ليست المضايقات التي تطاول الإعلاميين باعتماد لغة التخوين بمستجدة في لبنان، إذ كانت هناك تجارب عدة سابقة، منها ما اقتصر على تهديدات بأساليب عدة وعنف معنوي، ومنها ما تعدى ذلك ليصل إلى حد الاعتداء الجسدي. لكن في الأسابيع الأخيرة، تصاعدت وتيرة الاعتداءات والتهديدات التي تطاول إعلاميين في ظل الحرب. وباتت هذه الحوادث المتكررة مقلقة وتدعو إلى التساؤل حول ما إذا كان الإعلام سيبقى منبراً حراً تصونه حريات التعبير والرأي، فمنذ أن بدأت الحرب بدأ الإعلاميون يتعرضون لضغوط في إطار حملة ترهيب وتخويف واضحة، والأخطر أن الترهيب لم يقتصر على موجة التهديدات والمضايقات التي طاولت عدداً من الإعلاميين، بل تخطتها لتصل إلى حد الاعتداء الجسدي. وباتت الاتهامات بالعمالة لغة رائجة لإبقاء الإعلام تحت السيطرة في ظل انعدام الثقة بين طرفي الصراع السياسي في لبنان، خصوصاً في ما يتعلق بالمنصات الإعلامية المعارضة.
تخوين وتهديدات بالجملة
يتعرض الإعلاميون من بداية الحرب في لبنان لحملات واسعة ومكثفة من التهديد والتحريض والاتهامات بالعمالة، بسبب مواقفهم السياسية وآرائهم التي يعبرون عنها عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو أثناء أدائهم عملهم الصحافي، فإذا كانت التهديدات التي تعرضت لها في مرحلة سابقة الإعلامية ديما صادق أحدثت ضجة واسعة آنذاك، بدت الساحة أخيراً وكأنها باتت مفتوحة للغة التهديد والتخوين في حق الإعلاميين الذين يتخذون مواقف معارضة، فتضعهم مواقفهم هذه في مرمى الاتهامات بالخيانة.
وكان لإعلاميي قناة “أم تي في” الحصة الأكبر من الاعتداءات والمضايقات أثناء التغطية أو بسبب مواقفهم السياسية المعارضة، واتهم كثيرون منهم بالعمالة، إذ كان هشام حداد أيضاً من الإعلاميين الذين شنت حملة ضدهم، وذلك بعد نشره فيديو يتساءل فيه عن الانتصار الذي يجري الحديث عنه في الحرب في ظل ما نتج منها. كما تعرضت الإعلامية نوال بري للمطاردة في أكثر من مكان قبيل الحرب الموسعة على لبنان في سبتمبر (أيلول) الماضي. كذلك بالنسبة إلى الصحافي روي أبو زيد الذي تعرض لمضايقات أثناء إعداده تقريراً صحافياً في منطقة كسروان حول التعايش الإسلامي – المسيحي في ظل ازدياد أعداد النازحين. كذلك نال الصحافي نبيل مملوك حصة من المضايقات وتعرض لاعتداء جسدي عنيف مع اتهامات بالعمالة مع إسرائيل بسبب مواقفه السياسية، ومن بعده تعرض المراسل محمد البابا للاعتداء في بلدة جون الجنوبية أثناء تغطيته للأحداث وطرد من المكان وتهديده، على رغم أنه كان يحمل إذناً بالتصوير. أما الإعلامية إيمان شويخ فدفعتها التهديدات المتواصلة والمضايقات من بداية الحرب، إلى تقديم استقالتها من عملها في قناة “أم تي في”، وبررت هذه الخطوة بكونها تهدف إلى أن تحمي نفسها وعائلتها من أي اعتداء بعد التهديدات التي تلقتها وبلغت حد التهديد بالقتل وتعقبها إلى منزلها، إضافة إلى مضايقات تعرض لها أهلها، فأعلنت في منشور لها عقب الاستقالة أنها ترغب العيش بسلام وأمان بعد كل ما تعرضت له من مضايقات في الفترة الماضية. وفي حديثها لـ”اندبندنت عربية”، أوضحت شويخ أنها كانت تتلقى تهديدات في السابق بسبب مواقفها المعارضة لـ “حزب الله”، إلا أن وتيرتها تسارعت من بداية الحرب واتخذت شكلاً أكثر ترهيباً وتخويفاً، مما زاد من الضغوط النفسية عليها. فتعرضت إلى مطاردات بالسيارة، تمكنت من الإفلات منها، وتكثفت التهديدات منذ بداية الحرب لتتضمن تهديدات مرعبة بالقتل بوسائل معينة، سواء بطريقة مباشرة أم عبر أشخاص ووسطاء. حتى أنه طلب منها في اتصالات وردتها من أرقام مجهولة، الدفاع عن الحزب مباشرة على الهواء. وتلقت تحذيرات من خلال أحد الضباط ومن خلال عميد “الجامعة الإسلامية” حيث تدرس شويخ، لتكون أكثر حرصاً وتخفف من نبرتها الهجومية، وذلك إثر تحذيرات واتصالات كانت ترد إلى إدارة الجامعة.
وكان هناك تقص عن مكان سكن شويخ، وحضر مراراً أشخاص سألوا عنها ورحلوا مباشرة بعد ذلك، واضطرت إلى إخفاء سيارتها عندما تكون في المنزل. وفي مرحلة ما، بدأ أقاربها ينقلون إليها رسائل مبطنة وتحذيرات. وعلمت أن ثمة أشخاص كانوا يحضرون لاتفاق مع أحد السوريين لتنفيذ تلك التهديدات التي كانت تصل إليها. وقالت شويخ “في مرحلة ما، شعرت أني أصبحت منبوذة في بيئة مدينة صور (الجنوب) التي أنتمي إليها، وهذا ما آلمني بصورة خاصة. باتت علاقاتي مع جيراني وأصدقائي من الجامعة باردة، حتى وجدت نفسي أمام حائط مسدود وصرت أجهل كيفية التصرف لأخرج من هذه الدائرة التي وجدت نفسي مسجونة فيها. طلب مني أخوتي أن أهدئ الأوضاع، خصوصاً أنهم كانوا تعرضوا أيضاً لمضايقات عبر اتصالات تردهم أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لذلك أتى قرار تقديم استقالتي من محطة ’أم تي في‘ لتهدئة الأمور”.
ولم تتوقع شويخ أن يجدي المسار القانوني نفعاً، وبالتالي لم تتخذ أي إجراء قانوني، خصوصاً في هذه الفترة التي تغلب عليها الفوضى. فبالنسبة إليها، هي تخوض المعركة وحدها وتبقى في الواجهة وتعرض حياتها وحياة أهلها للخطر، فيما كثيرون يشجعونها على الاستمرار بالمواجهة ويتنحون جانباً، لذلك قررت عدم الاستمرار بالعيش هذه الطريقة، خصوصاً أن الأسبوع الأخير كان كابوساً لها على حد وصفها، وصارت تعيش في ظل هواجس مستمرة وخوف بحيث تعجز عن النوم بسبب التهديدات، وتعتبر شويخ أن “المحاسبة القانونية قد تكون ممكنة لاحقاً وليس في الوقت الحالي، حالياً لا يهمني إلا أن أقابل أهلي بعد انقطاع شهر بسبب التهديدات”.
اعتداء وتعنيف
أما بالنسبة إلى الصحافي نبيل مملوك فلم تقتصر المضايقات على التهديدات والملاحقات، بل اتخذت منحى أكثر خطورة مع اعتداء جسدي عليه في صيدلية والده في مدينة صور من عناصر حزبية بحضور شهود. كان مملوك يتعرض لتهديدات من بداية الحرب، علماً أنه الصحافي الوحيد الذي يؤمن تغطية متواصلة من مدينة صور، وأنشأ مجموعة خاصة على “واتساب” ينقل فيها آخر الأخبار انطلاقاً من تغطيته الميدانية، ويهدف من خلالها أيضاً توفير الدعم لأهالي صور والمساعدات. يوضح في حيدثه أنه نظراً إلى دوره الذي أكسبه ثقة الناس، حرص بعض منهم على التدخل في مواقفه السياسية والاصطياد في الماء العكر. وقال “تعرضت إلى اتهامات بالعمالة على رغم أن الكل يعرف مواقفي، وأنا واضح فيها بكوني ضد محور الممانعة (الدول والميليشيات الموالية لإيران)، ولم أتهم يوماً في السابق بالعمالة، وعندما أكتب نقداً يكون مبنياً على أسس علمية كوني حائز على ماجستير في النقد، ولا أكتب بطريقة عشوائية لمجرد توجيه الاتهامات”.
وقبل أسبوع من تعرضه للاعتداء، كان مسلحون هجموا على مملوك بهدف تهديده ليوقف الكتابة عن الأمين العام الجديد لـ”حزب الله” نعيم قاسم، أما الاعتداء بالضرب، فحصل على مملوك إثر تحذير أطلقه عبر مجموعة “واتساب” التي أنشأها إلى أهالي المدينة عقب إسقاط مسيرة في البحر، يطالبهم فيه بالامتناع عن التجمع والتصوير تجنباً للخطر. حينها وصلته رسالة من رقم فيليبيني باللغة العربية تتضمن تهديداً ودعوة إلى الامتناع عن الكتابة في المجموعة.
وتلا هذه الرسالة اتصال بدا واضحاً له أنه تم التلاعب فيه بالذكاء الاصطناعي وفيه تهديد أيضاً، بعدها دخل مجموعة مسلحين إلى صيدلية والده حيث كان موجوداً، لتعتدي عليه بالضرب المبرح بعد إقفال الباب ومنع دخول أي كان إليها، وأثناء الضرب كان المعتدون يطلقون عليه الاتهامات ويتوجهون بالتهديدات والشتائم المستمرة.
لكن، بحسب مملوك، إن الفيديو المتداول لم يظهر إلا جزءاً من الحقيقة التي أرادتها الجهة المعتدية بهدف ترهيب آخرين ليبدو وكأنه عميل يلقى العقاب، فالاعتداء كان أشد عنفاً، على حد قوله، خصوصاً بعد أن انضم إليهم مزيد من الأشخاص لضربه أكثر بعد. وعندما أراد مملوك أن يدافع عن نفسه، هجم عليه أحد الأشخاص بالمسدس، واستطاع جاره الذي دخل خلسة، أن ينقذ حياته بتدخله والإمساك بيد المعتدي لتطلق الرصاصة في سقف الصيدلية. بعدها دخلت مجموعة من الأشخاص أخذت هاتف مملوك واللابتوب الخاص به بعد الاعتداء عليه بمزيد من العنف وضربوه على رأسه، لكنه رفض مغادرة المنطقة قبل استعادة الجهازين بتدخل من أحد المسؤولين في المنطقة خلال وقت قصير.
في عهدة القضاء
حالياً باتت قضية مملوك في عهدة القضاء لأن الجهات الأمنية تدخلت تلقائياً بوجود إطلاق نار، وقال إن الأشخاص المعتدين معروفين بالأسماء، وعلم أنه تم توقيف بعضهم والتحقيقات مستمرة في هذا الشأن بالتعاون بين مخابرات الجيش والأجهزة الأمنية الأخرى.
وتأمنت لمملوك حماية أمنية عقب الاعتداء الذي تعرض له، وهو لم يوقفه عن أداء مهماته وتأمين التغطية المستمرة للأحداث فيها، لكن جراء قصف على مدينة صور بعد أيام من الاعتداء، أصيب منزله حيث يقطن مع أهله، وتعرض لإصابات مما دفعه إلى إصدار بيان يعتذر فيه عن الخروج من مجموعة الواتساب التي أنشأها والابتعاد بصورة موقتة، خصوصاً أن ما تعرض له كان في غاية القسوة عليه. أما هدفه اليوم فهو أن يأخذ حقه من المعتدين وأن تتم محاسبة من تعرض له بالأذى، والحصول على اعتذار علني عن الإساءة إلى صورته ظلماً، وقال “هم يصورون لإخافة الناس وترهيبهم لكني لن أكون مكسر عصا، وليس مسموحاً الاستمرار بهذه الخطة، ما فعلوه فرضني كمعارض لهم إلى الأبد، وصرت بعيداً عنهم بأشواط. فأنا لم أترك منطقة صور على رغم توافر أماكن سكن لي لأني أردت البقاء إلى جانب أهلي، ولأني لا أريد أن أخون مدينتي، لكني تعرضت إلى كثير من الظلم والأخبار الملفقة والتخوين مع تحريض مستمر، حتى أني كنت اقرأ أخباراً عن اعتقالي بتهمة العمالة، ثقتي بالدولة كبيرة وأنا لست بصدد التصعيد، بل أنوي تهدئة الأمور في ما يأخذ التحقيق مجراه وتجري المحاسبة التي تعيد لي حقي. بالنسبة إلي لم يحققوا هدفهم بل ثبتوني على خطي السياسي والثقافي والوطني”.
مبادرة رسمية لم تبصر النور
وأوضح وزير الإعلام في حكومة تصريف الأعمال زياد مكاري في حديث لـ”اندبندنت عربية”، أن “الوزارة تتابع كل حالة من هذه الحالات التي تعرض فيها إعلاميون لتهديدات ومضايقات أياً كان نوعها، وهذه المتابعة تحصل لكل حالة على حدة”، فيما يشير إلى أن “مثل هذه السلوكيات متوقعة في ظروف الحرب وفي ظل الانقسام الحاصل في البلاد. ونحن نستنكر أي تهديد يتعرض له صحافيون ونتابع كل قضية مع الأشخاص المعنيين ومع الجهات الأمنية والأطراف كافة. حتى أنني أتابع هذه الحوادث شخصياً وأتواصل مع المعنيين ومع القوى المحلية، كما كنا على تواصل مع مسؤولي العلاقات العامة والإعلام في ‘حزب الله’، إلا أن اغتيال (المسؤول الإعلامي في الحزب) محمد عفيف عقد الأمور أكثر بعد. وكنا نعمل على مبادرة جدية بالتواصل مع ‘حزب الله’ لتخفيف الضغوط والتوتر بين الحزب والإعلاميين، لكنها توقفت لدى اغتيال عفيف، أما حالياً فنحن حريصون على متابعة كل حادثة عن كثب مع مساع إلى تجنب تعرض الإعلاميين لمزيد من المضايقات”.
مناشدة الدولة بالتدخل
من جانبه يقول الكاتب الصحافي أسعد بشارة إن الإعلام اللبناني وقادة الرأي في لبنان يعانون منذ بدء الحرب الجارية بين إسرائيل و”حزب الله” من “حملة تهديدات كبيرة واتهامات بالتخوين والعمالة لإسرائيل”، مضيفاً أن التهديدات “تتراوح ما بين الاعتداء الجسدي كما حصل مع الصحافي نبيل مملوك وإطلاق حملات للجيوش الإلكترونية التابعة للممانعة وحزب الله ضد الصحافيين”. وقال بشارة إن هذه التهديدات تتزايد بصورة تصاعدية “لا سيما أن هذا الفريق (حزب الله وحلفاؤه) اعتاد دائماً أن يضع كل من يخالفه الرأي في خانة العمالة والاتهام، علماً أن من يطلقون تلك التهديدات مدفوعون بتوجيهات وبأوامر لتكفير الخصوم”.
وعلى رغم ذلك يؤكد بشارة أن الإعلام اللبناني “يستمر في تأدية دوره بإظهار الحقائق وإبراز التنوع”، مضيفاً أن “هذه هي الصفة التي ميزت لبنان وتترادف مع الحرية ومفهوم الحريات العامة التي حافظ لبنان عليها على رغم كل الأزمات التي عاشها”.
ودعا بشارة الإعلاميين والناشطين إلى مواصلة عملهم وإبراز مواقفهم بشجاعة، وأجهزة الدولة من القضاء والقوى الأمنية والعسكرية إلى مواجهة هذه التهديدات، و”ألا تغمض عينيها عما يحصل، لأن الهدف هو إسكات الإعلام والترهيب ومنع الأصوات الحرة من التعبير عن نفسها، لا سيما في ظل الحرب الجارية التي زج بها لبنان على رغم رفض غالبية وازنة من أبنائه”.