منتصف مارس/آذار الماضي، سجّلت الليرة اللبنانية في تعاملات الأسواق الموازية انهيارا غير مسبوق في تاريخها حيث لامست 145 ألف ليرة لكل دولار واحد، مع استمرار الأزمات النقدية والمالية والسياسية في البلاد.
هذا السعر الذي وصفه اللبنانيون بـ”الجنوني” لم يدم طويلاً، حيث انخفض بوتيرة بطيئة مع مطلع أبريل/نيسان الجاري، مترنحا بين 95 ألف ليرة و98 ألف ليرة لبنانية، وما يزال هذا السعر صامدا لغاية اليوم.
لكن ليس سراً، أن السوق السوداء للعملة، أصبحت صاحبة الكلمة العليا في أسعار الصرف، وسط تراجع حاد في اعتماد سعر الصرف الرسمي بين المواطنين، وحتى تجارياً.
في حديث مع الأناضول، يرى الخبير الاقتصادي والمصرفي نسيب غبريل أن “السوق الموازية لسعر صرف الدولار في لبنان، تحدد أسعار الصرف بناء على قواعد غير شفافة”.
وبدأ انتعاش السوق الموازية للعملة، اعتبارا من أغسطس/آب 2019، بسبب شح السيولة بالعملات الأجنبية في الاقتصاد اللبناني، نتيجة تراجع تدفق رؤوس الأموال إلى لبنان.
ومنذ 2019، يعاني اللبنانيون أزمة اقتصادية طاحنة غير مسبوقة، أدت إلى انهيار قياسي بقيمة الليرة، فضلا عن شح الوقود والأدوية وانهيار القدرة الشرائية.
وهذا ما جعل، البنك الدولي يصف الأزمة في لبنان عام 2021، بأنها “الأكثر حدة وقساوة في العالم”، وصنفها ضمن أصعب ثلاث أزمات سجلت في التاريخ منذ أواسط القرن التاسع عشر.
** استقرار الدولار الموازي
وعن سبب استقرار سعر الصرف اليوم، يوضح غبريل أن “السوق الموازية كونها غير شفافة ولا تخضع لأي قانون، يتحكم فيها المضاربون وتجار الأزمات، والمضاربة فيه تؤدي إلى وصوله إلى سعر غير حقيقي”.
بينما يشير إلى أن “السعر الحقيقي يحدده العرض والطلب في السوق عند توحيد أسعار الصرف، من دون الحاجة لوجود سعر رسمي، أي أن العرض والطلب هما يقرران سعر الدولار، لكننا اليوم نحن بعيدين عن هذا الامر”.
ويرجع سبب وجود السوق الموازية إلى “الشلل المؤسساتي وعدم وجود نية للإصلاح، والمضاربة على سعر صرف الدولار في السوق الموازية وتجار الأزمات”.
من جهته، يرى الخبير الاقتصادي لويس حبيقة، أن “سببين أديا إلى وجود هذه السوق وتحرّكها، وهما الأوضاع السياسية والاقتصادية التي تتدهور بحدة، إضافة إلى تأقلم الناس مع تغيرات سعر الصرف وصمتهم عن الشكوى حيال ما يحصل”.
وعن سبب شبه الاستقرار الذي نراه اليوم في السوق الموازية، يشير لـ”الأناضول” إلى أنه “في السابق كانت الأوضاع في البلاد تتدهور بشكل كبير، أما اليوم فالأزمة طالت والوضع اليوم لا يتردى كالسابق”.
ويتابع أن “الوضع مستقر سلبيا، وهنا تخف تغيرات سعر الصرف”.
** ارتفاع بعد الأعياد؟
في السياق، توالت الأحاديث والكلام عن أن الليرة ستسجل انهيارا جديدا عقب أعياد الفصح والفطر في البلاد، إلا أن خبراء اقتصاديين نفوا هذا الأمر.
ويصف حبيقة هذه الإدعاءات بأنها مبنية على “قلة معرفة”.
وتوافق كلامه مع غبريل الذي يرى أن هذا الكلام لا أساس له، “وهو تهويل فلا عامل اقتصادي يبرر الحركة بالسوق الموازية.. أي أن هذا الكلام غير مبني على أي أساس عملي”.
بالتالي، يلفت حبيقة إلى أنه “ليس مستحيلا أن يرتفع الدولار في لبنان من جديد، فهو متوقع أن يرتفع في حال استمرار الأزمات لكن لا علاقة للأعياد بذلك”.
**من أين تأتي الدولارات؟
الأموال المحولة من المغتربين لأهلهم، هي الجهة الأساس لدخول الدولار إلى لبنان اليوم.
وهذا ما يؤكده غبريل الذي يشير إلى أن الأموال في البلاد، تأتي اليوم من تحويلات المغتربين ومن الحركة السياحية في البلاد.
كذلك يقول حبيقة أنه “خلال الأعياد دخلت الأموال إلى لبنان وحصل هناك ضخ للدولار، لكن في الأيام العادية تبقى تحويلات المغتربين هي الأساس”، لافتا إلى أن التحويلات تتم عبر شركات تحويل خاصة لا عبر المصارف.
**ما دور المصارف اليوم؟
منذ 2019، تفرض مصارف لبنان قيودا على أموال المودعين بالعملة الأجنبية، كما تضع سقوفا قاسية على سحب الأموال بالليرة اللبنانية، لكن الكثير من اللبنانيين استطاعوا سحب نسبة من أموالهم قبل فرض هذه القيود.
وفي هذا الإطار، يشير غبريل إلى أن “الدولارات في لبنان غير موجودة في القطاع الرسمي والقطاع المصرفي، بل في المنازل، لهذا السبب لا تستطيع السياسة النقدية أن تكون فعالة أكثر”.
ويشدد على أن “المصارف بحاجة إلى انتظام عمل المؤسسات وإلى تطبيق القوانين، وإلى قضاء مستقل وشفاف وفعال، وحركة اقتصادية طبيعية، واستعادة الثقة”.
وشدد على أهمية استعادة الثقة لعودة رؤوس الأموال إلى لبنان، ولتعود أموال “خزنات المنازل” إلى المصارف بطريقة تدريجية.
في المقابل، يعتبر حبيقة أن “لا ثقة للناس بالمصارف” بعدما علقت ودائعها فيها.
وتعاني البنوك العاملة في السوق المحلية، من تراجع وفرة السيولة منذ نهاية 2019 ناجم عن انهيار أسعار الصرف وتخارج أموال من البلاد وسحوبات كبيرة من جانب المواطنين.
**ما الحلّ؟
ينتظر اللبنانيون بفارغ الصبر أي حلّ يضمن لهم الاستقرار الاقتصادي، ويعيد لهم أموالهم العالقة في المصارف، والأهم التحرر من سعر السوق الموازية المتقلبة التي تؤثر على أسعار المواد الغذائية والمحروقات والأوضاع المعيشية بأكملها.
“ما يؤدي إلى إلغاء السوق الموازية، هو إصلاحات عنوانها العريض استعادة الثقة، من خلال إصلاحات بنيوية أولويتها دعم قدرات القطاع الخاص، والتأكيد على هوية لبنان الاقتصادية، وتخفيض الكلفة التشغيلية على القطاع الخاص”، يقول غبريل.
وزاد: “كذلك إعادة هيكلة القطاع العام، واحترام فصل السلطات واستقلالية القضاء، ومكافحة التهرب الضريبي والجمركي، ومحاربة التهريب على الحدود (مع سوريا) بالاتجاهين”.