في 16 آذار 1977 كان وليد جنبلاط يتناول الغداء في بيروت عندما تلقّى اتصالاً من المحامي سليمان تقي الدين. قال له: «بيظهر صار شي مع المعلِّم». سأله وليد: «شو صار؟»، قال له سليمان متجهّماً: «بيظهر قاتلينوه».
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية والنصف بعد الظهر. كان كمال جنبلاط، «المعلِّم»، قد اغتيل نحو الساعة الثانية والربع على طريق بعقلين دير دوريت في الشوف في كمين نفّذه أربعة مسلحين، تبيّن لاحقاً أنّهم من الإستخبارات السورية. لحقوا سيارته المرسيدس بسيارة بونتياك وخطفوه أولاً ثم قتلوه مع مرافِقَيه وتركوهم على الطريق. كان الضابط في قوى الأمن الداخلي عصام أبو زكي يمرّ من هناك واكتشف هول الجريمة وانتقل الخبر سريعاً إلى وليد جنبلاط فهرع إلى قصر المختارة، ليصل بعدما كانت جثث والده ومرافِقَيه قد نقلت إلى هناك وسط تجمع شعبي درزي غاضب كبير يتقدّمه شيخ العقل محمد أبو شقرا.
من كمال إلى وليد
لم تكن علاقة وليد مع والده وثيقة. كان قد مضى أكثر من شهرين لم يقابله فيهما مقيماً في منزل فرن الحطب في وطى المصيطبة. كانت بينهما اختلافات حول كثير من الأمور. ولم يكن وليد من الفريق السياسي القريب من والده الواسع العلاقات الدولية والمحلية الذي استطاع أن يبرز بشكل كبير خلال الحرب اللبنانية وقبلها، كرئيس للحزب «التقدمي الإشتراكي» أولاً، ثم كرئيس لـ»الحركة الوطنية» متحالفاً مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وقد دخل معه في مواجهة شرسة مع رئيس النظام السوري حافظ الأسد.
عندما قال سليمان تقي الدين لوليد جنبلاط «بيظهر قاتلينوه» لم يكن يسمّي النظام السوري بالاسم، ولكن الشكوك كانت ذاهبة في هذا الإتجاه، بحيث أنّ المقصود من «واو التجهيل» كان معلوماً ولا داعي ربّما لتسميته بالاسم. كانت الإشارة واضحة وكافية ليستوعبها وليد جنبلاط من دون أن يقولها تقي الدين ومن دون أن يكون بدأ التحقيق الفعلي في كشف الجريمة. قبل أن يصل وليد جنبلاط إلى قصر المختارة، كانت ثمة جريمة ثانية تحصل، من خلال قتل عدد من المسيحيين في قراهم انتقاماً، نتيجة الإحتقان الطائفي الذي كان حاصلاً، ومن خلال محاولة إلقاء تهمة الإغتيال على المسيحيين، وكان على وليد جنبلاط أن يعمل مع الشيخ أبو شقرا على وقف الجريمة الثانية والتركيز على الجريمة الأولى، ولكن ما حصل كان قد حصل.
صحيح أنّ وليد جنبلاط الابن لم يكن على انسجام تام مع والده، ولكنّه سرعان ما استوعب ضخامة العبء الذي سيُلقى على عاتقه. في السيارة التي انتقل فيها من بيروت إلى المختارة، كان ينقل معه «بدلة» تحسباً للمناسبة الرسمية والتشييع، ومسدّساً. أوقفه حاجز للجيش السوري في الدامور. وعلى رغم أنّه عرّف عن نفسه وعن أن والده قد قُتِل، سألوه إذا كان يحمل سلاحاً وأخذوا منه المسدّس.
كان وليد جنبلاط يدرك بحدسه، كما مقرّبين من والده، أن النظام السوري يترصّد والده وأنّ هناك قراراً باغتياله يمكن أن يُنفَّذ في أي لحظة. وكانت هناك تحذيرات كثيرة تلقّاها كمال جنبلاط ولكنّه بقي يتجاهلها حتى أتت الساعة. تلك الساعة أيضاً كانت ساعة وليد جنبلاط عندما ألقى على كتفيه شيخ العقل خلال تشييع والده عباءة الزعامة الدرزية. وكان عليه أن يبدأ مساراً جديداً لم يكن قد تحضّر له من قبل، وأن يعيد قراءة سيرة حياة والده ويتعرّف عليه أكثر ويلغي المسافة التي كانت تفصل بينهما.
تاريخ من الجدّ إلى الأب والابن
لم يُرِد وليد جنبلاط أن تتكرّر بينه وبين ابنه تيمور مأساة انتقال الدور من والده إليه. تلك المأساة عاشها كمال جنبلاط أيضاً. في 6 آب 1921 اغتيل والده فؤاد جنبلاط وكان قائمقاماً لمنطقة الشوف عندما أطلق عليه النار شكيب وهاب في وادي عينبال. قيل وقتها إنّه لم يكن المقصود بل ضابطاً فرنسياً كان يمتطي جواده، واختلط الأمر على القاتل، ولكن في الواقع كان ذلك الإغتيال يقع في وقت التبست فيه علاقات الدروز مع الإنتداب الفرنسي بين معارضين له موالين لسلطان باشا الأطرش في سوريا ومتعاطفين معه في المختارة في لبنان.
كان عمر كمال جنبلاط (مواليد 6 كانون الأول 1917) أقلّ من أربعة أعوام عندما اغتيل والده وتصدّت للقيادة والدته الستّ نظيرة وأرسلته إلى مدرسة الآباء اللعازاريين في عينطورة في كسروان عام 1926حيث سيبقى نحو عشرة أعوام، حتى يستكمل علومه الثانوية، قبل أن يتصدّى للعمل السياسي ولزعامة الطائفة وقصر المختارة اعتباراً من العام 1943 عندما ترشّح للإنتخابات النيابية. ولكن هذه الزعامة لم تكتمل إلا بعد وفاة والدته في 27 آذار عام 1951.
هاجس الإغتيال
سيطر هاجس الإغتيال كثيراً على وليد جنبلاط. كان لديه قول يكرره وهو أن آل جنبلاط لا يموتون عادة على أسرّتهم. جدّه فؤاد اغتيل وكان عمره 36 عاماً. ووالده اغتيل وكان لم يكمل سنواته الستين بعد. عندما تجاوز وليد جنبلاط حافة الستين، (ولد في 8 آب 1949)، كان ذلك فأل خير بالنسبة إليه. وهو اليوم ينقل الزعامة إلى تيمور وقد تجاوز السبعين بثلاثة أعوام وعشرة اشهر. في العام 1975 خطفه مسلحون، روى في مقابلة له إنّهم كانوا من حزب «الوطنيين الأحرار» وإنّهم اقتادوه إلى مكان قرب مجرى ماء. واعتقد أن نهايته اقتربت حتى وصل داني شمعون وأنقذه ونقله إلى القصر الجمهوري في بعبدا، حيث كان ينتظره الرئيس سليمان فرنجية والرئيس كميل شمعون. ومن هناك انتقل للقاء والده الذي كان ينتظره بقلق كبير. يروي جنبلاط أنّ والده اتصل يومها بكميل شمعون، بعد قطيعة نحو 25 عاماً، ليشكره على إنقاذ ابنه.
بعد ذلك تعرض وليد، كما يروي، لأكثر من محاولة اغتيال قال إنّ إيلي حبيقة أطلعه على تفاصيلها ولكنّ واحدة فقط نُفِّذت في محلة الصنائع في بيروت ونجا منها بأعجوبة. هذا الهاجس والخوف من النظام السوري جعله يتردد أكثر من مرة في الوصول إلى نتائج عملية في الحوار مع بشير الجميل في العام 1980 -1981. على رغم يقينه بأنّ النظام السوري بقيادة حافظ الأسد هو الذي أمر باغتيال والده قصد الأسد بعد ذكرى أربعين والده.
ويتذكّر دائماً كيف أنّ الأسد قال له إنّه يشبه والده جدّاً. في مرحلة الإجتياح الإسرائيلي في حزيران 1982 حوصر في قصر المختارة. وبمعونة السفارة الأميركية في لبنان خرج منه إلى بيروت. بعد محاولة اغتياله قرّر الإنتقال إلى المحور الآخر نحو سوريا. كان المشهد سوريالياً عند منطقة صوفر المديرج، حيث وصل إلى آخر نقطة تسيطر عليها القوات الإسرائيلية لينتقل نحو البقاع سيراً على الأقدام إلى حيث كانت تنتظره سيارة أخرى نقلته إلى دمشق ومنها إلى الأردن. في ذلك العام من الزمن الصعب كان ولد ابنه تيمور.
إنتقال الزعامة بهدوء
يتصدّى تيمور اليوم لانتقال الزعامة إليه في ظروف هادئة سياسياً وعائلياً، ولكن محتدمة لبنانياً ووطنياً. لم يُحكَ عن خلافات كبيرة بينه وبين والده الذي هندس على مراحل عملية الإنتقال هذه. لم يُرِد وليد جنبلاط أن تتكرّر بينه وبين ابنه تيمور مسألة التباعد التي حصلت بين جدّته الست نظيرة ووالده، وبينه وبين والده. في العام 2017 في الذكرى الأربعين لاغتيال كمال جنبلاط، مشى وليد جنبلاط الخطوة الأولى في طريق نقل الزعامة إلى نجله البكر عندما ألبسه الكوفية الفلسطينية موصياً إياه بإكمال الطريق الذي بدأ مع كمال جنبلاط. وكانت الخطوة الثانية عندما تخلّى وليد جنبلاط عن مقعده النيابي عام 2018 وترشح بدلاً منه تيمور، ثم تخلّى عن رئاسة كتلة نواب «اللقاء الديمقراطي»، وهو اليوم يتخلى عن رئاسة الحزب. كل هذه المسؤوليات ستُلقى على عاتق تيمور.
بعد كمال جنبلاط تخلّى وليد جنبلاط عن كثيرين كانوا أحاطوا بوالده في «الحزب» وفي «الحركة الوطنية». ولكنّه لم يقطع العلاقة مع كثيرين منهم. علاقة ثابتة ظلّت تجمعه بكل من محسن ابراهيم أمين عام «منظمة العمل الشيوعي»، وبجورج حاوي أمين عام «الحزب الشيوعي». خاض تجارب مختلفة عن تجارب والده في التحالفات والعلاقات. من حرب الجبل إلى حرب التحرير ثم إلى انتفاضة 14 آذار بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري والقطيعة مع النظام السوري والخلاف مع «حزب الله».
على غرار والده لا بدّ من أن تكون هناك بصمات خاصة لتيمور جنبلاط في إعادة صياغة الفريق الذي سيكون إلى جانبه. الإختلاف بين المرحلتين هو أنّ وليد جنبلاط تولّى الزعامة بعد اغتيال والده وهو بعمر 28 عاماً، بينما تيمور يستطيع أن يعتمد كثيراً على خبرة والده وتاريخه وعلاقاته. صحيح أنّه يتصدّى للقيادة وهو بعمر الـ41 عاماً، ولكن وليد جنبلاط لا يمكن أن يذهب إلى تقاعده السياسي ويتفرّغ لقراءة الكتب وللسفر والسياحة. فهو يبقى حتى إشعار آخر سيّد قصر المختارة الذي يتّسع لسيّد آخر، وريث أهل البيت. وإن كان من الواجب على تيمور الحذر الكبير من هاجس الإغتيال الذي رافق آل جنبلاط منذ أكثر من مئة عام تقريباً.