لن نعود الى مرحلة ما قبل السجن. لكلّ فريقٍ شارك في الحرب روايته و”قضيّته”. لكنّ جعجع أثبت، خصوصاً في السنوات الأخيرة، أنّه الأكثر التزاماً بالمواقف، ما أكسبه شعبيّةً ظهرت في الانتخابات النيابيّة الأخيرة، وهي ارتفعت منذ ذلك الحين نتيجة ثلاثة عوامل أساسيّة:
تراجع الرهان على “التغييريّين” نتيجة أداء بعض النواب وانقساماتهم.
تراجع شعبيّة التيّار الوطني الحر، المنافس الأساسي لـ “القوات”.
تصاعد حالة الغضب المسيحي على حزب الله.
وأكثر ما يدلّ على ارتفاع شعبيّة “القوّات” ليس اكتساحها الانتخابات الطالبيّة الجامعيّة، بل إشادة بعض خصومها التاريخيّين، خصوصاً من صنّاع الرأي العام، بمواقف “القوات” وتأكيدهم أنّها الأقوى شعبيّةً لدى المسيحيّين. حتى بعض المقرّبين من حزب الله لم يتردّد في إعلان ذلك.
والحقيقة أنّ هذا الأمر لا يرتبط فقط ببعض “الهدايا” التي يقدّمها حزب الله، مثل حادثة الطيّونة، بل بمبادئ جعجع التي دفع أثماناً لها، وارتضى خروجه من السلطة مراراً، وابتعاده عن الزبائنيّة في التوظيفات، وعدم اعتماد الأسلوب الخدماتي التقليدي الذي يتضمّن “العربشة” على القانون لخدمة الأزلام…
لكنّ مبدئيّة جعجع جعلت مكاسبه، برأي كثيرين، ورقيّة، أي أنّها لا تترجم سياسيّاً. كأنّ وديعته المصرفيّة تتضخّم، ولكن بـ “اللولار”. فرفضُ رئيس “القوات” الدخول في تسويات، وإعلانُ مواقف ثابتة من الاستحقاقات الدستوريّة، من جلسات الانتخابات الرئاسيّة إلى جلسة التمديد لقادة الأجهزة الأمنيّة وصولاً الى جلسة الموازنة، قابلتهما مواقف متردّدة لجبران باسيل، من آخر مظاهرها الموقف الذي أعلنه من جلسة الموازنة التي ستنعقد اليوم، وفيه بحثٌ متأخّر عن إخراجٍ للمشاركة.
ولهذه “الصورة” التي صنعها جعجع لنفسه ضريبة إذ جعلته أسير مبادئ يصعب تخلّيه عنها، كأنّه انتقل من سجن وزارة الدفاع، الى “سجنَين” الأول في معراب يفرضه التهديد الأمني لحياته، والثاني هو سجن المبادئ الذي يمنعه عن عقد التسويات، باستثناء التفاهم مع العماد ميشال عون الذي صُنع كمصالحةٍ تاريخيّة، قبل أن يسقط في الجشع “العوني – الباسيلي” لحصد كلّ شيء، وزارات وإدارات ونقابات ومجالس إدارة، ناهيك عن مطلب “التطنيش” عن أخطاء العهد السابق.
واللافت أنّ جعجع مطالَب اليوم بالبقاء على مبدئيّته، في زمن المتلوّنين، خصوصاً من الموارنة اللاهثين وراء كرسيّ بعبدا، بينما يدرك أنّ طريقه اليها يصطدم بـ “جبل” حزب الله. ومطالَب أيضاً، حتى من نوّابٍ وقياديّين “قوّاتيّين”، ببعض البراغماتيّة التي تتيح تحويل بعض “اللولار” السياسي الى “الفريش”!
من يعرف جعجع جيّداً، يدرك أنّه لن يتنازل، ولو بقي أسيراً ودفع أثماناً. من كان ليقول إنّه سيخرج من “تحت الأرض” الى القمّة في السياسة؟