تاريخياً، يعد قطاع الاتصالات في لبنان ثاني أهم مورد لإيرادات الخزينة، وكان يلقب بـ”نفط لبنان”، عبر رفده الدولة بنحو 1.5 مليار دولار سنوياً، لكن الواقع تبدل بشكل تدرجي ليصبح من القطاعات الفاشلة أسوة بقطاع الكهرباء، بعد تسجيله أخيراً خسائر هائلة ظهرت بعد الأزمة أدت إلى تراجع الإيرادات إلى حدود 300 مليون دولار.
وتجمع التقارير المحلية إلى أن قطاع الاتصالات يشكل أحد أبرز مكامن الهدر والفساد في لبنان، وهذا ما أكده التقرير الذي أعدته الغرفة الرابعة في ديوان المحاسبة، وأظهر أن الوزراء المتوالين لم يراعوا الأصول القانونية في الصرف ولم يحترموا الموازنات.
وأشار إلى أن قطاع الاتصالات حقق إيرادات بلغت 17 مليار دولار خلال 10 سنوات، فبات أكبر مصدر للمداخيل لإدخاله 11 مليار دولار إلى خزينة الدولة، وبالتالي فإن كلفة تشغيل الشبكة خلال هذه المدة بلغت ستة مليارات دولار يضاف إليها 1.4 مليار دولار كلفة المصاريف الاستثمارية، أي أن نسبة كلف تشغيل الشبكات تشكل نحو 40 في المئة من مجموع الإنفاق، الأمر الذي اعتبره التقرير مثيراً لشبهات فساد وهدر.
وتناول التقرير الذي جاء في 146 صفحة أغلب أبواب الهدر والفساد والمخالفات القانونية التي تعاقبت على القطاع منذ عام 2010. وقد قسم إلى ثلاثة أقسام: تنظيم قطاع الاتصالات والوضع المالي للقطاع، وأخيراً التجاوزات والنتائج والتوصيات، وطال البحث الهيئة المنظمة للاتصالات وهيئة “أوجيرو” وقطاع الخلوي.
النيابة العامة
وأحال ديوان المحاسبة ملف المخالفات المالية لوزارة الاتصالات على النيابة العامة لدى الديوان وعلى النيابة العامة التمييزية وعلى هيئة القضايا في وزارة العدل وعلى الغرفة القضائية المختصة، إثر انتهاء الهيئة القضائية من إعداد تقريرها الخاص المرتبط بإجراء شركة “ميك 2” MIC 2 صفقتين، الأولى تتعلق باستئجار مبنى في منطقة الشياح المعروف بمبنى “قصابيان”، ودفع بدلات إيجار عن سنوات عدة من دون أن تقوم شركة “ميك 2” بالانتقال إليه وإشغاله، والثانية تتعلق باستئجار شركة MIC 2 في منطقة الباشورة، قبل أن تعمد الشركة المذكورة بعد أشهر عدة من إشغال المأجور إلى فسخ عقد الإيجار الذي كان من المقرر أن يمتد لمدة 15 سنة، إلى شراء المبنى من دون تملكه.
وسطرت الغرفة القضائية الناظرة في الملف سلسلة قرارات اتهامية موقتة، طالت الوزراء الستة المعنيين بهذا الملف وهم: نيكولا صحناوي وبطرس حرب وجمال الجراح ومحمد شقير وطلال حواط والوزير الحالي جوني قرم.
وسيكون أمام الوزراء 60 يوماً للتقدم بدفوعهم قبل إصدار القرار النهائي. وتكمن أهمية هذه الخطوة في ضوء السابقة القانونية التي تم تسجيلها منذ أيام، حين صادق مجلس القضايا لدى مجلس شورى الدولة على قرار ديوان المحاسبة الصادر بتاريخ 25 سبتمبر (أيلول) 2020، وألزم فيه وزير الأشغال العامة والنقل الأسبق محمد الصفدي بدفع غرامة بقيمة مليونين و500 ألف ليرة لبنانية، بالإضافة إلى غرامة تساوي راتب ثلاثة أشهر تحتسب بناء على الراتب الذي كان يتقاضاه عندما كان وزيراً.
واعتبر القرار بمثابة سابقة قانونية لأنه أصبح من الممكن محاسبة أي وزير أمام الهيئات القضائية من خارج مجلس النواب، وبالتالي لن يكون بمقدور الوزراء المذكورين التحجج بالمادتين 70 و71 من الدستور اللتين تنصان على أن رئيس الحكومة والوزراء يحاكمون أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، للتهرب من ديوان المحاسبة، وبذلك يكون “ديوان المحاسبة” بات مرجعاً صالحاً لفرض غرامات على الوزراء الذين تناولهم التقرير، كل منهم وفقاً لقيمة الهدر الذي تسبب فيه والذي تم توثيقه في التقرير.
عشرات التقارير
ووفق مصدر قضائي في ديوان المحاسبة، فإن الادعاء الذي تم تحويله إلى النيابات العامة هو المتعلق باستئجار مبان لشركات الاتصالات تسببت بهدر للأموال العامة تجاوز 50 مليون دولار، مع إمكانية تفاقم الخسائر في حال نجحت الجهة بائعة المبنيين في دعواها بفسخ عقد البيع وتحصيل غرامة إكراهية قدرها 15 ألف دولار عن كل يوم تأخير أي ما قدره 5.5 مليون دولار عن كل سنة تأخير، لتخلف شركة “ميك 2” عن تسديد رصيد الثمن البالغ 45 مليون دولار.
وأشارت إلى أن هناك عشرات الشبهات التي يتم العمل على إعداد تقارير عنها وتحويلها إلى النيابة العامة في الديوان أو النيابة العامة التمييزية، خصوصاً أن المبالغ التي يشتبه في أنها هدرت نتيجة صفقات غير قانونية تتجاوز قيمتها ستة مليارات دولار. إذ رصد الديوان ارتفاع عدد المشتركين في شبكات الخلوي من ثلاثة إلى أربعة ملايين مشترك، إلا أن النفقات التشغيلية والرأسمالية ارتفعت بين 2010 و2018 بنسبة 128 في المئة، علماً أن متوسط الدخل من المشتركين تجاوز النسب العالمية المشابهة للوضع اللبناني ثلاثة أضعاف (29 دولاراً)، الأمر الذي يعتبر بالنسبة إلى تلك المصادر مكمناً كبيراً لشبهات فساد.
مغالطات جوهرية
في المقابل، رفض وزير الاتصالات الأسبق محمد شقير، اتهامات تقرير ديوان المحاسبة، معتبراً أنه تضمن مغالطات جوهرية، مستغرباً “ما ورد في التقرير من معلومات تجافي الحق والحقيقة”، معدداً بعض هذه المغالطات التي برأيه تعطي تصوراً واضحاً عن مدى الأخطاء التي تضمنها التقرير.
وبرأيه هناك أخطاء في عملية الحساب في التقرير، فهو احتسب الكلفة الإجمالية لإشغال المبنى بعد تجهيزه عند عقد الإيجار بـ91.2 مليون دولار، في حين أنها حقيقة 97.6 مليون دولار، (75 مليون دولار الإيجار على 10 سنوات و22.6 مليون دولار كلفة التجهيز).
يقول التقرير إن الوزير شقير وافق على عقد بيع المبنى لقاء ثمن مرتفع من دون اللجوء إلى تخمينه، وفي هذا الإطار، يرى أن التقرير أغفل عقد الإيجار (المبرم إبان عهد الوزير الجراح) والبالغة قيمته 75 مليون دولار على مدة 10 سنوات، فإنه لا يمكن لشركة “تاتش” فسخ العقد من طرف واحد، وإذا قامت بهذا الأمر في أي وقت وقبل انتهاء فترة العقد المحددة بـ10 سنوات، (حتى ولو بعد فترة قصيرة جداً من بدء العقد)، يجب عليها دفع مبلغ الإيجار كاملاً، أي 75 مليون دولار.
وأكد أنه يملك الأدلة الكافية لنقض المعلومات الواردة في التقرير من خلال معطيات حقيقية ومثبتة بالعقود وبالوقائع، تناقض وبالدلائل الدامغة معطيات كثيرة أوردها تقرير ديوان المحاسبة، مبدياً استعداده لإعطاء كل المعلومات لتبيان الحقيقة للرأي العام.
مبنى “تاتش”
من ناحيته أوضح الوزير الأسبق للاتصالات النائب نقولا صحناوي، مما اعتبره مغالطات وردت في تقرير ديوان المحاسبة، مؤكداً أن لا مسؤولية عليه بهدر المال العام، وقال “في قضية مبنى قصابيان دافعت بشراسة عن المال العام”، لافتاً إلى أن الديوان أنهى تقريره ونشره وحدد المسؤوليات من دون أن يستمع إليه وإلى الأشخاص المعنيين قبل إحالته إلى مدعي عام الديوان الذي فتح تحقيقاً.
وحول اتهام التقرير الموجه إليه بالتسبب بهدر عبر استئجار مبنى لشركة “تاتش”، أكد أن المبنى القديم بات غير مستوف للشروط، وأن هدفه من جمع العقارات والمباني التي تشغلها “تاتش” زيادة إنتاجيتها، وهي كناية عن 15 عقاراً، موضحاً أن العقد بلغ 38 مليون دولار لـ10 سنوات مع دفعة أولى قيمتها ستة ملايين دولار، إلا أنه بعد المفاوضات نجح في خفض السعر إلى 28 مليون دولار، متسائلاً “أين الهدر والسعر أقل والمساحة أكبر؟”.
وأضاف “لقد أدرت وزارة الاتصالات بأفضل قدراتي واستطعت تطوير القطاع وإدخاله في القرن الـ21، ودافعت عن المصلحة العامة قدر الإمكان، والنتيجة واضحة ونسبة المشتركين ازدادت”، كاشفاً عن أن مرحلة توليه الوزارة شهدت إنشاء أبراج شبكة الجيل الثالث ومركز التواصل بمعايير دولية، وتم إمداد شبكة ألياف بصرية بين 300 “سنترال”، وتوفير خط مواز للكوابل البحرية التي تربط لبنان بالعالم.
طوني بولس – الخبر من المصدر