ماذا حصل لتتغير الأوامر؟.
تبين أن الرئيس شمعون لم يعط موافقة واضحة على اقتراح العقيد جول البستاني، فبعد مغادرة رئيس الشعبة الثانية القصر الجمهوري والتأكد من أن سلاح البحرية في الجيش اللبناني قد يعمد إلى مصادرة الباخرة، استنفرت مجموعات مسلحة من حزبي الكتائب والأحرار ولواء الجبل، وتمركزوا قبالة شاطئ المعاملتين، وتم تركيز أسلحة متوسطة وثقلية لضرب الخافرتان البحريتان إذا اقتربتا من باخرة السلاح، كما سجّل ظهور مسلح كثيف لشباب من كسروان قبالة القاعدة البحرية في جونيه مهددين باقتحامها، فيما راح يسود مدينة جونية والساحل الكسرواني حال من الغليان الشديد وظهور مسلح خاصة مع وصول مجموعات مسلحة من زغرتا وبشري والبترون والمتن، وحتى داخل القاعدة البحرية كان هناك حالة تململ لدى الضباط والرتباء والجنود المسيحيين.
في هذه الأجواء أرسل الأميرال فارس لحود برقية إلى قيادة الجيش يشرح فيها الوضع في القاعدة البحرية في جونيه ومحيطها مقترحاً توقيف العملية خوفاً من حمام دم، كما تلقت قيادة الجيش عدة تقارير تبلغ عن حال الاستنفار على الشاطئ قبالة الباخرة، فأصدرت التعليمات للأميرال لحود بتوقيف العملية، وتوقفت الخافرتان قبالة الباخرة المقصودة.
فيما الاستنفار العسكري عند شاطئ كسروان في أعلى درجاته، وأعمال التفريغ تسير بسرعة، انعقدت عند الرابعة عصراً القمة الاسلامية في عرمون وضمت المفتي الشيخ حسن خالد والامام موسى الصدر ونائب رئيس المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين والرئيس رشيد كرامي والرئيس صائب سلام والرئيس عبد الله اليافي والزعيم كمال جنبلاط والنائب حسين الحسيني، وشارك في جانب من الاجتماع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات يرافقه صلاح خلف “أبو أياد”.
اقتصرت مداولات القمة على قضية باخرة الأكوامارينا والاجراء الواجب اتخاذه من قبل رئيس الحكومة.
خلال الاجتماع اتصل المفتي خالد بالبطريرك خريش وروى له تفاصيل قصة الباخرة كما رواها الرئيس كرامي، وأخبر البطريرك الماروني أن الوضع الناشئ عن قضية الباخرة خطير جداً، وهذا السلاح الواصل يهدّد الوحدة الوطنية ويعطّل رغبة اللبنانيين في التعايش ويفتح باب الأزمة على مصراعية، وطلب من البطريرك اجراء الاتصالات والضغوط اللازمة للمساهمة في حل التعقيدات الجديدة.
بعد فترة قصيرة، وفيما اجتماع عرمون ما يزال قائماً، اتصل البطريرك خريش بالمفتي خالد وأبلغه أنه يولي موضوع الباخرة اهتمامه وهو يقوم بمساعي لحل الأمر سريعاً، راغباً من المجتمعين ضبط الأعصاب وتهدئة الخواطر لمعالجة الأمور بالحسنى.
بعد ساعات من المداولات قرّ رأي المجتمعين في عرمون على عدم تقديم استقالة الحكومة والمطالبة باجراءات وتدابير عاجلة بحيث يأخذ القانون مجراه، وتقرر ابقاء اجتماعاتهم مفتوحة.
قرابة الساعة الثامنة ليلاً خرج الزعيم كمال جنبلاط من الاجتماع وأدلى بتصريح هاجم فيه قائد الجيش، متهماً بعض ضباط الجيش بالتنسيق مع الرهبان وميليشيا الكتائب والاحرار لابقاء الفتنة في لبنان واستمرار المجازر لمدة طويلة، ولم يوفر قي هجومه قائد سلاح البحرية وقائد ثكنة صربا اللذان رفضا مع ضباطهما تنفيذ أوامر وزير الدفاع مطالباً باحالة جميع الضباط المشاركين في قضية الباخرة إلى المحكمة العسكرية وطردهم ليكونوا عبرة لغيرهم. وطالب بالعمل على رفع الجيش إلى المستوى الوطني وانقاذه من مهاوي الطائفية التي انزله إليها قائد الجيش السابق (العماد اسكندر غانم).
فيما أعلن الرئيس اليافي دعمه للرئيس كرامي معتبراً حادثة الباخرة خطيرة جداً. فيما أعلن الامام الصدر أنه في ظل الاجواء المريحة التي بدأت تسود البلاد فوجئ بفضيحة رسو الباخرة المليئة بالسلاح وتقاعس المسؤولين عن واجبهم تجاهها على رغم أوامر رئيس الوزراء، واعتبر خبر وصول الباخرة كخبر وصول ورقة نعي لألف مواطن آخر من جديد. وأضاف أن الاجتماعات ستبقى مفتوحة وستتوسع لتشمل جميع الشخصيات الوطنية.
أما حزب الكتائب اللبنانية، فأصدر ليلاً بياناً بثته اذاعة صوت لبنان التابعة له التي عادت للبث قبل يوم واحد، بعد أن كان أوقفها الحزب قبل أشهر بناء لطلب السلطة الرسمية مساهمة في التهدئة العامة ولاتاحة فرصة النجاح أمام مساعي التسوية عبر الحوار الوطني.
لم ينف البيان الكتائبي المختصر قضية الباخرة، وشدّد على وجوب جعل حظر التسلح يشمل كل المرافئ والمناطق والحدود، مؤكداً تأييد الحزب لكل تدبير يتخذه رئيس الحكومة لفرض سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية.
كما أذاع صوت لبنان بياناً موقعاً باسم شباب كسروان جاء فيه أنهم (شباب كسروان) يعلنون وقوفهم إلى جانب قضية الباخرة دون تردد وأن كرامتهم لا تدعهم يتركون فريقاً وطنياً عرضة للإساءة والتعسف والتمييز والتعصب من جراء عملية باخرة على متنها أمتعة مختلفة والشواطئ اللبنانية تشهد رسو العديد من البواخر المثقلة بالأسلحة والذخائر وهي تفرغ في وضح النهار وأمام أعين رجال الدولة. وتحدّى البيان السلطة ورئيس الحكومة تحديداً أن يتمكن من مصادرة قطعة سلاح واحدة من بواخر الغرباء والأحزاب اليسارية، ورفض البيان “أن نكون نحن اللبنانيين هنا لنطلب براءة ذمة من أحد”، وأن يكون المسيحيون ضحية مؤامرة علنية.
عند شاطئ المعاملتين، غادرت ليلاً مرفأ الأكوامارينا الباخرة الصغيرة باتجاه باخرة السلاح الراسية قبالة الشاطئ وقبالتها خافرتا سلاح البحرية اللبناني، لتنقل كمية من الأسلحة والذخائر، فيما استمر الاستنفار العسكري للمقاتلين عند الشاطئ وقبالة قاعدة جونية البحرية.
في مقابل الاستنفار السياسي الذي أعلنه الرئيس رشيد كرامي وحلفائه، كان هناك استنفار سياسي آخر قام به قادة أحزاب الجبهة اللبنانية، الذين كان رجالهم يفرغون السلاح، وقرابة منتصف تلك الليلة عقد اجتماع في جونيه حضره الشيخ بشير الجميل وطوني فرنجية وداني شمعون وهنري صفير ورئيس الرابطة المارونية شاكر أبو سليمان وعدد من الرهبان وبعض مسؤولي حزبي الكتائب والأحرار وأعضاء من لجنة شراء الأسلحة، وعدد من النواب منهم الأب سمعان الدويهي وحبيب كيروز وطارق حبشي وجورج سعاده وادمون رزق والياس الهراوي، خصص لدرس الخطوات التالية بعد الفضيحة التي أثارها الرئيس كرامي، وكان تأكيد من الجميع على استمرار افراغ الحمولة مهما كانت النتائج، وأصرار من النواب على ضرورة توزيع السلاح في أسرع وقت ممكن على مناطقهم المهددة بالسقوط.
خلال الاجتماع وصل العقيد أنطوان بركات موفداً من الرئيس سليمان فرنجية، وأبلغ المجتمعين أنه لا يمكن استمرار منع الجيش من الاقتراب من الباخرة وتفتيشها، ويجب ايجاد حل لهذه المشكلة، فاقترح بعض المشاركين أن يصعد إلى الباخرة بعض الضباط الأمينين ويكتبوا تقريراً ينفون فيه وجود الأسلحة
رد أحد الضباط وكان وصل مع العقيد بركات أن معلومات الشعبة الثانية تؤكد أن الرئيس رشيد كرامي الذي هو أيضا وزيراً للدفاع قد يصرّ على تفتيش الباخرة من قبل ضباط يرسلهم بنفسه.
هنا وصل الجميع إلى ما يشبه الحلقة المفرغة. إلى أن أتى الحل من أحد الرهبان الذي اقترح أن يصعدوا إلى الباخرة بعض رؤوس الماعز ويقولوا أنها باخرة تحمل شحنة مواشي، وتكفّل باحضار الماعز خلال ساعات.
لم يكن أمام المجتمعين حلّ آخر، فتقرر أن يبلغ العقيد بركات رئيس الحكومة بأنه سيتم تفتيش الباخرة صباح اليوم التالي.
بعد انتهاء الاجتماع التقى الشيخ بشير الجميل وداني شمعون وفداً وصل من قرى الشريط الحدودي (مرجعيون والقليعة ورميش ودبل وعين أبل) أتوا لاستلام حصتهم من السلاح وضعت خلاله اللمسات الأخيرة على خط سير الشاحنة الى الجنوب التي تقرر أن تسلك طريق ترشيش – زحلة – البقاع الغربي وعدم عبور الطريق الساحلية.
مع ساعات الصباح الأولى كانت تقف عند ميناء طبرجا شاحنة بيك أب وعلى متنها راعٍ هبط من جرود كسروان ومعه نحو عشرة رؤوس من الماعز,
يتذكر أحد المقاتلين وكان وقتها يقف عند رصيف الميناء أن المشهد كان مضحكاً جداً، فقد رفض الراعي الهابط من أعالي كسروان ركوب البحر مع قطيعه، وأعلن أنه سينتظر عودة الماعز عند رصيف الميناء، ورغم محاولة البعض اقناعه رفض التزحزح عن موقفه، ولم يكن أمام الشباب سوى نقل رؤوس الماعز إلى زورق صغير وايصالها إلى الباخرة. وكان مشهداً مضحكاً جداً: رؤوس الماعز متشبثة بالأرض ترفض الانتقال إلى الزورق وهي تطلق ثغائها، وعدد من الشباب يحاولون جرها وحتى حملها ونقلها إلى الزورق، وبعد جهد جهيد انطلق الزورق بحمولته إلى الباخرة، وهناك كانت معاناة أخرى خلال إصعاد الماعز بالرافعة إلى الباخرة، لكن في النهاية وصلت الماعز إلى الباخرة وبدأ انتظار وصول ضباط الجيش اللبناني.
لم تتأخر بعثة الجيش اللبناني بالوصول، فبعد أن وصلته برقية بتكليفه تفتيش الباخرة، وبعد التأكد أن كل شيء أصبح جاهزاً، انطلق الأميرال فارس لحود من قاعدة جونيه البحرية للاشراف على عملية التفتيش.
صعد الأميرال لحود إلى الباخرة وشاهد الماعز واستفسر عن الوقت المتبقي لانهاء تفريغ الصناديق ثم عاد إلى القاعدة وأرسل برقية يؤكد فيها أن الباخرة تحمل شحنة مواشي.
كما تم إرسال ثلاثة جنود من قاعدة جونيه البحرية إلى المحكمة العسكرية، وأدلوا بافاداتهم أمام المدعين العسكريين أسعد جرمانوس ووفيق الحسامي، أكدوا فيها أنهم صعدوا إلى الباخرة وشاهدوا صناديق خشبية تحوي معلبات وكميات من الأخشاب ورؤوس من الماعز.
لم يقصد أي من هؤلاء الجنود يومها الباخرة، بل تم إختيارهم لأنهم موضع ثقة، وكانوا قبل توجههم إلى المحكمة العسكرية التقوا محامٍ كتائبي معروف لقّنهم ما يجب أن يقولوه، وأبلغهم أن القاضي جرمانوس سيساعدهم.
يتبع