منذ دخول إيران وأذرعها المسلحة إلى المنطقة على خط المواجهات الدائرة بين إسرائيل وحركة “حماس” في قطاع غزة، صعد إعلامياً بقوة الصاروخ مصطلح “قواعد الاشتباك”.
لكن التركيز على هذا المصطلح العسكري ارتفعت أسهمه في البورصة الإعلامية مع زيادة مؤشرات المواجهة بين إسرائيل و”حزب الله” منذ إعلان الأخير دعم الجبهة الجنوبية اللبنانية “كجبهة إسناد” للقطاع.
ومع اندلاع حرب غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، نقلت وكالة “رويترز” عن متحدث عسكري إسرائيلي قوله إن “قواعد الاشتباك في الشمال (الحدود مع لبنان) شديدة الوضوح، وسيتم إطلاق النار على أي شخص يقترب من الحدود”.
أما “حزب الله” نفسه، فقالت مصادر مقربة منه إنه “لا يريد حرباً، ولكن الدم مقابل الدم، فهذه هي المعادلة التي يعمل على أساسها، وكل فعل إسرائيلي سيلقى رد فعل من جانب الحزب، وفي ما يخص توسع دائرة المعارك فهذا يرتبط بالتطورات في فلسطين”.
أيضاً وبعد الرد الإيراني على إسرائيل، في الـ13 من أبريل (نيسان) الماضي الذي جاء مباشرة بعد قصف مبنى ملحق بالقنصلية الإيرانية لدى دمشق، وذهب ضحيته قائد “فيلق القدس” في سوريا ولبنان وفلسطين العميد محمد رضا زاهدي، قيل حينها إن طهران كسرت “قواعد الاشتباك” لأنها قررت الرد مباشرة.
وعلى رغم تلقيها سابقاً عشرات الضربات الإسرائيلية، منها اغتيال عدد كبير من العلماء، ثم استهداف لمنشآت نووية في الداخل الإيراني، إلا أن طهران لم ترد إلا عبر وكلائها في المنطقة أو على أرض ثالثة، لذلك فسر ردها على أنه تغيير في قواعد اللعبة.
إذاً فما هو مفهوم “قواعد الاشتباك” وما هي ضوابطه ومن يحددها ومتى ظهر على الساحة الدولية؟.
“قواعد الاشتباك” هو مصطلح متداول في المجال العسكري ويدرس في العلوم العسكرية، وفقاً لتعريف الموسوعة البريطانية “بريتانيكا”.
وتشير قواعد الاشتباك إلى الأوامر الصادرة عن سلطة عسكرية متخصصة في بلد ما، تحدد متى وأين وكيف ومن يمكنه استخدام القوة العسكرية، كما أن لها آثاراً على الإجراءات التي قد يتخذها الجنود على سلطتهم الخاصة والتوجيهات التي قد يصدرها قائد، أي إنها توفر تفويضاً محدداً للقوات العسكرية للجوء إلى القوة.
وتعد “قواعد الاشتباك” جزءاً من الاعتراف العام بأن الإجراءات والمعايير ضرورية لسير وفاعلية الحرب المتحضرة، لكنها لا تحدد عادة كيفية تحقيق النتيجة، بل تشير إلى الشروط التي لا تكون مقبولة.
ووفقاً لتعريف حلف شمال الأطلسي (ناتو)، فهي إيعازات تصدر من جهة عسكرية مأذونة ترسم الظروف والحدود التي يسمح فيها للقوات المسلحة بالشروع في الاشتباك أو مواصلته. ولا توجد قواعد متوافق عليها دولياً، بل إن كل جيش في كل بلد يحدد “قواعد الاشتباك” الخاصة به، لكل معركة أو عملية عسكرية قد يقوم بها. ولا يسمح باستعمال القوة إلا في ثلاث حالات، وهي الدفاع عن النفس ومساعدة أشخاص في حال خطر وفي نزاع مسلح دولي ورد عدوان وفي حال الإذن باستخدام القوة.
اتفاقية جنيف
تاريخياً بدأ الحديث عن “قواعد الاشتباك” في منتصف خمسينيات القرن الماضي خلال الحرب الباردة، وجاءت فكرة تنظيم الحروب في معاهدات واتفاقات دولية عدة، أهمها “اتفاقية جنيف” التي تنظم معاملة المدنيين وأسرى الحرب.
وفقاً للاتفاقية فإن “أسرى الحرب هم في العادة من أفراد القوات المسلحة التابعة لأحد أطراف النزاع الذين يقعون في قبضة العدو. وتصنف اتفاقية جنيف الثالثة لعام 1949، فئات أخرى من الأشخاص الذين يحق لهم التمتع بوضع أسرى الحرب أو يمكن معاملتهم باعتبارهم أسرى حرب. ولا يمكن ملاحقة أسرى الحرب بسبب مشاركتهم المباشرة في العمليات العدائية. ولا يكون احتجازهم شكلاً من أشكال العقوبة وإنما يهدف فقط إلى منع استمرار مشاركتهم في النزاع”.
وتكفل “اتفاقية جنيف” الرابعة لعام 1949 والبروتوكول الإضافي الأول كذلك “حماية واسعة النطاق للمعتقلين المدنيين خلال النزاعات المسلحة الدولية. ويجوز لأحد أطراف النزاع وضع أشخاص مدنيين تحت الإقامة الجبرية أو اعتقالهم إذا كان هناك من الأسباب الأمنية القهرية ما يبرر ذلك”.
وبذلك، يكون الاعتقال إجراء أمنياً ولا يمكن اللجوء إليه كنوع من أنواع العقوبة، ويعني ذلك أن كل شخص معتقل يجب الإفراج عنه إذا لم تعُد الأسباب التي استلزمت اعتقاله موجودة.
يذكر أنه ومنذ تفجيرات ثكنات بيروت عام 1983، أضيف تحذير إلى “قواعد الاشتباك” الأميركية ينص على أن لدى جميع الأفراد حقاً أصيلاً في الدفاع عن النفس، وطُوّرت “قواعد الاشتباك” في وقت السلم لتميز بين الأعمال العدائية والنوايا العدائية، وشددت على أن الرد يجب أن يكون مناسباً لمستوى التهديد.
قبل تطوير ذلك، كانت “قواعد الاشتباك” تعمل فقط على توجيه الإجراءات في زمن الحرب، ثم تم تمييز هذه التوجيهات على أنها “قواعد اشتباك” في زمن الحرب، وعام 1994 جرى استبدال “قواعد الاشتباك” في زمن السلم بهيئة الأركان المشتركة التي تنص على أن استخدام القوة يجب أن يكون متسقاً أيضاً مع القانون الدولي، وفقاً لموسوعة “بريتانيكا”.
أهداف قواعد الاشتباك
وفقاً للمحلل العسكري والأمني عبدالله أمين، فإن أهم أهداف “قواعد الاشتباك”، “هي حماية الجبهة الداخلية للدولة والمجتمع من خلال الإظهار للعدو أنه في حال تعديه عليها، فإنه سيواجه بردّ يجبي منه ثمناً أكبر بكثير مما حقق من مكاسب عندما استهدف جبهتنا الداخلية بالنار والدمار”.
ويتابع أن “من الأهداف أيضاً تقصير المدى الزمني للحرب، فالحرب للمنتصر فيها والمهزوم، ولها كلف تجبى وأثمان تدفع، وكلما طال زمنها زادت كلفتها، لذلك يحرص طرفا الحرب على إنجاز مهماتها وتحقيق أهدافها بأسرع وقت وبأقل الأثمان، وهنا تظهر أهمية قواعد الاشتباك”.
ويرى أن من بين الأهداف “تقييد القدرات الدفاعية والهجومية للعدو، فكلما صعد طرف من استخدام القدرات القتالية دفاعاً وهجوماً، فإن الطرف المقابل له سيصعد هو الآخر من إجراءاته واستخدامه لقدراته، مما يعني زيادة الكلف وإطالة المدد”.
ولعل تحديد إطار ضمني للمراحل التعبوية للعملية العسكرية لجهة الأهداف والوسائط القتالية المستخدمة، تضمن منع كل طرف للآخر من كفاءة أعماله أثناء العمليات عبر تدمير وسائط ووسائل القيادة والسيطرة التي تدار من خلالها المعارك، علاوة على “تقييد جغرافيا العمليات العسكرية ومنع توسعها، فتقل بذلك الأضرار ولا يتسع الدمار”.
ووفقاً لأمين، فإنه “من الأهداف ضبط وتحديد أوامر القوات المناورة منها والإسناد، وهي أوامر ينص عليها في متون محكمة غير حمالة أوجه ولا تترك لفهم المقاتل أو القائد، كما أنها واجبة الرعاية والإجراء ويحاسب من يخالفها، ما لم يفرض تطور الموقف الميداني على المقاتل النكوص عنها أو التحلل منها، بصورة دائمة أو موقتة، فمن أهم ما يحدد طبيعة وشكل هذه الأوامر مضافاً إلى المهمة، قواعد الاشتباك المنصوص عليها في ملحقات الخطط ومدونات السلوك”.
القرار 1701
في الـ11 من أغسطس (آب) 2006، تبنى مجلس الأمن الدولي بالإجماع القرار رقم 1701 الذي يدعو إلى وقف كامل للعمليات القتالية في لبنان، بعد حرب استمرت من الـ12 من يوليو (تموز) إلى الـ14 من أغسطس من العام نفسه، وجرى تحديد أطر عرفت بـ”قواعد اشتباك” بين “حزب الله” وإسرائيل، وتتمثل في أن أي رد سيقابله رد مماثل، لكن حصلت خروقات عدة منذ ذلك الحين، ولم تتطور إلى حرب أو معركة.
هنا يقول رئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والعلاقات العامة العميد الركن هشام جابر إن “قواعد الاشتباك ليست بمثابة اتفاق موقع، بل هي كناية عن واقع وتفاهم غير مباشر وأيضاً غير رسمي، لذلك تعتبر مساومة بين طرفين، وكل طرف يحرص على احترام حدود النزاع وعدم تجاوزه، حتى لا تتسع دائرة التصادم المسلح ومن ثم تتدحرج الأمور”.
ويضيف أنه “أحياناً لا يوجد اشتباك مسلح إنما نزاع، ولتلافيه هناك قواعد تلتزمها دول النزاع، على نسق الصراع الذي كان قائماً بين الاتحاد السوفياتي وأميركا مطلع الستينيات، وحصلت أزمة الصواريخ الكوبية، واعتبرت واشنطن أن موسكو خرقت قواعد النزاع، وكانت ستقع حرب عالمية وقتذاك لكن تم نزع الصواريخ الكوبية على أيام جون كينيدي بعد تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة في يناير (كانون الثاني) 1961”.
ويوضح جابر “أن قواعد الاشتباك في الجنوب أرسيت عام 2000 بعد التحرير حيث رسم الخط الأزرق ودام احترام قواعد الاشتباك والتقيد بها حتى عام 2006. وبعد أن نفذت إسرائيل عدوانها تم تثبيت قواعد اشتباك جديدة ولكن هذه المرة دامت لنحو 12 عاماً أي حتى 2018، حينذاك حصل خرق عندما قصف ’حزب الله‘ دورية مدرعة في الجليل الأعلى، رداً على توسيع رقعة القصف الإسرائيلي على محيط بلدة كفر شوبا”.
قواعد اشتباك “بالتراضي”
في المقابل، يرى الباحث في الشؤون الاستراتيجية رياض قهوجي أن “أفضل مثال على نجاح سياسات الردع النووي كان ما فعلته الولايات المتحدة خلال ما يعرف بأزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، عندما نشر الاتحاد السوفياتي صواريخ باليستية نووية في كوبا قبالة السواحل الأميركية، مما اعتبرته واشنطن تهديداً وجودياً، وأعطت إنذاراً لموسكو بسحب الصواريخ خلال أيام قليلة، أو أن تواجه ضربة نووية استباقية”.
حينها حركت واشنطن قاذفاتها وأساطيلها وصواريخها الباليستية، مما دفع القيادة السوفياتية إلى التراجع في آخر لحظة وسحبت صواريخها من كوبا.
ويتابع أن “الدول غير النووية تتجنب عادة أي صراع عسكري مع دول نووية لأنها تدرك أن تطور النزاع بصورة كبيرة يمكن أن يؤدي إلى تعرضها لضربة نووية”، مردفاً أنه “في إطار الصراع بين إيران والولايات المتحدة الذي بدأ منذ الثورة الإسلامية عام 1979، فإن واشنطن خاضت مواجهتين عسكريتين مباشرتين مع طهران. الأولى عام 1988 عندما اصطدمت فرقاطة أميركية بلغم بحري إيراني قرب مضيق هرمز، فردّت واشنطن فوراً بتوجيه ضربات عدة تسببت في إغراق خمس سفن حربية إيرانية من بينها فرقاطة وإسقاط مروحية وتدمير منصتين بحريتين للحرس الثوري”.
ويشرح أن “إيران لم تردّ حينها وتجنبت منذ ذلك اليوم أي احتكاك عسكري مباشر مع أميركا، لكن المواجهة المباشرة الثانية أخذت شكلاً آخر، وبدأت عندما أسقطت طهران في يونيو (حزيران) 2019 طائرة مسيّرة أميركية كبيرة للمهمات الاستراتيجية كانت تحلق فوق مياه الخليج قبالة السواحل الإيرانية”.
لكن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب ألغى هجوماً جوياً على قواعد إيرانية بحجة أن الطائرة لم تكُن مأهولة ولم يسقط أي ضحايا أميركيين، لذا لا داعي لردّ سيؤدي إلى حرب، وهذه كانت إشارة ضعف تلقفتها القيادة الإيرانية.
إشارة أخرى بين واشنطن وطهران جاءت بعد اغتيال قائد “فيلق القدس” الجنرال قاسم سليماني في مطلع عام 2020 بأوامر من ترمب للتعامل مع التهديد الإيراني، ثم توصّل إلى اتفاق مع طهران سمح لها بقصف قاعدة جوية أميركية في العراق في وقت محدد يكون فيه الجنود الأميركيون داخل الملاجئ. وشهد العالم أمراً غير مسبوق، إذ قصفت دولة إقليمية قاعدة لقوة عظمى نووية من دون أي ردّ من الأخيرة، بل برضاها.