وكان الجيش الإسرائيلي أعلن أنه استهدف ما قال إنها مستودعات أسلحة وبنى تحتية تابعة لـ”حزب الله”، لكن شهوداً من أبناء المنطقة نفوا لـ”اندبندنت عربية” أن يكون في المنطقة مواقع تابعة للحزب، وقالوا إن الغارات استهدفت منطقة صناعية تضم مصانع للزيوت، ومستودعات فيها مولدات كهربائية وطاقة شمسية، وصهاريج محملة بالمازوت ومواد قابلة للاشتعال.
لكن الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي قال إن قصف الغازية جاء رداً على سقوط المسيرة المجهولة، التي يحقق في ملابسات سقوطها في منطقة طبريا، والتي لم يتبنَ أحد إطلاقها، كما استهدف الطيران الإسرائيلي بأكثر من غارة عمق مدينة النبطية في جنوب لبنان.
“الغموض البناء”
يأتي ذلك في ظل تصعيد من قبل “حزب الله” وعمليات قصف متبادل لم تهدأ وتيرته منذ الثامن من أكتوبر، لكن التطور الأبرز جاء بعد إعلان مصادر إسرائيلية عن مقتل مجندة وإصابة ثمانية عسكريين بعضهم في حالة حرجة في قصف بالصواريخ شنه “الحزب” واستهدف قواعد عسكرية في محيط مدينة صفد بالجليل الأعلى، شمال إسرائيل، وهو ما اعتبره وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير “حرباً فعلية” يشنها الحزب على إسرائيل، ودعا “للتخلي عن الفرضية المعمول بها حالياً في الشمال مع لبنان”. وبدوره هدد قائد سلاح الجو الإسرائيلي تومر بار، بأن “(حزب الله) سيستمر بدفع الثمن في منظوماته”، مشيراً إلى أن هناك عشرات القطع الجوية التي تعمل في جنوب لبنان، وعند صدور الأوامر ستتحول العشرات إلى مئات لتنفيذ مهامها خلال لحظات من استدعائها”، علماً أن الحزب لم يتبن عملية صفد ولم يصدر أي بيان في شأنها، لكن مصادر قريبة من “محور الممانعة” قالت في حديث صحافي “إن عملية قصف صفد والرسالة من ورائها، دلت على استراتيجية جديدة يجري اعتمادها من قبل (حزب الله) تقوم على الغموض البناء”. وكان أمين عام الحزب وفي خطابه الأخير، في 13 فبراير الحالي، قال إن “على وزير الحرب الإسرائيلي الذي يتوعد بتوسيع العمليات الإسرائيلية ضد لبنان أن يدرك أنه إذا شن حرباً على لبنان فإن عليه تهيئة الملاجئ لمليوني مهجر إسرائيلي من الشمال لا 100 ألف فقط”. واعتبر أن العدوان الإسرائيلي على المدنيين في لبنان، “كان متعمداً”، وتوعد بالرد، وشدد على امتلاك قدرة صاروخية دقيقة، “قادرة على بلوغ إيلات”. وتابع “نحن في قلب معركة حقيقية في جبهة تمتد أكثر من 100 كيلومتر”، وأن مقتل عناصر من الحزب “جزء من المعركة”، مؤكداً أن “إطلاق النار من جنوب لبنان لن يتوقف إلا بانتهاء العدوان على غزة”. وفي استطلاع للرأي لصحيفة “معاريف” الإسرائيلية، أظهر أن 71 في المئة من الإسرائيليين يعتقدون أن على إسرائيل شن عملية عسكرية واسعة ضد لبنان، وإبعاد “حزب الله” عن الحدود.
تململ وخوف داخل “البيئة الشيعية”
لكن بين الاستهداف والغارات والقصف والتهديد بالرد من قبل إسرائيل و”حزب الله”، يسقط مدنيون كل يوم في الداخل اللبناني أو تدمر ممتلكاتهم وتتلف مزروعاتهم، أو يجبروا على النزوح خوفاً من أن يسقطوا نتيجة لاستهداف إسرائيلي. ومنذ بدء المواجهات، سقط 269 شخصاً في لبنان، بينهم 188 عنصراً من “حزب الله” و40 مدنياً، ضمنهم ثلاثة صحافيين، وفق حصيلة جمعتها وكالة الصحافة الفرنسية، لكن مصادر قريبة من “الثنائي الشيعي” (حركة أمل وحزب الله) قالت لـ”اندبندنت عربية” إن أكثر من 203 عناصر للحزب سقطوا، إضافة إلى 11 تابعاً لحركة “أمل”، بينما في إسرائيل، أحصى الجيش سقوط 10 جنود وستة مدنيين، وفقاً للوكالة الفرنسية. وفي ظل انهيار اقتصادي يعيشه لبنان منذ عام 2019، وما استتبع ذلك من أزمات اجتماعية وسياسية، يأتي التصعيد على الجبهة الجنوبية والتهديد الإسرائيلي بالاجتياح ليزيد هموم ومخاوف المواطن اللبناني مما تحمله الأيام المقبلة. وكان الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين، أكد أنه وعلى مدار الأشهر الثلاثة ونصف الماضية من الحرب في غزة، نزح نحو 80 ألف شخص من جنوب لبنان. وأشار في حديث إعلامي إلى “أن أعداد النازحين ازدادت في الفترة الأخيرة مع توسع رقعة العمليات العسكرية في المناطق الجنوبية”.
فكيف يتقبل الرأي العام اللبناني عموماً، وفي الجنوب خصوصاً، ارتفاع أعداد القتلى نتيجة الغارات الإسرائيلية، وهل هذا الأمر خلق حالة من التململ داخل بيئة “الحزب” خصوصاً والجنوبيين عموماً؟
“اندبندنت عربية” تحدثت إلى أكثر من مصدر داخل بيئة “حزب الله” وحركة “أمل”، وفيما تراوحت الإجابات بين مؤيد للحزب في حربه ضد إسرائيل وأخرى غير مؤيدة، كان القاسم المشترك بينهم جميعاً أن الناس وفي ظل الأزمات التي تضرب لبنان، تعيش قلقاً وخوفاً من اجتياح إسرائيلي بعد مشاهد الحرب الآتية من غزة.
في المقابل، ينفي الكاتب والصحافي قاسم قصير في حديثه مع “اندبندنت عربية” الكلام عن حالة تململ. ويقول “لا يوجد تململ والدليل حجم المشاركة في تشييع” المقاتلين الذين يسقطون جراء المواجهات. ويضيف أن “أهل الجنوب يعتبرون واجبهم الدفاع عن لبنان ونصرة فلسطين، ذلك أن التضحية طبيعية في سبيل الهدف”.
بدوره يقول الدكتور علي خليفة، أحد مؤسسي حركة “تحرر” الشيعية المعارضة، إن “الحركة تنظر إلى الحرب القائمة على أنها غير متكافئة ولا تفيد القضية، لأن قرار الحرب والسلم يحتاج إلى قرار دولة، ويتطلب حاضنة شعبية”. وتابع “نفهم هذا التهجم على كل من يجرؤ على رفع صوت معارض ضد هذه الحرب لئلا تنقلب الموازين بوجه من يجر لبنان إلى مواجهات عسكرية غير محسوبة”، مؤكداً أن “كل الحروب ليست بنزهة ونتائجها كارثية فكيف الحال بالظروف التي نعيشها من أزمات اقتصادية؟ كما هناك كلفة اقتصادية واجتماعية كبيرة للنزوح، وحزب الله الذي أعلن الحرب تخلى عن مسؤوليته في هذا الشأن”. وأشار خليفة إلى أن هذه الحرب غير محسوبة النتائج. أضاف “لا أتصور أن اللبنانيين عموماً والشيعة منهم خصوصاً قادرون على تحمل هذه النتيجة الكارثية”، مضيفاً أن “القوانين لا تقر بوجود مقاومة دائمة. والمقاومة حالة شعبية، وعندما لا يكون هناك محتل لا يستطيع أحد احتكار التحدث باسم المقاومة”. وتابع “نلمس خلال لقاءاتنا وجود تململ داخل البيئة الشيعية من جدوى استمرار الحرب، في وقت تدمر قرانا، وأهلنا باتوا نازحين داخل وطنهم”.
كيف سيبرر “حزب الله” فاتورته المرتفعة؟
من جهة أخرى، قال المحلل السياسي سمير سكاف إن عدد قتلى “حزب الله” منذ الثامن من أكتوبر وحتى اليوم تخطى عتبة الـ200 مقاتل، بينهم عدد كبير من القادة الميدانيين، هذا والحرب لم تبدأ بعد، في حين أن الحزب خسر خلال حرب يوليو (تموز) 2006 نحو 250 مقاتلاً، والتي شهدت قصفاً وطلعات الجوية ومعارك ومواجهات برية على مختلف الجبهات، بما في ذلك الدمار الهائل الذي لحق بالضاحية الجنوبية معقل “حزب الله”.
ويتابع سكاف أن الفكرة الأساسية كانت “أن الحزب يقدم هؤلاء الضحايا على طريق القدس، لكن ما يجري حالياً ينافي تلك الفكرة، لأن ضحايا الحزب يسقطون إما اغتيالاً أو عبر مسيرات تقصف بيوتاً وأحياء في المناطق الجنوبية، مما يعني أيضاً أن إسرائيل كسرت قواعد الاشتباك ولم تلتزم بالمناطق الحدودية، في المقابل ما زال (حزب الله) يحافظ على قواعد الاشتباك نفسها، وهذا الأمر غير مبرر أمام بيته وجمهوره، فهو يبدو وكأنه في حالة دفاعية”. ويشير المحلل سكاف إلى أنه “حتى الساعة، لا يزال حزب الله يلتزم قواعد الاشتباك وتوازن العمليات العسكرية، في مقابل تفوق إسرائيلي واضح عبر استهداف قياديي ومقاتلي الحزب بمسيرات تحقق أهدافاً دقيقة، متخطياً المناطق الحدودية بعدما وصلت الغارات إلى منطقة جدرا، التي تبعد نحو 70 كيلومتراً عن الحدود الشمالية مع فلسطين”.
ويردف سكاف أن “بيئة الحزب غير متفهمة للفاتورة المرتفعة التي تقدمها من أعداد الضحايا والدمار، وفي مقابل ماذا؟ حيث كان السيد حسن نصرالله قد أعلن أن الجبهة الجنوبية هي جبهة مشاغلة، وأنه استطاع إشغال ثلث الجيش الإسرائيلي، لكن ذلك لم يمنع الحرب في غزة، إضافة إلى أن تعداد الجيش الإسرائيلي يبلغ 170 ألف عسكري، إضافة إلى 550 ألفاً في الاحتياط، فهو ليس في حاجة إلى أن يشاغله (حزب الله) لأنه بكل الأحوال هو لا يشغل كل قواته حتى الآن، مما يعني أن التأثير في حرب غزة من قبل الحزب حتى الآن شبه معدوم”.
وكانت بعض التقارير أشارت إلى أن عدداً من القتلى الذين يعلن “الحزب” عن سقوطهم على الحدود الجنوبية، لا يسقطون كلهم هناك، بل إن بعضهم سقط فعلياً في سوريا، لكن في محاولة لاستقطاب جمهوره يعلن عن سقوطهم في المواجهة مع إسرائيل.