الغريب في الأمر أن الحكم الديكتاتوري لهؤلاء الحكام المستبدين هو الذي يدفع بالآلاف من أبناء شعبهم في عموم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لترك أوطانهم وخوض تلك الرحلة الخطرة.
في تقييم المخاطر السنوي الذي تصدره وكالة الاستخبارات الأميركية، ركزت في شهر شباط الماضي على تونس بوصفها تعبر عن مشكلة خاصة في المنطقة، إذ ورد في التقرير: “إن سعي الرئيس قيس سعيد لتوطيد حكمه وترسيخ سلطته يزيد من خطر وقوع انهيار مرعب يؤثر على الاستقرار في هذا البلد”.
ومنذ ذلك الحين، وسعيد يعمل على تقويض الديمقراطية في تونس، فلقد أجج المشاعر العنصرية، وأطلق العنان للعنف ضد المهاجرين الأفارقة وهذا ما تسبب بظهور موجة لجوء أشد. ولهذا اتهمت منظمات حقوقية تونس برمي المهاجرين في الصحراء على الحدود مع ليبيا، حيث توفي البعض منهم عطشاً، في الوقت الذي يغادر فيه التونسيون المهرة من أصحاب المهن والحرف البلد بأعداد غفيرة.
ومع ذلك، وقع الاتحاد الأوروبي خلال الشهر الماضي اتفاقية شراكة استراتيجية مع تونس قدم لها بموجبها مساعدات للتنمية الاقتصادية تقدر قيمتها بملايين اليوروهات، لكنها ركزت بشكل كبير على منع الهجرة غير النظامية والحد من عمليات المغادرة، كما خصصت مبلغاً قدره 900 مليون يورو من أجل مد خطوط نفط، في حال وافق سعيد على إجراء الإصلاحات التي طلبها منه صندوق النقد الدولي.
تستحق المجتمعات التي تستضيف لاجئين دعماً دولياً ومساعدات مالية تخلق فرصاً اقتصادية تساعد المهاجرين على البقاء في بلدهم. بيد أن النهج الأوروبي الذي لم يتطرق إلا لليسير عن اختطاف سعيد للسلطة، صار يكافئ اليوم هذا الرجل على أنه مستبد ظالم وراع غير كفء لاقتصاد بلده.
“مغازلات وقحة”
تزعمت رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية جورجيا ميلوني هذا التوجه نحو مغازلة الحاكم بأمره في شرقي ليبيا، أي الجنرال خليفة حفتر، وذلك عندما طلبت مساعدته في منع هجرة الناس من بلده، على الرغم من أنه من المعروف عن حفتر، وهو أمير حرب، صلاته بالمهربين، وهنالك أيضاً رئيس مصر عبد الفتاح السيسي الذي قلده الرئيس الفرنسي في عام 2020 وسام الشرف الذي يعتبر أرفع وسام في البلاد.
أنفق السيسي المليارات على مشاريع فارغة مثل بناء عاصمة جديدة في وقت وصل فيه الاقتصاد المصري إلى مرحلة السقوط الحر، إذ وصلت نسبة التضخم التي لم تشهد البلاد لها مثيلاً إلى 35.7%، وهبطت قيمة العملة المصرية، وصار الشعب يعيش حالة انقطاع للكهرباء في ظل هذا الحر الخانق. وفي عام 2022، احتلت الجنسية المصرية فجأة المرتبة الخامسة بين الجنسيات التي تشكل موجات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.
في الوقت الذي تعمل فيه أوروبا على إبقاء المهاجرين واللاجئين بعيدين عنها، تتوقع من دول أخرى وعلى رأسها لبنان والأردن وتركيا أن تؤوي ملايين اللاجئين للأبد، إذ تقدر نسبة اللاجئين في لبنان بنحو 25% بالنسبة للتعداد العام للسكان، مقارنة بنسبة 1.5% للاجئين بالنسبة لعدد السكان في أوروبا، ثم إن سوريا لم تصبح بعد آمنة أمام العودة الطوعية للاجئين، ولهذا انتقد البرلمان الأوروبي لبنان بحدة بسبب إرغامه لبعض السوريين على العودة إلى بلدهم، الأمر الذي تسبب باعتقالهم على يد نظام بشار الأسد.
لا يمكن لأحد أن ينكر الأثر الذي خلفه عدد اللاجئين الكبير على استقرار لبنان والأردن وعلى نسيجهما الاجتماعي، بما أنهما دولتان صغيرتان، ولكن طالما بقي السوريون في مكانهم دون أن ينطلقوا ضمن جموع كبيرة إلى أوروبا كما فعلوا في عام 2014، فسيبقى الأوروبيون على ما يبدو راضين عن فكرة غض الطرف عن الجرح النازف في سوريا، وميلوني التي سبق لها أن امتدحت الأسد وأثنت عليه، لن تجد ضيراً في تحويله إلى حليف إن كان الأمر يتصل بمشكلة اللاجئين.
أهمية الديمقراطية والحكم الرشيد
بيد أن مصالح أوروبا والغرب على المدى البعيد لن يخدمها أحد بقدر ما يمكن للديمقراطية والحكم الرشيد أن يخدماها في الدول النامية. صحيح أنه على السياسيين التعامل مع العالم كما هو الآن، لا كما يتمنونه من الرؤساء في العالم، ولكن مغازلة الديكتاتوريين لن تعزز إلا حكمهم، وبذلك سندخل في حلقة مفرغة.
لم يكتشف أحد بعد كيف يمكننا أن نحافظ على الاستقرار على المدى القصير والمتوسط في الوقت الذي نسعى فيه لتحقيق الديمقراطية وإقامة الحكم الرشيد على المدى البعيد، لأن الأمر يحتاج إلى رؤية وسياسات ذكية ومستمرة تتصل بقضايا شائكة في الوقت الذي يختلف فيه اهتمام الشارع على المدى القصير بسبب الدورات الانتخابية التي تدفع نحو الشعبوية. والمؤسف في الأمر أن الحلول التي تقدم إسعافات أولية أصبحت هي القاعدة في عصر يتسم بالجمود السياسي بالنسبة لتحديات جمة، وعلى رأسها التغير المناخي الذي لابد أن يزيد أزمة الهجرة سوءاً.
في حزيران الماضي، أعلن الاتحاد الأوروبي عن تنسيق جهوده لتقييم مدى صلاحية فكرة حجب نور الشمس للتخفيف من الاحتباس الحراري، بدلاً من أن يركز على وقف الغازات المنبعثة، وذلك لأن عملية “تعديل الإشعاع الشمسي” تحمل معها مخاطر جمة ولهذا يصفها بعض الخبراء بأنها ليست أكثر من خيال علمي، والشيء ذاته ينطبق على الاستقرار الوهمي الذي يعد به الحكام الديكتاتوريون.