بضعة كيلومترات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة تفصل بين زعيق سيارات الإسعاف التي هرعتْ إلى مبنى من أربع طبقات تَهاوت مع الغارة الإسرائيلية التي استهدفت القائد الحربي في «حزب الله» فؤاد شكر، وبين مكبراتٍ تضجّ بزحمةِ فرحٍ في واحدة من سهريات موسم الصيف.
إنه لبنان، الصيف والشتاء، الأبيض والأسود، في المكان الواحد وتحت سقف واحد… زوارٌ يتقاطرون من الخارج لتمضية الصيف وآخَرون يزدحم بهم المطار لـ «الفرار» خوفاً من حربٍ كبرى تلوح في الأفق وكأنها دبّتْ لكنها تنتظر الزمان والمكان المناسبيْن.
انتظارٌ صعبٌ مشوبٌ بقلقٍ ضاغطٍ يشعر به اللبنانيون وكل القاطنين في بلاد الأرز، وسط إجراءاتٍ سريعةٍ بدأت تظهر تباعاً في مطار بيروت الأوحد. تَرَقُّبٌ يُسابِقُ الانفجارَ من جهةٍ، والرغبةُ في الانكار وإكمال الحياة العادية من جهة أخرى.
لم يَعُدْ في الإمكان التغاضي عن «ساعة الحقيقة» والتلطي خلف الصيف والسياحة والسهر وحبّ الحياة… إنها الحربُ وقد أصبحت أمراً واقعاً أَدْركه اللبنانيون متأخّرين.
لا أحد يمكنه التكهن بما يمكن أن تؤول إليه الأمور، لكن الواضح أنها وَضعت اللبنانيين أمام استحقاقٍ لا مفرّ منه، «خربطتْ» مشاريعهم الصيفية وبعثرت التزاماتهم… من المواطن العادي إلى المغترب والأجنبي والشركات الكبرى والقطاعات السياحية، كلهم اختلطت الأوراق عليهم وبات القلق سيّد الموقف.
شركات طيران أجنبية عدة، مثل الخطوط الفرنسية والسويسرية ولوفتهانزا وترانسافيا وغيرها ألغتْ رحلاتها إلى بيروت ومدّدتْ قرارها بعدم تسييرها حتى الخامس من أغسطس. حتى شركة طيران الشرق الأوسط عدّلت في مواعيد رحلاتها وأجّلت بعضها ما أحدث بلبلة كبيرة في المطار وبين المسافرين.
أرقام المطار الرسمية لا تشير حتى اللحظة إلى ازديادٍ كبير في عدد المغادرين نسبةً إلى الأيام السابقة وإلى الموعد نفسه من العام الماضي، ولكن جولةً ميدانيةً على صالات المغادرة تكفي ليَشعر أيّ مُراقِبٍ بأن ثمة توتراً غير مألوف يسود الحاضرين المنتظرين طائراتهم للمغادرة.
صدمة نفسية
«ليال» سيدة حامل أتتْ لزيارة عائلتها في منطقة صوفر الجبلية وقضاء عطلتها في «أحضانهم» حتى منتصف أغسطس، لكن ما ان سمعت بمقتل الأطفال في مجدل شمس وما تلاه من تهديدات إسرائيلية حتى اتْخذت قرارها بمغادرة لبنان واستعجلتْ الرحيل حتى لا تتكرر التجربة المخيفة التي عاشتها صغيرةً عام 2006 حين قصف الإسرائيليون (إبان حرب يوليو) جسر صوفر مُحْدثين حالة ذعر ودمار في القرية الوادعة، ما اضطرّها وأهلها إلى الهرب تحت الخطر إلى منطقة جونية.
تجربةٌ شكلتْ لها صدمةً نفسيةً لم تَنْسَها بعد ومازالت ترتعد كلما سمعتْ صوتاً قوياً وإن كانت تعيش في سويسرا في واحدةٍ من أكثر البلدان أمناً وسلاماً.
خط أحمر!
عائلة «أبو رزق» حضرت إلى المطار قبل موعد الرحلة بست ساعات، خوفاً من أن يحدث على الطريق ما يعوق رحلتهم.
ويقول رب العائلة: «قرأتُ ما قيل عن أن مطار بيروت خط أحمر ولن يُسمح بقصفه أو التعرض له. آموس هوكشتاين (موفد الرئيس الأميركي جو بايدن المولج ملف لبنان) أعطى ضماناتٍ بذلك. لكننا خفنا أن تُقصف الطرق فأتينا باكراً لأننا مضطرون للمغادرة إلى أثينا لحضور حفل زفاف ابن شقيقتي. دفعْنا ثمن البطاقات وحجْز الفندق ولن نفوّت علينا مناسبةً عائلية كهذه. حتى الآن يبدو أننا نجونا ومن هنا حتى موعد العودة تكون قد اتضحتْ كل الأمور إذ لا أظنها حرباً طويلة بل ضربات محدودة متبادَلة بحسب كل التحليلات».
بالقرب من العائلة صبيتان لبنانيتا المولد قطعتا إجازتهما في بيروت وتستعجلان العودة إلى إسبانيا بعد إلحاح أهلهما الذين يتابعون الوضع في لبنان من إشبيلية لحظةً بلحظة، متفوّقين بذلك على الكثير من المواطنين اللبنانيين الذين سئموا سماع الأخبار وما عادوا يهتمون بها حتى وإن كانت تُنْذِر بالحرب.
قصصٌ كثيرةٌ تتشابه في مطار بيروت: لبنانيون مقيمون ومغتربون، سوريون، مصريون عراقيون وبعض الأجانب من أوروبيين وأميركيين يستعجلون المغادرة رغم تقيّدهم بمواعيد رحلاتهم العادية أو المؤجَّلة لبعض الوقت.
«الساعة صفر»
يُخْفون خلف هدوئهم الظاهر توتّراً ورغبةً بالرحيل قبل الساعة صفر… السفاراتُ الأجنبية طلبتْ من مواطنيها المغادرة على وجه السرعة ما دام الطيران التجاري مازال متوافراً وإلا التحسّب للبقاء طويلاً حيث هم كما طلبت السفارة الأميركية… أو البقاء على مسؤوليتهم الخاصة واتخاذ كل التدابير الضرورية.
بالنسبة إلى غالبية الموجودين في المطار، ليست المرة الأولى يواجهون حالة طارئة في لبنان.
وتقول كلاسينا، وهي سيدة هولندية، إنها عاشت التجربة ذاتها في التاسع من أكتوبر الماضي حين طُلب منها مغادرة لبنان مع عائلتها على وجه السرعة.
حينها انقادت بلا تردُّدٍ ثم عادت في ديسمبر. ورغم كل التهديدات بالحرب طوال فصل الصيف لم تشأ أن تعيش تجربة الرحيل المستعجل مرة أخرى. لكنها اليوم مضطرة للانصياع لتعليماتٍ سفارتها، علماً أنها بدورها تدرك أن أمراً ما سيحدث ومن الأفضل تَجَنُّبه.
الاحتفالات
على المقلب الآخَر، ومن جهة الواصلين تبدو الأمور معكوسةً… هنا الفرح والهيصة والاحتفالات: أهلٌ يستقبلون أبناءهم أو إخوتهم العائدين بالزفة والطبل والزمر… فالورود صارت «دقة قديمة». حتى ان لقمة «التبولة والسودا النيئة» تَستقبل أحد القادمين المتلهفين لأكلة لبنانية حُرم منها في الغربة.
هنا لا يبدو أن أحداً خائفاً لكنهم متلهّفون لمغادرة المطار للذهاب إلى بيت الأهل في الضيعة. ساندرا لا تشبه المغتربين العائدين، فهي قطعت إجازتها في اليونان لتعود إلى لبنان قبل أن يقفل المطار وتقول إن «هذا الأمر غير مستبعَد وقد حصل مرات عدة في السابق».
بعض الآباء والأمهات يتآكلهم القلقُ من أن يَعْلق أولادهم في لبنان متى وصلوا فلا يعودوا قادرين على العودة إلى جامعاتهم أو أشغالهم، وبعضهم يخشون ضربة ما يتعرّض لها المطار أو طريقه أو التجمعات الترفيهية أو الاجتماعية في القرى أو أماكن السهر… «مَن يعرف مَن سيستهدفون»؟ تقول إحدى الأمهات «ماذا لو كان ابني قرب سيارة مستهدَفة أو منشأة ومركز مستهدَف بالقصف؟ ماذا لو قصفوا الجسور كما المرة الماضية؟ كيف نحمي أبناءنا»؟
يحاول اللبنانيون إقناع أنفسهم بأن الحربَ الواسعة إن حصلت لن تطولهم ويحاولون إكمال حياتهم على هذا الأساس. فهم وضعوا الخطط والمشاريع والالتزامات لهذا الصيف، وأي انفجار كبير سيقلبها كلها.
موسم الأعراس… عامر
موسم حفلات الزفاف الحافل الذي تعوّل عليه قطاعاتٌ سياحيةٌ واقتصاديةٌ عدة هو أول المتأثّرين سلباً بالمناخات الحربية التي سبقت الضربة في الضاحية الجنوبية وتلتْها. وكل المقبلين على الزواج يُمْسِكون قلوبهم بأيديهم خوفاً وقلقاً من أن تضيع أشهر من التحضيرات هباء وتنغّص عليهم فرحة العمر.
«صالح» الذي يعمل في المملكة العربية السعودية دعا أصدقاءه من كل الجنسيات هناك إلى زفافه في لبنان وحَجَزَ لهم في بيوت ضيافة في قرى في المتن، وهو اليوم يعيش حالة من الذعر والترقب والتساؤل: هل يَطلب من أصدقائه عدم المجيء ويلغي حجوزاتهم مع ما يعنيه ذلك من خسائر؟ ماذا لو لم يستطع إقامة حفل الزفاف في ظل غارات أو قصف محتمَل؟ هل يمكنه أن يعرّض حياة المدعوين والأهل للخطر؟ ولكن هل يمكن أن تذهب أحلامه وأحلام عروسه بزفاف رائع أدراج الرياح ويذهب سدى كل ما أنفقوه حتى الآن؟
قلق «صالح» هو ذاته عند كل العرسان الذين انتظروا رغم كل التهديدات السابقة موسم الصيف ليحتفلوا بزفافهم في ربوع لبنان. ومثل غالبية اللبنانيين كانت المَخاطر بالنسبة إليهم فكرةً بعيدة يفضّلون إنكارها، لكنها اليوم باتت واقعاً يهدد كل أحلامهم.
التهديدات هزّت الاقتصاد
وليست حفلات الزفاف وحدها المعرّضة للبلبلة والتأجيل، وقد صرّح أمين عام اتحاد النقابات السياحية في لبنان جان بيروتي بأن التهديدات الإسرائيلية الأخيرة هزّت الاقتصاد اللبناني ولا سيما القطاع السياحي. ورغم أن الخسائر مازالت محدودة إلا أن عدداً من المغتربين والقادمين إلى بيروت ألغوا حجوزاتهم رغم أن أرقام الوافدين مازالت مرتفعة نسبياً.
كلما استشعر اللبنانيون بالخطر يكون التهافت لتخزين المواد الغذائية أول اهتماماتهم، ومثله التزوّد بالوقود والمحروقات.
لكن يبدو حتى الساعة أن لا تهافت على المواد الغذائية في السوبرماركت ولا زحمة أمام محطات الوقود. ويؤكد نقيب مستوردي المواد الغذائية في تصريحات له أن المخزون الغذائي يكفي لمدة شهرين أو ثلاثة لكنه يخشى من تقطع الأوصال بين المناطق.
إحدى السيدات اللواتي اعتدن تخزين المواد الغذائية تؤكد أنها تملك في بيتها مؤونة تكفيها لستة أشهر ولن تضيف إليها مخزوناً جديداً: «أميركا لن تسمح بحرب طويلة» تقولها بثقة وتفاؤل، لكنها مثل غيرها ستشتري علبتين لا أكثر من الأدوية الضرورية التي تحتاج إليها يومياً لأن قدرتها المادية لا تسمح لها بشراء كميات أكبر.
مستشفيات لبنان تترقّب بدورها التطورات وتستعدّ لكل الاحتمالات وأسوأها، وهي على جهوزية تامة وفق ما يؤكده نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون، لا بل إن غالبية المستشفيات أجرت تدريبات مكثفةً ومحاكاة واقعيةً لكيفية التعامل مع الجرحى والمصابين شرط ألا تتعرض المستشفيات للقصف وتكون أهدافاً عسكرية كما هي الحال في غزة.
مهرجانات تودع الصيف قسراً
مهرجانات صيف لبنان الفنية وحفلاته التي شكلت نقطةَ ضوءٍ مميزةً حوّلت البلدَ المأزوم ظاهرةً اجتماعية وحتى «نفسية»، تَعَثَّر مسارُها منذ أن بدأ التهديد بالضربة الإسرائيلية في أعقاب صاروخ مجدل شمس ولا سيما تلك التي تستضيف نجوماً من العالم العربي.
فقد أعلنت إحدى الشركات المنظّمة للحفلات إلغاء حفلات تامر حسني وأصالة نصري وعاصي الحلاني وهيفا وهبي التي كانت مقرّرة بين 3 و10 أغسطس «نظراً إلى الظروف الأمنية الاستثنائية التي يمرّ بها لبنان»، بحسب ما أعلنته في بيان لها خصوصاً التهديد الأخير من إسرائيل الذي أربك حركة الملاحة الجوية في مطار بيروت. وحرصاً منها على النجوم وعلى سلامة جمهورهم ارتأت تأجيل الحفلات.
إلا أن هذا الإلغاء لم يَطَلْ حفلات فنية كبرى مازالت بيروت على موعد معها مثل حفلات جورج وسوف ورحمة رياض وفرقة «مياس»، فيما تستمر المهرجانات في المناطق مثل غلبون والبترون وجبيل حسب مواعيدها المقررة.
وشهد حفل الفنان وائل كفوري لليلتين متتاليتين في وسط بيروت نجاحاً باهراً وحضوراً جماهيرياً كبيراً من لبنان والعالم العربي وبلدان الاغتراب رغم كونه قد جاء بعد التهديدات الإسرائيلية مباشرةً.
وحتى اللحظة مازالت أماكن السهر في بيروت والمناطق تعج بالرواد وكأنهم يرقصون على حافة الهاوية في انتظار الساعة صفر.