تصاعدت المواجهات العسكرية بين “حزب الله” وإسرائيل بصورة لافتة، لا سيما بعد التفجيرات التي طاولت الأجهزة وشبكة الاتصالات اللاسلكية العسكرية التي يدير الحزب من خلالها نشاطه العسكري، مما أثار مخاوف من احتمال اندلاع حرب شاملة.
ومنذ أسابيع تشهد الحدود اللبنانية– الإسرائيلية حشوداً عسكرية غير مسبوقة، كان آخرها نقل الفرقة 98 التي تشمل وحدات المظليين والقوات الخاصة من الجبهة الجنوبية إلى الشمال في إطار استعدادات متزايدة لمواجهة “حزب الله”، بالتزامن مع تهديدات إسرائيلية بشن حرب برية على لبنان لتغيير الوضع في الشمال وإعادة المستوطنين النازحين من المستعمرات الذين يفوق عددهم 80 ألفاً، على رغم التحذيرات الإقليمية والدولية من انفجار الموقف وخروجه عن السيطرة.
وما يزيد من احتماليات الحرب، تطابق المواقف بين المستويين العسكري والسياسي في هذا الاتجاه للمرة الأولى منذ هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، إذ أكد رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو أنه “أعطى الجيش أوامر للاستعداد لتغيير الوضع في الشمال”، بينما قال وزير الحرب يوآف غالانت إن الجيش بدأ نقل ثقله نحو الشمال، مع اقتراب تحقيق الأهداف في الجنوب، في حين يؤكد قائد المنطقة الشمالية أن “القوات على أتم الاستعداد لأي مهمة قد تطلب منها”.
الخطر في الأمر، بحسب ما نقلت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” عن مسؤولين إسرائيليين أن “حزب الله والحكومة اللبنانية سيتحملان المسؤولية عن أي هجمات من لبنان”، مما يعني أن لبنان الرسمي بات أيضاً تحت وقع التهديدات الإسرائيلية.
لواء الشمال
وبذلك تنضم الفرقة 98 التي تشمل كتيبة الدبابات السابعة وكتيبة مظليين وكتيبة كوماندوس، إلى ألوية أخرى ضمن لواء الشمال، لا سيما لواءي 179 و769، بعد استكمالهما التدريبات تحضيراً لأي سيناريو في الجبهة الشمالية والتي شملت محاكاة للحرب البرية وإجلاء الجرحى من ساحة المعركة تحت النيران وتنسيق عمليات القيادة لحماية المنطقة الشمالية، لتضاف إلى فرقة 36 التي تقاتل على الجبهة الشمالية منذ أشهر عدة، مما يعني أن معظم القوة النظامية للجيش الإسرائيلي ستشارك في القتال على الجبهة الشمالية.
ووفق تقارير إسرائيلية، فإن القيادة الشمالية في الجيش قدمت خططاً عملياتية لرئيس الأركان هرتسي هليفي، بما في ذلك توغل بري محتمل في لبنان إذا تصاعدت الحرب، وتشمل أيضاً إنشاء منطقة عازلة أمنية عبر الحدود لتحييد تهديد “حزب الله” للمستوطنات.
وكان الجيش الإسرائيلي أعلن قبل أشهر عن تشكيل لواء عسكري جديد باسم “ههاريم” (لواء الجبال) برئاسة العقيد ليرون أبلمان، يتبع للقيادة الشمالية في الجيش، ليكون متخصصاً في خوض القتال الجبلي وسط التضاريس الصعبة والمناطق الجبلية مع لبنان وسوريا، وسيتركز جل النشاط والعمل العسكري في مناطق جبل الشيخ وجبل الروس “دوف” ومزارع شبعا المحتلة.
وتشمل القيادة الشمالية في الجيش الإسرائيلي ثلاث وحدات عسكرية (فيالق)، تتولى مهمة الإشراف على أمن الحدود الشمالية مع لبنان والجليل الأعلى والجولان ومنطقة خط وقف إطلاق النار مع سوريا، وتتألف كل منها من اثنتين إلى خمس فرق ويبلغ عدد أفرادها من الجنود والمقاتلين ما بين 20 ألفاً و45 ألف جندي، ويقود الفيلق ضابط برتبة لواء.
فيلق “برعام”
يسمى اللواء 300، وتشكل في يونيو (حزيران) 1974 ويعتبر وحدة وتشكيلة عسكرية في منطقة “أصبع الجليل”، وشارك في الحرب الأولى على لبنان، وكان أبرز نشاط له “عملية الليطاني” عام 1978، إذ شارك الفيلق للمرة الأولى في حرب شاملة وعملية عسكرية من أجل احتلال الأراضي اللبنانية وإقامة المنطقة الأمنية العازلة في الجنوب اللبناني. وكان الحضور الأبرز للفيلق في حرب لبنان الثانية عام 2006، وكذلك في التصعيد الحالي المتواصل على الحدود الشمالية مع “حزب الله” عقب هجوم السابع من أكتوبر.
فيلق “الجولان”
هو لواء إقليمي في فرقة “باشان” ومسؤول عن الأمن اليومي في قطاع مرتفعات الجولان وقطاع جبل الشيخ، وفي بدايات القرن الـ21 تقرر توحيد لواء “الجولان” ولواء “حيرمون 810 -جبل الشيخ”، في لواء مكاني واحد أطلق عليه اسم “لواء الجولان”، وكجزء من ذلك قررت القيادة الشمالية في الجيش الإسرائيلي أن اللواء الموحد الجديد سيسيطر على كامل قطاع هضبة الجولان وجبل الشيخ، وفي الوقت نفسه أصبح لواء “حيرمون” لواء احتياط.
وعام 2009، تقررت إعادة الوضع إلى ما كان عليه من قبل، وعاد لواء “حيرمون” لينشط بصورة منفصلة في هضبة الجولان وعلى طول خط وقف إطلاق النار وجبل الشيخ، وعام 2016 وعقب خطة “جدعون” للإصلاحات في الجيش، تقررت إعادة توحيد الألوية تحت قيادة لواء “الجولان”.
فيلق “حيرام”
يسمى اللواء 769، وهو لواء فرقة إقليمي في منطقة “أصبع الجليل” ويتولى مسؤولية الأمن المستمر في القطاع الشرقي من الحدود بين إسرائيل ولبنان، وهو قطاع يشمل الجليل الأعلى وجبل الروس (دوف) ومزارع شبعا، وتقع القاعدة الرئيسة للواء في معسكر “جيفور” شمال “كريات شمونة”، وتضم شركات وأقساماً مهنية مثل شركات طبية واتصالا، وورشة لصيانة المركبات، وشارك اللواء في “عملية الليطاني” وفي الحرب الأولى والثانية على لبنان، فضلاً عن القتال ضمن المنطقة الأمنية العازلة في الجنوب اللبناني.
تسوية مع إيران
يرى الأستاذ الجامعي في الجيوسياسية العميد خليل الحلو أنه على رغم ارتفاع حدة التوتر بين إسرائيل و”حزب الله”، لا تزال أميركا تعارض بقوة شن تل أبيب هجوماً برياً على لبنان، لافتاً إلى أن “الولايات المتحدة لا ترغب في التورط بنزاع جديد في الشرق الأوسط، وتسعى إلى تجنب تورط إيران في صراع أوسع وتركز على أولويات عسكرية أخرى تشمل أوكرانيا وتايوان والفيليبين”.
واستبعد الحلو قيام إسرائيل بعملية برية مشابهة لاجتياح عام 1982، موضحاً أن “الطاقة الأميركية قد تخف تجاه لجم إسرائيل في هذه الفترة، إلا أن نتنياهو يدرك تماماً أن تجاوز حدود الحزب الديمقراطي قد يؤدي إلى تعقيدات كبيرة، لا سيما أن احتمالات فوز المرشحة كامالا هاريس كبيرة”.
وبرأيه فإن “فريق هاريس يسعى إلى تسوية مع إيران في حال وصولها إلى سدة الرئاسة، مما قد ينعكس على العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل”، لذلك فإن تل أبيب ستبقى ملتزمة الحدود التي تضمن الحفاظ على علاقتها القوية مع أميركا وعدم تجاوزها في سياق التصعيد العسكري بهدف الحفاظ على إمدادها بالأسلحة والذخيرة.
واعتبر أن تبديل الأفواج العسكرية الذي تقوم به إسرائيل على الحدود البرية مع لبنان ليس أمراً جديداً أو مفاجئاً، إذ إن “الحدود اللبنانية مع إسرائيل تمتد على طول 120 إلى 130 كيلومتراً، ولذلك لا يمكن لإسرائيل أن تضع قوى عسكرية تتجاوز ما يمكن أن تستوعبه الجبهة”، مشيراً إلى أنه “من الأساس كانت هناك ثلاث فرق عسكرية، ومع تطور الأوضاع تمت زيادة فرقتين إضافتين”، ويعدّ هذا النوع من تبديل القوى أو تعزيز الوجود العسكري على الحدود جزءاً من الإجراءات الروتينية التي تتخذها القوات المسلحة للحفاظ على الجاهزية والاستعداد، وليس دليلاً على تصعيد عسكري وشيك.
ولفت الحلو إلى أن “الجيش السوري لا يسعى إلى الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل والتورط في النزاع، على رغم الضربات التي تطاول سوريا والتي تركز على أهداف تتعلق بـ”حزب الله” والحرس الثوري الإيراني، مؤكداً أن إسرائيل تتمتع بتفوق عسكري ملحوظ على “حزب الله” لناحية القوة النارية والقدرات البرية والتكتيك والمناورات، مقابل شبكة أنفاق كبيرة يمتلكها الحزب تحت الأرض وتُعدّ جزءاً أساسياً من استراتيجيته الدفاعية وتوفر له القدرة على تنفيذ عمليات عسكرية معقدة ومفاجئة.
العقيدة العسكرية
ويؤكد الخبير العسكري العميد الركن المتقاعد سعيد القزح بدوره أن إسرائيل لن تقدم على اجتياح بري في جنوب لبنان، إنما ستستمر بتوجيه ضربات دقيقة تهدف إلى إحداث أضرار كبيرة في صفوف “حزب الله”، بما في ذلك شبكات الاتصالات واستهداف مخازن الذخيرة ومراكز تخزين الأسلحة ومراكز تصنيع الأسلحة والطائرات المسيّرة والصواريخ الذكية.
ووفقاً للمنطق العسكري، رأى القزح أن الاجتياح البري سيكون مكلفاً للغاية بالنسبة إلى إسرائيل، إذ سيؤدي إلى تكبد الجيش الإسرائيلي خسائر بشرية كبيرة وأضراراً جسيمة، وقال “عمل ’حزب الله‘ منذ عام 2006 على تحصين الأراضي التي يسيطر عليها بإنشاء مراكز رمي للأسلحة المضادة للآليات والدروع، وتوفير مواقع قنص وقواعد لرمي الصواريخ ومراكز إيواء لعناصره وتجهيزها تحت الأرض، بهدف إيقاع أكبر قدر من الضرر بالقوات الإسرائيلية المتقدمة”.
وأردف أن إسرائيل ليست مجبرة على تقديم تضحيات أو خسائر بشرية من أجل كسر إرادة “حزب الله”، ما دام أنها قادرة على تحقيق أهدافها من خلال القصف الجوي واستهداف قدرات الحزب العسكرية، بالتالي من المتوقع أن تزيد من قصفها الجوي وتكثف استهدافاتها لمراكز الحزب القيادية واللوجستية، إضافة إلى ملاحقة قياداته أينما وجدوا في لبنان أو في سوريا.
وبرأيه، إذا اضطرت إسرائيل إلى الدخول برياً في جنوب لبنان، فلن تقوم بذلك إلا بعد اتباع سياسة “الأرض المحروقة” بصورة شاملة، مما يتضمن قصفاً مكثفاً وتدميراً لجميع الأنفاق القتالية التي تختلف في حجمها عن الأنفاق الكبيرة التي ظهرت في “عماد 4″، ولكنها تعتبر أكثر تعقيداً وصعوبة.
ومن جهة أخرى، أشار القزح إلى أن إسرائيل تمتلك 23 فرقة عسكرية ويتكون جيشها من نحو 150 ألف عسكري مقاتل، إضافة إلى 450 ألف عسكري احتياط، ويتماشى هذا مع العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي تعتمد على وجود جيش مقاتل صغير نسبياً مقابل جيش احتياط كبير، بالتالي فإن إسرائيل تمتلك قوة عسكرية هائلة لن تتأثر بصورة كبيرة بالصراع في غزة.
وفي المقابل، لفت إلى أن الاستهداف الإسرائيلي لمخازن الذخيرة والأسلحة ومعامل التصنيع، إضافة إلى استهداف شحنات الأسلحة التي تنقل من سوريا إلى لبنان وتفجير الشاحنات المحملة بالأسلحة، قللت بصورة كبيرة من قدرة “حزب الله” على تعزيز عتاده العسكري، ومع ذلك لا تزال لديه قوة بشرية قادرة على مجابهة أي اجتياح بري محتمل.
منتصر وخاسر
ويرى العميد الركن جورج نادر أن الاشتباك بات في مرحلة “نزاع عسكري منظم”، وعلى رغم التقارير التي تشير إلى احتمال دخول القوات الإسرائيلية إلى الأراضي اللبنانية، يبدو أن هذا الخيار مستبعد لأسباب عدة، أبرزها الكلفة البشرية العالية ورفض الولايات المتحدة وأوروبا فكرة الاجتياح البري، إلا أن النوايا الحقيقية لنتنياهو غير واضحة، إذ إنه لا يشارك معلوماته مع أحد، حتى مع حلفائه الأوروبيين والولايات المتحدة، مما يجعل من الصعب التنبؤ بخطواته المستقبلية.
وقال نادر إن إسرائيل ستواصل تنفيذ ضربات نوعية واستراتيجية في الضاحية الجنوبية لبيروت، وهي منطقة حساسة نظراً إلى تجمع قيادات “حزب الله” هناك، إضافة إلى ذلك ستشمل الضربات مناطق في البقاع وأجزاء من العمق السوري، إذ تعتمد تل أبيب على استراتيجيات دقيقة لاصطياد أهداف ثمينة من دون أي اعتبار للمكان أو الأبعاد الأخرى، مما يجعل الصراع يبدو كحرب وجودية بين الأطراف المتنازعة، وبذلك سيكون هناك في نهاية المطاف منتصر وخاسر، كما أنه لا مجال للتسويات.
ولفت إلى أن إيران تواجه صعوبة في تقديم الدعم لـ”حزب الله” بسبب وجود شبكة من العملاء داخل صفوفه، مما ساعد إسرائيل على تنفيذ عمليات استباقية، بما في ذلك اغتيال القائد العسكري للحزب فؤاد شكر، مشيراً إلى أن طهران في وضع معقد وتواجه تحديات متزايدة في دعم “حزب الله”، ومعتبراً أن حركة “حماس” قد تكون الطرف الخاسر، بخاصة أنها لم تتلقَّ أي دعم عسكري من إيران منذ السابع من أكتوبر واقتصرت المساعدة على الدعم اللفظي واللوجستي.