لم يَعُدْ مفاجئاً في «بلد العجائب» أن يكون العالمُ مُنْهَمِكاً في «حرب الممرات المائية» المتفرّعة من «طوفان الأقصى» الذي مازال يفيضُ دماً ودماراً في غزة، فيما لبنان «غارق في شبر ماء» من أمطار على غزارتها ولكنها «أطفحت كأساً» محشواً بالإهمال وتَقاذُف المسؤولياتِ عن بنى تحتية وطرق استهلكت نحو 30 مليار دولار في 3 عقود ولكنها لا تودي إلا إلى… «مَغارة الفضائح».
وفيما كرة النار على الجبهة الجنوبية تتأجّج أكثر منذرةً بمساراتٍ يُخشى أن تكون «حارقةً» لِما يُعتقد أنه «خطوط أمان» تكبح حتى الساعة الانفجارَ الشامل، بدا صوت «إني أغرق» أعلى من دويّ المواجهات التي تَمْضي في ارتقائها الكَمّي والنوعي على إيقاع محاولاتٍ إسرائيلية لحفْر وقائع على الحدود مع لبنان وكأنها «نصْب مكامن» جعلتْ معها تل أبيب القرار 1701 وإبعادُ «حزب الله» عن جنوب الليطاني «مصيدةً» تريد إيقاع الحزب فيها ما أن تُنْهي «افتراس» غزة.
وجاءتْ ارتداداتُ «رسالة من تحت الماء» التي طفت على سطح بحار وأنهر جديدة وُلدت من قلب فيضاناتٍ تَسَبَّبَ بها مزيجٌ «فتّاك» من أمطار طوفانية وإهمال مُتراكِم حوّل مناطق وطرقاً عدة «بالوعة» التهمت سيارات وحاصَرَت عشرات المواطنين (ليل الجمعة – السبت) وأودت بأربعة أطفال سوريين في الشمال، لتُنافِس «مثلث» الرسائل الخطيرة التي تطايرتْ في سماء المنطقة:
– مع تصريحاتِ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن مواصلة القتال «حتى نحقق أهدافنا بالقضاء على حماس وإعادة المخطوفين (…) وقد أبدى الرئيس الأميركي جو بايدن تَفَهُّمه لذلك».
– ومع تمدُّد المواجهة على «رقعة الشطرنج المائية» من البحر الأحمر إلى المحيط الهندي على وهج تهديد الحرس الثوري الايراني بـ «إغلاق البحر المتوسط وجبل طارق وممرات مائية أخرى قريباً إذا لم توقف إسرائيل حربها ضد حماس».
– ومع توجيه البنتاغون الاتهام الأول من نوعه«وبالإصبع»لإيران بأن الطائرة المسيّرة التي استهدفت ناقلة مواد كيميائية (السبت) قُبالة سواحل الهند«أُطلقت منها».
وشكّلتْ هذه الوقائع إشاراتٍ أكثر من مُقْلِقَة حيال ما ينتظر المنطقة من سيناريوهات مفتوحة على أسوأ الاحتمالات في ضوء اتساع حجم «الشِباك» التي صار أكثر من طرف إقليمي ودولي عالقاً فيها، بفعل التعقيدات التي تتراكَم ويُخشى ألّا يعود ممكناً تفكيكها إلا «بصعقة كهربائية» بشحناتٍ بالغة الخطورة، وبات جنوب لبنان في مرماها.
وإذ شهدتْ أكثر من منطقة جنوبية حدودية أمس مَظاهر احتفالية بالميلاد في «علامةِ صمودٍ» ورفْضٍ لأن تُسْكِتَ نيرانُ المدافع والطائرات الحربية نورَ العيد، فإنّ منسوبَ المَخاوف الكبرى بَقِيَ على تَصاعُده من تطوراتٍ عسكرية يومية وكأنها من ضمن «أمر عمليات» للطرفيْن المتقاتليْن (إسرائيل وحزب الله) بإقامة استحكاماتٍ متقابلة في سياقاتِ حرب غزة ولمرحلةِ ما بعدها، سواء تحت عنوان «ستكون غزة ثانية في لبنان بحال صعّد الحزب هجماته، ولا مكان له جنوب الليطاني أو في نطاقٍ جغرافي يشكل خطراً على سكان مستوطنات الشمال» كما تعلن تل أبيب، أو «لا وقف للاشتباكات قبل وقف العدوان على غزة، ولن نصغي لترهات، فمَن ينبغي أن ينسحب ويبتعد عن الحدود هم الغزاة، وليس أهل وأبناء القرى (الجنوبية)»، وفق مسؤولين في «حزب الله».
وفي حين كان الجيش الإسرائيلي يعلن أمس أن «حزب الله» يواصل توريط سكان لبنان وإخلاء المنطقة الجنوبية من سكانها، لم يهدأ الميدان على هذه الجبهة حيث أغار الطيران الحربي بثلاثة صواريخ على منطقة واقعة بين بلدتي الطيبة ورب ثلاثين على أحد المنازل، كما جرى استهداف مبنى مدرسة حبيش الجديدة في حارة «الشمسيات» (في الطيبة) بقذيفة.
ومع تكرار إسرائيل استهداف المنازل السكنية مباشرة وبينها منزل في مركبا غداة قصف منزل في عيترون سقط فيه حسين سلامة (نعاه «حزب الله» الذي خسر أيضاً عنصريْن آخريْن وفق ما أعلن السبت وحتى بعد ظهر الأحد)، بالتوازي مع قصف مدفعي لعدد كبير من البلدات الجنوبية، مضى الحزب في عملياته فأعلن عصراً أنه «رداً على الاعتداءات الصهيونية المتكرّرة على القرى والمنازل المدنية استهدفنا مستعمرة أفيفيم (قرية صلحا اللبنانية المحتلة) بالأسلحة المناسبة، حيث تمّت إصابة أحد المباني السكنية ووقوع إصابات مؤكدة».
وكان الحزب أكد قبْلها أنه استهدف بـ«الصواريخ مرابض مدفعية العدو في (ديشون) بالأسلحة الصاروخية».
وسبق ذلك إعلان وسائل إعلام إسرائيليّة أنه تمّ إغلاق عدد من الطرق في منطقة الجليل الأعلى عند الحدود مع لبنان بسبب الوضع الأمني والتحذيرات من إطلاق صواريخ مضادة للدروع منه. كما أشارت صحيفة «يديعوت أحرونوت» إلى أنه «جرى أيضاً إغلاق عدد من المستوطنات في المنطقة المذكورة خصوصاً تلك التي تبعد عن الحدود مسافة تصل إلى 4 كيلومترات باستثناء كريات شمونة»، متحدثة عن «إغلاق عددٍ المستوطنات في الجليل الغربي أيضاً، وهي: ليمان، باتز، روش حنكارا، شلومي، متسفاه، أدميت، عرب العرامشة، إيلون، غورين، غيرنوت، شومرة، زرعيت، شتولا، ميت، وغيرها».
الحياد الإيجابي
في موازاة ذلك، برز موقف للبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أعلن فيه أنه «في سياق امتداد الحرب الدائرة بين إسرائيل وحماس في قطاع غزّة، إلى جنوب لبنان خلافاً لقرار مجلس الأمن 1701، ووقوع ضحايا لبنانيّة، وهدم منازل، واتلاف بساتين وأحراش، وتهجير أهلنا هناك، نكرّر وجوب عودة لبنان إلى ذاته، أي إلى حياده الإيجابيّ الناشط في رسالته، كأرض للتلاقي والحوار، وكصاحب دور في حلّ النزاعات بالطرق السلميّة، وكمدافع بالطرق الديبلوماسيّة عن الحقوق المسلوبة في أي بلد عربيّ، وفي طليعتها حقوق الشعب الفلسطيني بالعودة إلى أرضه، وبإقرار دولة خاصّة به».
وقال الراعي في عظة الأحد: «ليس حياد لبنان أمراً جديداً أو ابتكاراً. بل هو من صميم هويّته. فيرقى إلى سنة 1860، زمن المتصرّفيّة، فإلى ما قبل إعلان دولة لبنان الكبير بشهرين، وتحديداً في 10 يوليو 1920، إذ أعلنه مجلس إدارة المتصرّفيّة حياداً سياسياً بحيث لا يحارِب ولا يحارَب، ويكون بمعزلٍ عن أيّ تدخّل حربيّ. ثمّ تكرّس الحياد في الميثاق الوطنيّ (سنة 1943) بحيث «ينعم لبنان بالاستقلال التام عن الدول الغربيّة والعربيّة. فلا وصاية ولا حماية، ولا امتياز، ولا مركز ممتازاً لأيّ دولة من الدول… (الشيخ بشارة الخوري)».
وأضاف: «ومذ ذاك الحين ظهر الحياد أو التحييد في جميع البيانات الوزاريّة. ويجد حياد لبنان جذوره أيضاً في ميثاق جامعة الدول العربيّة سنة 1945، وفي مجمل أعمالها الإعداديّة ومداخلات اللبنانييّن. فكان الإجماع على أن يكون(لبنان دولة مساندة لا دولة مواجهة)، وأن يكون لبنان عنصر تضامن بين العرب، وليس عامل تفكيك وتغذية للنزاعات العربيّة، وخروجاً عن التضامن العربيّ لصالح إسترتيجيّات لا تخدم المصالح العربيّة المشتركة. ثمّ كان(بيان بعبدا) في 11 يونيو 2012 الذي وافقت عليه بالإجماع الكتل السياسيّة مؤكّداً حياد لبنان بتعبير(النأي بالنفس)، واعتمده مجلس الأمن من بين وثائق. وفي 19 مارس 2015، طالب الفئات اللبنانيّة بتطبيقه نصاً وروحاً».