منذ منتصف التسعينات حتى منتصف شهر أغسطس 2019، كان سعر صرف الليرة مقابل الدولار ثابتًا عند 1507.5 ليرة للدولار. لكن المشهد تبدل ليتحرك السعر وبهامش ضيق إلى 1585 ليرة للدولار. تحرك للسعر لم تعرفه البلاد في أشد الظروف الأمنية التي عاشتها البلاد وأخطرها، من اغتيال رفيق الحريري في العام 2005، إلى الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006، مرورًا بإدراج شخصيات أمنية وسياسية من حزب الله على اللائحة السوداء الصادرة عن مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية “أوفاك”.
لا يخفى على أحد أن سياسة تثبيت سعر الصرف هي سياسة الحكومات المتعاقبة منذ التسعينات باتفاق مع سلامة آنذاك، نجح الأخير في المهمة من خلال إغراء المصارف بالفوائد العالية لاستقطاب العملات الصعبة من المودعين ومن ثم توظيفها لدى المصرف المركزي بفوائد عالية. حيث وظفت المصارف اكثر من 85% من ودائعها لدى المصرف المركزي، ليقوم الأخير بدوره بضخها في السوق لتمويل الاستيراد، فبحسب رياض سلامة بين العام 2016 ولغاية العام 2019 أنفق لبنان 66 مليار دولار على الاستيراد وتأمين حاجيات الدولة بالعملة الصعبة وتمويل الكهرباء التي بددت وحدها 24 مليار دولار. أما المصرفيون فيحاولون الهروب من مسؤوليتهم تجاه المودعين ليقولوا إنهم مولوا الاقتصاد وشجعوا الاستثمار فيه لتحريك عجلة النمو وتأمين فرص العمل فمنحوا قروضًا للقطاع الخاص وصلت حتى 60 مليار دولار. ومنحوا قروضًا للدولة اللبنانية أدت إلى زيادة الدين العام حيث وصلت نسبته في العام 2019 إلى نحو 174% من إجمالي الناتج المحلي.
“المركزي” اللبناني يؤجل إطلاق منصة جديدة لتداول العملات الأجنبية
تحولت التدفقات الخارجية إلى موجودات داخلية ثابتة نتيجة للسياسة التي اتُّبعت، وتحول الاقتصاد إلى الريع بدلًا من أن يكون قائمًا على الإنتاج، استسهل الاستيراد على تحريك الماكينة الاقتصادية من خلال ركائزها الأساسية ألا وهي الصناعة والزراعة.
ذوبان الودائع وتأجج نسب التضخم
بدأت كرة الأزمة تتدحرج باتجاه شح الدولار في السوق اللبنانية الذي يستورد أكثر من 85% من احتياجاته، ما يجعله في حاجة دائمة للعملة الصعبة، بدأت المصارف تقنن سحب العملة الصعبة والتحويلات إلى الخارج وتحدد سقفًا للسحوبات، فضلًا عن إعطائها أي حوالة خارجية بالعملة الصعبة بالليرة اللبنانية، وتوقفت عن تحويل الأموال لفتح الاعتمادات المستندية للاستيراد، ما دفع التجار للجوء إلى سوق الصيرفة لشراء الدولار وإيداعه في المصارف لتحويله للخارج لتغطية الاستيراد، ما أدى إلى وصول الدولار إلى 1600 ليرة لبنانية للدولار الواحد.
وعلى وقع الإضرابات التي شهدتها البلاد قرر حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، إصدار تعميم يحمل الرقم 530 في العام 2019 يقضي بتأمين دولار على سعر صرف 1507 ليرة للدولار الواحد لاستيراد المحروقات السائلة والقمح والأدوية. من هنا كرّت سبحة التعاميم ودخل لبنان دوامة تعددية سعر الصرف من بابها العريض.
نفاد الاحتياطي بالعملات الأجنبية والحاجة إلى إطفاء المطلوبات المتوجبة على المصارف للمودعين دفعا برياض سلامة وبمباركة من الحكومة، إلى اصدار سلة من التعاميم عززت تعددية سعر الصرف، فمثلًا التعميم 151 الصادر في العام 2020 والقاضي بإجراء سحوبات من المصارف بالليرة اللبنانية مانحًا الأخيرة غطاء لإجراء “هيركات” أو اقتطاع من الوديعة دون قانون يشرّع ذلك، وفي سعر أقل بكثير عن السعر الحقيقي للدولار في السوق الموازية بأكثر من 85%.
كما أصدر المركزي في العام 2021 تعميمًا يحمل الرقم 158 يقضي بسحب 800 دولار من المصارف 400 منها بدولار صيرفة. التعميم سعّر الدولار على 3900 ليرة لبنانية، ثم رفعه إلى 8000 بعدها إلى 12000 ثم إلى 15000 ليرة لبنانية. كل ذلك كان يجري على وقع ارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة إلى 140000 ليرة، ما يعني أن الاقتطاع من قيمة الدولار المصرفي بالسحب وصل إلى النقدي والـ 400 دولار الأخرى على سعر صرف 12000 ليرة ثم 15000 ليرة. أما منصة صيرفة التي استحدثها المصرف المركزي في العام 2021، فكان الدولار يسعر يوميًّا عليها، وبحسب البنك الدولي قدرت كلفته على المصرف المركزي بـ 2.4 مليار دولار.
وللحكومة نصيب من تعددية سعر الصرف هذا، وهي التي كانت تفاوض على برنامج تعاون مع صندوق النقد أحد أبرز شروطه الإصلاحية كان الخروج من تعددية سعر الصرف إلى سعر صرف عائم وموحد. ولكنها بالمقابل كانت تعمد إلى تسعير موازنته على سعر 10000 ليرة للدولار الواحد، وتلاطف المحظيين من تجار باعتماد سعر دولار جمركي يعود تحديده لوزير المال.
بين العام 2019 والعام 2021 سجل التضخم التراكمي معدلًا وصل إلى 637%. وهي السنوات التي لجأ فيها حاكم مصرف لبنان السابق إلى ذريعة الدفاع عما تبقى من احتياطات لديه لتمويله الحاجيات الأساسية للبلاد.لكن سلامة الذي أعلن في آخر أكتوبر من العام 2019 أنه يملك 34 مليار دولار يمكن استخدامها، ختم عقوده الثلاثة بأقل من 8 مليار دولار في احتياطي المركزي وبثلاثة أسعار صرف.
إدارة جديدة للمصرف المركزي وسياسة استقرار سعر الصرف تعددية سعر الصرف كانت أكثر النقاط التي أثارت ريبة وفد صندوق النقد الدولي، إذ اعتبر أن هذه السياسة تسببت باختلال النشاط الاقتصادي وتقويض عمل القطاع العام وعززت بيئة الفساد من خلال سعي للربح نتيجة المضاربة على الليرة. كما أدى إلى استنزاف الاحتياطي بالعملات الأجنبية لدى المصرف المركزي بسبب ضخ المصرف المركزي المتكرر لدولار لتمويل منصة صيرفة وقبلها سياسة الدعم.
ومع تولي حاكم مصرف لبنان وسيم منصوري، حاكمية مصرف لبنان، كان أول القرارات المهمة لمجلسه المركزي وقف مديونية الدولة، وإلغاء كل التعاميم التي تلزم المودعين بالسحب بالليرة اللبنانية. أما بالنسبة لتعددية سعر الصرف فقد ألغى الحاكم الجديد منصة صيرفة فور استلامه مهامه في الأول من آب / أغسطس 2023، وأرسى ذلك استقرارًا نقديًّا وتوحيدًا فعليًّا لسعر الصرف مع السوق الموازية على سعر 98500 ليرة للدولار الواحد، ولا يزال هذا السعر مستقرًا لغاية تاريخ كتابة هذه السطور.
لم تصدر موازنة للدولة في العام 2023 وبالتالي فقد اعتُمِدت القاعدة الاثني عشرية، أي موازنة العام 2022 نفسها للعام 2023، واعتمدت سعر الصرف بـ 15000 ليرة، وهو نفسه لسحوبات المودعين.
وفي الثاني من فبراير 2024، وبالتزامن مع نشر موازنة الدولة للعام 2024 في الجريدة الرسمية، والتي اعتمدت سعر الصرف الذي يحدده مصرف لبنان، أصدر المصرف المركزي تعميمًا يحمل الرقم 167 ينص على توحيد سعر الصرف على سعر واحد، وهو السعر الذي سيتم على أساسه تقييم ميزانيات البنوك وفقًا للسعر المستقر عند 89500 ليرة. كما أن موازنة العام 2024 أنهت العمل بسعر الصرف 15000 والذي اعتمد سعرًا مرجعيًّا لموازنة 2022، وهذا الأمر دفع المصرف المركزي لإصدار التعميم 167 الذي أدى إلى توحيد أسعار الصرف كلها.
وقد أصدر المجلس المركزي تعميمين أساسيين، التعميم رقم 158 والتعميم 166 اللذين يسمحان بسحوبات شهرية للمودعين تتراوح بين 400 دولار و300 دولار و150 دولارًا، وبلغ عدد المستفيدين منها حتى نهاية شهر نوفمبر من العام 2024 أكثر من 430 ألف مودع، بإجمالي مبلغ تخطى 3.6 مليار دولار، في وقت كان المصرف المركزي يعتمد أسلوبًا معاكسًا للسياسات النقدية السابقة التي أدت إلى انفلاش الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية واستنزاف الاحتياطي لدى المصرف المركزي. الخطة قضت باعتماد سياسة التشدد النقدي حيث تحول المصرف المركزي إلى بائع لليرة اللبنانية عبر المصارف للشركات والأفراد، وهذا ما مكنه من زيادة الاحتياطي بالعملات الصعبة إلى ما يزيد عن 10.3 مليار دولار مع تطبيق كامل لمعايير مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.
منصة بلومبرغ أين أصبحت؟
كان من المخطط لمنصة بلومبرغ ان تنطلق في الأول من كانون الأول 2023، ولكن أسباب قاهرة عديدة أدت للتأخر بإطلاقها، أولها ما حصل في الثامن من تشرين الأول / أكتوبر، من بداية للحرب على الشريط الحدودي ومن ثم تراكم الأحداث الأمنية طيلة العام الماضي، وترافق ذلك مع منع الأجانب من القدوم الى لبنان، كما اشتراط صندوق النقد اطلاق المنصة مع إقرار إصلاحات اقتصادية، ما جعل من انطلاقة هذه المنصة غير ذات أهمية وبموافقة صندوق النقد، فالظرف استثنائي لا يتضمن الأجواء المطلوبة لانطلاق مثل هذه المنصة التي ستحدد المشهد النقدي للمرحلة المقبلة، كما أنه عندما أُعلِن عن قرب إطلاق منصة بلومبرغ كانت البيئة الاقتصادية مختلفة عمّا آلت إليه الأمور في العام 2024 حيث انكمش الاقتصاد بنسبة 10% بحسب وكالة موديز.
الجدير بالذكر أن الهدف من منصة بلومبرغ هو الوصول إلى سعر صرف عائم وموحد وفقًا للعرض والطلب في السوق، على أن يتدخل المصرف المركزي عند اللزوم لمنع أيّ تدهور للعملة الوطنية.
كل ذلك يقود إلى استنتاج واحد، أن اعتماد المعايير القانونية التي نص عليها قانون النقد والتسليف وتنظيم القطاع المصرفي كان مغيبًا طيلة الفترة السابقة. وأن عودة الأمور إلى السكة الصحيحة قد بدأت مع طوي صفحة سلامة كليًّا. ليس بالأمر السهل أن يعلن الحاكم بالإنابة ونوابه وقف مديونية الدولة ووقف ضخ الدولار بالسوق عبر سياسات الدعم. هم وفقًا لقانون النقد والتسليف، باعوا الليرة اللبنانية للشركات والأفراد، ما مكنهم من زيادة الاحتياطات، وقد أعادوا ضخها في السوق عبر إعطائها للمودعين. ولكن هذا الأمر غير كافٍ، فثمة قوانين وجب إقرارها بعد دخول الأزمة عامها السادس، أولها وأهمها قانون إعادة هيكلة المصارف، وتحديد الفجوة المالية وتوزيع المسؤوليات بين الدولة والمصارف والمصرف المركزي. إعادة الانتظام المالي ضروري، وإلّا فإن دوامة التعثر المالي ستبقى تحكم المشهد للسنوات المقبلة.