منذ ذلك اليوم المشؤوم ولارا حايك تغط في غيبوبة، هي التي أصيبت برأسها خلال تواجدها في منزلها بباب خلع من شدة عصف الانفجار، نقلت إلى المستشفى بوعيها ليتوقف بعدها قلبها عن النبض وتدخل في غيبوبة، وفي الوقت الذي كانت فيه والدتها نجوى تأمل في شفائها خلال أشهر كما أطلعها الأطباء، فقدت الأمل بعدما ساء وضع فلذة كبدها الصحي كثيراً لا سيما في الأسبوعين الماضيين.
تقول نجوى لموقع “الحرة”، “جفت الدموع من عينيّ وبدأ قلبي ينزف قهراً وعذاباً وأنا أرى ابنتي بهذا الحال، أعمل وابني كل ما في وسعنا لتأمين كلفة علاجها، فقط مؤسسة الإمام الصدر خصصت وما تزال مبلغاً شهرياً لها، كما أن الشركة التي تعمل فيها استمرت بدفع راتبها، ومديري في العمل يقف إلى جانبي في هذه المأساة التي ألزمتني العيش على المسكنات”.
ما بين 1500 و2000 دولار كلفة علاج لارا شهرياً في مستشفى “بحنس” حيث ترقد، عدا عن أدويتها وحاجياتها، لم تسجلها والدتها في وزارة الشؤون الاجتماعية؛ لأنها تعلم كما تقول إن “أياً من الجهات المعنيّة وتحديداً وزارتي الصحة والشؤون الاجتماعية لا تحرك ساكناً ولا تقوم بأدنى واجباتها”، وتشدد على أن “القضية أكبر من ابنتي، فهي تتعلق بآلاف الجرحى ومئات الضحايا، بمنطقة نكبت وبيوت هدمت، وبحياة عائلات انقلبت رأساً على عقب، ورغم عظم المصاب لا أتوقع أن تتحقق العدالة على هذه الأرض”.
يذكر أن الانفجار المروع، أسفر عن سقوط أكثر من 200 ضحية وإصابة ما يزيد عن الـ 7000 آخرين، إضافة إلى دمار جزء كبير من العاصمة، أما سببه فعزته السلطات اللبنانية إلى تخزين 2700 طنا من نيترات الأمونيوم لمدة نحو 7 أعوام داخل العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، من دون إجراءات وقاية، لتنفجر إثر اندلاع حريق لم تحدد أسبابه.
جوزيف.. والخسارة الفادحة
جوزيف غفري، واحد من الجرحى الذين خطف الانفجار قطعة من جسدهم، منه اختار ساقه، فارضاً عليه أن يمضي بقية عمره مستنداً على طرف اصطناعي. لحظة وقوع الكارثة كان غفري يمارس الرياضة بالقرب من منزله في منطقة الأشرفية، وإذ به يقع أرضاً قبل أن يسقط جدار فوقه، نزف ما يقارب الساعة لينقل بعدها إلى المستشفى ويبدأ رحلة علاج لم تنته بعد.
خضع غفري (59 سنة) لحوالي ست عمليات جراحية على نفقة وزارة الصحة، قبل أن تسحب يدها كلياً من علاجه، ويُجبر هو على تأمين كلفته وأدويته وطرفه الاصطناعي، ويقول “أول طرف اصطناعي حصلت عليه كان هبة من شيخة إماراتية، وبعد سنة كان لا بد من استبداله حكماً، فتبرع لبناني بثمنه منذ تسعة أشهر، لكن الطرف الجديد يتسبب لي بآلام، لذلك أبحث عمن يتكفّل بشراء بديل عنه، فلا يمكنني أن أنتظر مرور خمس سنوات كما يُفترض”.
تسبب الانفجار كذلك بكسر كتف غفري، هو يحتاج بحسب ما يشير في حديث لموقع “الحرة” إلى عملية جراحية، يعجز عن إجرائها كون يتوجب عليه دفع ألفي دولار فرق تغطية تعاونية موظفي الدولة، في حين أن الأموال التي إدخرها صرفها على رحلة علاجه، ومع ذلك يشدد الوالد لطبيبة نفسية على أن “حالتي النفسية جيدة ومعنوياتي مرتفعة، من دون أن يقلل ذلك من الآلام التي مررت ولا زلت بها”.
ثلاث سنوات مرّت على الكارثة أتيحت للسلطات اللبنانية خلالها “التحقيق في أسباب الانفجار المدمر وإخضاع المشتبه في مسؤوليتهم الجنائية للمحاسبة” ومع ذلك، فإنه لغاية اليوم، كما تقول نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في “منظمة العفو الدولية”، آية مجذوب، “لم يُحمَّل أحد بتاتاً المسؤولية عن المأساة”.
وأضافت “بدلًا من ذلك، استخدمت السلطات كل السّبل التي في متناولها لتقويض التحقيق المحلي وعرقلته بـ(وقاحة) لحماية نفسها من المسؤولية – وترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب في البلاد”، مؤكدة أنّ “المجتمع الدولي ندّد مراراً وتكراراً بالتدخّل السياسي السافر للسلطات في التحقيق المحلي، بما في ذلك في بيان مشترك صدر في مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة في فترة سابقة من هذه السنة”.
كما أشارت مجذوب إلى أنه “اليوم، تناشد أكثر من 300 من منظمات المجتمع المدني اللبنانية والدولية والأفراد والناجين وأسر الضحايا، مجلس حقوق الإنسان مجدّداً بالمبادرة على وجه سرعة إلى إنشاء بعثة دولية لتقصي الحقائق للتحقيق في أسباب انفجار مرفأ بيروت وتحديد هوية المسؤولين عن وقوع هذه الكارثة”.
ليليان.. وبارقة الفرج
بعد أن أثارت قضيتها الرأي العام، بسبب حرمانها من رؤية طفلها وهي على سرير المستشفى، وكذلك اتهام عائلتها لزوجها بحجز جواز سفرها ومنعها من متابعة علاجها في الخارج، وصلت ليليان شعيتو قبل تسعة أشهر إلى تركيا، وأخبار وضعها الصحي مبشّرة، إذ كما تقول شقيقتها نوال “أصبحت تتحرك بشكل جيد، تأكل وتشرب وتجلس من دون مساعدة أحد، تركل الكرة وتنطق بضع كلمات، وتمشي أولى الخطوات، أملنا كبير بالنتيجة التي ستصل إليها بعد استكمال خطة العلاج التي وضعها الأطباء لها والتي تستغرق ما بين سنة ونصف إلى سنتين بحسب تجاوبها”.
لحظة وقوع الانفجار، كانت ليليان في وسط العاصمة اللبنانية لشراء هدية لزوجها، أصيبت في رأسها ودخلت في غيبوبة”.
وتقول شقيقتها نوال لموقع “الحرة”، إن “وزارة الصحة اللبنانية لم تغط كلفة علاجها لا في لبنان ولا خارجه، ومن يتحمّل الآن فاتورة علاجها مغترب لبناني”.
وتشدد قائلة: “دمّر الانفجار حياتنا ومستقبل ليليان، هو لم يجرحها جسدياً فقط، بل معنوياً ونفسياً، فقد تخلى عنها أقرب الناس إليها، ومنذ مغادرتها لبنان لم تر ابنها حتى عبر خاصية الفيديو كول، هي محرومة من أبسط حقوقها، كذلك حال طفلها الذي من حقه أن يراها، فعدم قدرتها على الكلام أو المشي لا يبرر حرمانها منه، فأي كتاب سماوي وأي قانون يشرعان ذلك، ورغم كل الصعوبات التي مررنا بها أنا متفائلة بأن بارقة فرج تلوح في الأفق”.
لكن مدير العناية الطبيّة في وزارة الصحة الدكتور، جوزيف الحلو، يؤكد لموقع “الحرة” أن “الوزارة مستمرة بتغطية الجرحى ضمن القانون، وإلى حد الآن جميع عقود الصناديق الرسمية تدفع على سعر صرف 1500ليرة، في حين أن سعر صرف الدولار حوالي التسعين ألف ليرة، ما يعني أن ما تغطيه جزء لا يذكر من الفاتورة الاستشفائية” ويشدد “لن تحل مشكلة الجرحى إذا لم تقرّ الحكومة إنشاء صندوق خاص يغطي تكاليف متابعة علاجهم”.
وعن سبب عدم تكفّل وزارة الصحة بعلاج لارا أجاب الحلو “لا يوجد أي صندوق ضامن متعاقد مع مستشفى بحنس”، وفيما يتعلق بليليان “تكفلت الجامعة الأميركية بعلاجها في لبنان”، ولفت إلى أنه “بعد وقوع الانفجار، تمّ تشكيل لجنة في مجلس الوزراء برئاسة وزارة الدفاع لمتابعة قضية الشهداء والمصابين”.
رقم يعكس مدى الثقة
“لا يتجاوز عدد المعوّقين الذين سجلوا أسماءهم في وزارة الشؤون الاجتماعية ممن حددوا إصابتهم بانفجار المرفأ الـ30 شخصاً، أما عدد المعوقين المسجلين ضمن المناطق التي تضررت بالانفجار فيتجاوز الألف ومئتين شخص، وقد أصيب بعضهم في ذلك اليوم” بحسب ما تقوله مديرة برنامج تأمين حقوق المعوّقين في وزارة الشؤون الاجتماعية، هيام فاخوري.
خلال الأشهر الستة الأولى من الكارثة، شكّلت وزارة الشؤون الاجتماعية بحسب فاخوري، “فريقاً زار المعوقين المسجلين لديها، وحوّل أسمائهم إلى جمعيات تقدم مساعدات، كون الوزارات المعنية لم يصلها شيئاً من الهبات التي كانت معظمها مشروطة بذلك، ولم يتم بعدها وضع أي برنامج خاص لمعوقي الانفجار”.
ترد فاخوري سبب عدم تسجيل من أصيب بإعاقة نتيجة الانفجار لأسمائهم في وزارة الشؤون إلى احتمالات عدة منها “تغطية وزارة الصحة علاج جميع المصابين خلال الأشهر الأولى التي تلت الكارثة، بالتالي لم يكونوا بحاجة إلى بطاقة تخولهم الاستشفاء على حساب وزارة الصحة، مع العلم أن ليس جميع المصابين يمكنهم الحصول على بطاقة معوّق بسبب التصنيفات المعتمدة، كما أن مبادرة التسجيل شخصية وليست إلزامية”.
وعن تقديمات وزارة الشؤون لحاملي بطاقتها في ظل الأزمة الاقتصادية، شرحت فاخوري “الرعاية في المؤسسات التي لا تزال مستمرة في تقديم خدماتها رغم عدم دفع وزارة المالية لمستحقاتها وعدم رفع سعر الكلفة بشكل كاف، والحصول على شهادة إعفاء من الرسوم البلدية والأملاك المبنية والجمركية وبطاقة موقف خاص، كما أن مواليد 1995 إلى 2005 يحصلون منذ أبريل الماضي على 40 دولار شهرياً من اليونيسيف لمدة سنة كحد أدنى”.
كما أن لحاملي بطاقة معوّق الأولوية في مراكز الخدمات الإنمائية ومستوصفات وزارة الشؤون الاجتماعية فيما يتعلق بالحصول على الأدوية بأسعار رمزية إذا توفرت، وتؤكد فاخوري أن “مراكز وزارة الشؤون الثمانية، دائما جاهزة ومستعدة لاستقبال جميع من يطلبون هذه البطاقة من دون أي تمييز”.
إصابات خفيّة
إضافة إلى الإصابات الجسدية، خلف الانفجار “آثاراً نفسية جماعية كبيرة وعميقة لدى كل من تعرّض له بصورة مباشرة أو غير مباشرة، تمثلت بحسب مديرة جمعية “مفتاح الحياة”، الأخصائية النفسية والاجتماعية، لانا قصقص، “باضطرابات ما بعد الصدمة ومن أهم أعراض هذه الحالة، استعادة المشاهد والمشاعر المؤلمة مراراً وتكراراً، صعوبة النوم وعدم الرغبة بتناول الطعام، فقدان الأمان ورفض التفكير في المستقبل، الخوف من مواجهة حادثة مشابهة وتجنب الذهاب إلى مكان الكارثة والاقتراب من كل ما يرتبط بها، واليقظة المفرطة، كذلك الخوف المستمر والقلق”.
أما من أصيبوا بإعاقات دائمة، فسيواجهون بحسب ما تقوله قصقص لموقع “الحرة”، “عوارض نفسية مضاعفة لعدم تقبل وضعهم بداية، ومن ثم سيمرّون بسيرورة التأقلم وصولاً إلى الشفاء النفسي، حالهم كحال من فقدوا عزيزاً في الانفجار”.
وتشدد على أن “من لا يزال يعاني من عوارض اضطراب ما بعد الصدمة عليه طلب المساعدة من متخصص وإحاطة نفسه بأشخاص إيجابيين وداعمين له للسير على طريق الشفاء”.
رغم كبر المصاب وعظم المعاناة، “عرقلت السلطات اللبنانية بشكل متكرر ومتعمد التحقيق في الانفجار طوال ثلاث سنوات” كما ذكر الباحث اللبناني في منظمة هيومن رايتس ووتش، رمزي قيس، معتبراً أنها تجاهلت “تماماً حق الضحايا وعائلاتهم في الحقيقة والعدالة”.
وشدد خلال بيان صادر عن المنظمة، على أنه “ثمة حاجة إلى تحرك دولي لكسر ثقافة الإفلات من العقاب في لبنان”.