمن، وحين عادت الطبقة الوسطى أدراجها إلى منازلها، اتخذ الاحتجاج سمة أبناء الأحياء الشعبية أكثر.
يبقى أنه في كل من وثبة 14 آذار 2005 وانتفاضة 17 تشرين الأول 2019 برز هناك، بشروط مغايرة وبأسلوب مختلف، خطاب يقول بما معناه أن زمن ولادة الأمة اللبنانية الفعلية قد انطلق، وعلى نحو جماهيري واسع. وعلى جدّة ولادة الأمّة المنشودة في الخطابين، خطاب 14 وخطاب 17، جرى إغراق الحدث والأيام والمناسبات الذي تلته بأغان وطنية من النوع المستهلك بفظاظة، في الفولكلور السياسي للجمهورية الثانية. وفي الحالتين أيضاً، كابرت النخب المتحمسة ومن ثم المستأثرة بمشعل الحراك، على حقيقة التصدع المجتمعي والشقاق الأهلي بين اللبنانيين، أو راحت تعتبر أن اللحظة الثورية المتخيل حصولها، في 14 آذار أو في 17 تشرين، أعادت الوصل وأقامت «اللحمة»، وأن اللبنانيين من ساعتها «خلعوا» أردية الطائفية وتعاهدوا عدم العودة إليها.
الفارق أن 14 آذار ولّد حركة سياسية متعددة حقيقية دامت فعاليتها لبضع سنوات، «فعاشت» مشروع ولادة الأمة اللبنانية، أمة «انتفاضة الاستقلال وثورة الأرز» بشكل أكثر مثابرة ومنهجية وحضوراً على مستوى القواعد نسبة للاستهلاك السريع لخطاب ولادة الأمة الجديدة من بعد تشرذم، طبعة 17 تشرين، فهذه المرة بدا الخطاب مفتعلاً ومتبجحاً أكثر. هذا حين لم يظهر مستعيداً لخطاب 14 آذار نفسه، ناقص رموزها وأحزابها ومعظم شهدائها.
في الحالتين أيضاً، جرى القفز فوق المسألة الشيعية، وتقدير بناء أمة لبنانية جديدة، يقابلها إعراض معظم الشيعة عنها، والانقسام من ثم بين من يعترف بهذا الإعراض، وبين من يخفف من طابعه الأهلي ويرهنه في قيد السياسة العليا، فيربط ذلك فقط بهيمنة إيران على مصائر شيعة لبنان، فإن ذهبت هذه الهيمنة عادوا لممارسة حضورهم ضمن مشروع التأسيس الجديد للأمة فيه.
أما من خرج يناهض «حزب الله» من الشيعة، فأكثر هؤلاء اعتبر بأن 14 آذار كحركة سياسية تخلت عن المعارضين الشيعة للحزب ولحركة أمل، بدءاً من «التحالف الرباعي» معه في انتخابات 2005، أو أنها تعاملت معهم على القطعة. في المقابل، روّج ثنائي الحزب والحركة دعاية تفيد بأن المعارضين الشيعة لهيمنتهما على الطائفة هم من «الكارهين لأهلهم» ولأنفسهم، وعملاء للطوائف الأخرى من فوق عمالتهم لسفارات الدول الأجنبية.
في الحصيلة، عاش أناس 14 آذار قرابة العشر سنوات سردية أنهم «أمة» قبل أن يهمّوا بفرطها، أو بتبادل مسؤولية من تسبب منهم بفرطها. أما أمة 17 تشرين الإسفنجية فبدت متوازنة المقادير أكثر، قبل أن تخبو بسرعة هزلية.
وبشكل أو بآخر، ظهر أن انفجار المرفأ يوم 4 آب/ اغسطس 2020 قبل شهر على مئوية ولادة دولة لبنان الكبير يحمل في طياته إعلان نهاية مشاريع ولادة الأمة اللبنانية بالحيوية القاعدية – المركزية، على ما رأيناه في حكاية كل من 14 آذار و17 تشرين. وهناك من لا يلحظ أنّ «الافتتان بالفدرالية» أخذ يشتد في لبنان، وبخاصة بين المسيحيين من تلك اللحظة، من يوم انفجار 4 آب بالتحديد، وكل نقاش مع المطالبين بالفدرلة لا ينطلق من الحيثية التي صار فيها لهذا المطلب قوة دافعة في قناعات جزء لا يستهان به من الناس، منذ انفجار المرفأ، هو نقاش في المجرّد أو استعادة لسجاليات قديمة.
قوة «الفدراليين» اليوم أنهم يجاهرون بشكل أكثر تصارحاً مع الذات من سواهم، بأن مشروع ايجاد أمة لبنانية بوصفة 14 آذار أو بمواصفات 17 تشرين قد فشل. أما ضعف هؤلاء الفدراليين ففي مكان آخر، في كون الفدرالية هي أيضاً صيغة لبناء دولة – أمة. دولة أمة متعددة إثنياً أو إثنو-دينياً أو مناطقياً، لكنها تبقى في نهاية المطاف دولة أمة. في الهند مئات اللغات، والفدرالية فيها على أساس لغوي، ولغة «الهندي» لا يجيدها معظم سكان الهند، وفي الهند تعددية دينية رغم الأكثرية الدينية الهندوسية الكبيرة، إنما المنقسمة داخلها بحسب نظام الطبقات الدينية الوراثية التراتبية (الكاست)، لكن الهند، على كل أشكال التعددية الثقافية هذه فيها هي أمة، تعيش في دولة – أمة فدرالية.
الفدرالية حيثما نجحت فهي نجحت كصيغة لبناء الدول – الأمم وليس لبناء شيء آخر غير الدولة – الأمة. أما في لبنان، فإن الدولة التي فشلت عملية توليد أمتها «من فوق» في استقلال 1943 و»من تحت وفوق» في 14 آذار 2005، و»من تحت» أولا في 17 تشرين 2019، فليست مصادر هذا الفشل تنقلب نجاحاً إن جرى اختيار السبيل الفدرالي، خاصة إذا كان هذا السبيل لا يعرف كيف يطرح نفسه «من فوق»، من موقع القيادة السياسية، ومن تحت، من موقع المد الجماهيري ومفاتيحه وآلياته.
مع ذلك، فإن «شبح الفدرالية» عصف بالبلد منذ ليلة 4 آب 2020 ولن يخفت هذه المرة على ما كانت حاله قبل ذلك. فشبح الفدرلة هذا لا يختزل اليوم في طارحي الفدرلة. أبداً. هؤلاء فرع على ظاهرة أشمل. جزء من حالة اقتناع أشمل بأن مشاريع بناء الأمة اللبنانية في كنف دولة مركزية (أو بمعنى أدق وحدوية، أي الدولة غير الفدرالية، غير الاتحادية) قد ذهبت إلى غير رجعة. بالتوازي، ما لا يقاربه الفدراليون ولا سواهم بعد، هو أنه، بمعيار تشكل الأمة، فإن شيعة لبنان باتوا أقرب ما يكون إلى التشكل، ليس كطائفة فقط، وإنما كطائفة – أمة، بخلاف بقية الطوائف، الأبعد عن تحقق كل واحدة منها كأمة، والتي لم يعد لها رصيد للتآلف في أمة متعددة الطوائف وتتسع للمتفلتين بنسب مختلفة من طوائفهم في نفس الوقت، على ما كانت هي الحال في 14 آذار.