في الوقت الذي تكافح فيه الطواقم الطبية الفلسطينية في علاج المرضى والمصابين في غزة، يجدون أنفسهم في مواجهة مباشرة مع القوات الإسرائيلية التي طالت هجماتها واقتحاماتها للمستشفيات.
ويتهم أطباء في غزة تحدثوا لشبكة “سي إن إن” الجيش الإسرائيلي بـ”تدنيس الجثث وإطلاق النار على مدنيين”، في مستشفى تزعم إسرائيل إنه “مركز قيادة لحماس”.
وتتعلق هذه الاتهامات بعملية استمرت ثمانية أيام قام بها الجيش الإسرائيلي في مستشفى كمال عدوان مؤخرا، حيث أدلى أطباء ومرضى بشهاداتهم حول أفعال الجيش الإسرائيلي الذي داهم المستشفى وقام بانتهاك “جثث المرضى القتلى بالجرافات، وسمحوا لكلب عسكري بالهجوم على رجل مقعد، وأطلقوا النار على الأطباء”.
وتؤكد منظمات إنسانية أن المرافق الطبية في غزة أصبحت غير قادرة على تقديم الخدمات الأساسية.
ويقول الجيش الإسرائيلي إن “حماس تخفي بنية تحتية إرهابية داخل وحول المؤسسات المدنية في غزة، مثل المستشفيات، وأن استهدافها ضروري لأنه يعمل على القضاء على حماس في غزة”.
ولم يرد الجيش على هذه الاتهامات بشكل مباشر في رده على طلب سي إن إن للتعليق، لكنه أقر أن قواته كانت بمهمة في المستشفى حيث “ألقت القبض على 80 إرهابيا، شارك بعضهم في مذبحة السابع من أكتوبر الفظيعة”.
وكان الجيش الإسرائيلي قد نشر سابقا مقطعا مصورا لاستجواب مدير المستشفى، ونشر بيانا مصاحبا قال فيه إنه “اعترف باستخدام المستشفى لأغراض عسكرية”، فيما لم يتضح ما إذا كان هذا الاعتراف قد تم انتزاعه تحت الإكراه من عدمه، وفق ما ذكرته الشبكة الأميركية.
وتعتبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن نشر لقطات استجواب أسرى الحرب يشكل انتهاكا لنظام اتفاقية جنيف.
وفي 7 أكتوبر، اقتحمت قوات من كتائب القسام، الذراع العسكرية لحماس، الحدود بين غزة وجنوب إسرائيل ونفذت هجوما غير مسبوق أسفر عن مقتل حوالي 1200 شخصا، معظمهم من المدنيين، وفق السلطات الإسرائيلية.
ردا على ذلك، شنت إسرائيل هجوما جويا وبحريا وبريا عنيفا على قطاع غزة، أسفر حتى الآن عن مقتل أكثر من 20 ألف شخص، معظمهم من النساء الأطفال، وفق أحدث حصيلة صادرة عن وزارة الصحة في القطاع الذي تحكمه حماس.
شهادات تصف مشاهد مروعة
وتقول الشبكة إن من أخطر الاتهامات المتعلقة بعمليات للجيش الإسرائيلي في مستشفى كمال عدوان “بينما كانت القوات تغادر مجمع المستشفى استخدمت الجرافات لاستخراج الجثث التي تم دفنها مؤخرا في مقابر مؤقتة في فناء المستشفى”.
وقال رئيس خدمات الأطفال في المستشفى، حسام أبو صفية، للشبكة إن “الجنود حفروا القبور وسحبوا الجثث بالجرافات، ثم سحقوا الجثث بالجرافات”.
وأضاف “لم يسبق لي أن رأيت مثل هذا الشيء من قبل”.
وأظهرت أدلة مرئية اطلعت عليها “سي إن إن” بقايا بشرية متحللة متناثرة في جميع أنحاء أرض المستشفى.
الممرضة أسماء طنطيش قالت إنه “تمت حراثة الأرض بالجثث في الفناء أمام أعيننا.. طوال الوقت كنا نصرخ عليهم، لكن صرخاتنا وجدت آذانا صماء”.
ورصدت وكالة أنباء فرانس برس ما حدث في باحة مستشفى كمال عدوان وقال إنها استحالت ركاما، حيث يسير فلسطينيون وسط الأنقاض لانتشال الجثث فيما يعلو بكاء أحدهم وهو يكفن أحد الجثامين قبل دفنها.
وأشارت إلى أن آثار الدبابات والجرافات بدت واضحة مع خراب كبير.
أمام باحة المستشفى، وقف أبو محمد وهو يبكي قائلا: “هدموا المبنى. قتلوا الأطباء. حتى الأطباء لم يسلموا منهم. لم يبقوا على أي شيء”.
وأكد الرجل بتأثر في حديثه للوكالة “ابني هنا”، مشيرا تحت الأنقاض، “لا أعرف كيف سأعثر عليه. أين الدول العربية؟”.
أما محمود عساف البالغ 50 عاما فقد أتى من جباليا مع عربة لإجلاء طفلين من أقاربه مصابين بحروق بالغة.
ويقول لفرانس برس وقد بدا عليه التأثر الشديد: “عند وصولي إلى المستشفى وجدت دمارا هائلا لا يوصف. المرضى في كل مكان. لا يوجد أي شيء صالح للحياة”.
ويتابع “وجدت هادي وهو مشلول ملقى على ظهره تحت الكراسي وكل شيء فوقه” موضحا “دخل الطفلان المستشفى قبل عشرة أيام. وبمجرد الانسحاب، جئت لأخذهما على وجه السرعة” وهما مصابان بحروق على كامل الجسم “من دون أي أكل أو شرب أو عناية”.
ويضيف “هناك إصابات أخرى من أقاربي في المستشفى لا أستطيع نقلها”.
ويقول أبو محمد وقد غلبه اليأس “مللنا. يقتلوننا منذ 1948، فليرشوا علينا السلاح الكيماوي ويقتلونا لنرتاح بدلا من هذا العذاب”.
“أكبر من الكوابيس”
وأكد أبو صفية وموظفون آخرون في المنشأة الطبية لـ “سي إن إن” أن المستشفى “يقدم الخدمات الطبية فقط”، وأن الذين اعتقلتهم القوات الإسرائيلية كانوا من المدنيين والعاملين في المجال الطبي.
وذكر أبو صفية أن القوات الإسرائيلية حاصرت المستشفى في وقت سابق وهدموا جداره الغربي، وطلبوا من أي رجل الخروج.
وقال إن “ما حدث بعد ذلك كان أكبر من الكوابيس بالنسبة لأولئك الذين بقوا في المستشفى”، حيث سمح له وأربعة أطباء آخرين بالبقاء لرعاية 62 مصابا، بما فيهم أطفال رضع.
وأضاف أبو صفية أن الأضرار التي لحقت بالمستشفى كانت بالغة، إذ لم تكن هناك أي رعاية يمكن تقديمها، وكان المستشفى “خاليا من الطعام والماء والكهرباء وحليب الأطفال، وحتى الأدوية”.
وتتذكر الممرضة طنطيش أنها توسلت للحصول على الماء من دون جدوى، مضيفة أن بعض “الأطفال ماتوا خلال العملية الإسرائيلية، وكانت بعض الممرضات يحاولن تخفيف الحليب بمحلول ملحي لإطعام المزيد من المرضى الصغار في المستشفى.
وكشف أبو صفية أن الصور التي نشرها الجيش الإسرائيلي لما زعمت أنهم مسلحون في المستشفى ما هي إلا أسلحة مملوكة لحراس الأمن وأمروا حينها الشباب المدنيين النازحين وحتى بعض أفراد الفريق الطبي بحملها وتصويرهم.
وقال أبو صفية إن القوات الإسرائيلية كانت تعتقل وتعذب أفرادا من الطواقم الطبية وهم يعلمون أن لا علاقة لهم بالعمليات العسكرية، وأشار إلى أن زميله الطبيب أيمن رجب، تم اعتقاله وبعد إطلاق سراحه أطلقوا عليه النار أثناء عودته للمستشفى، ولكنه نجا وعاد إلى عائلته.
وزاد أن طبيبا آخر أصيب برصاصة في ساقه، بينما أصيب نجل أبو صفية نفسه برصاصة في بطنه.
ويؤكد أبو صفية أنه شاهد بعينيه أثناء محاصرته في المستشفى زملائه المصابين وابنه يزحفون على طول الطريق حتى وصلت إليهم سيارة إسعاف ونقلتهم إلى مستشفى آخر.
وفي أحد أيام الحصار وجد أبو صفية رجلا مسنا جريحا ملقى على الأرض أمام المبنى، وعندما حاول الاقتراب منه، بدأ الجنود في إطلاق النار والضحك، وقال: “نجوت من إطلاق النار، لكن الجنود اتصلوا بي وطلبوا اصطحاب الرجل المصاب إلى الداخل مرة أخرى.. ولكن بعد فوات الآوان”.
وفي حادثة أخرى، تم إرسال كلاب عسكرية إسرائيلية ترتدي كاميرات إلى المستشفى، وقام أحدها بمهاجمة رجل مسن يستخدم كرسيا متحركا قبل أن يتم إيقافه “إذ كان الرجل يصرخ من الألم وبكي الأطفال والنساء من هول المشهد”.
وقال إن “المشهد كان أبعد من الكوابيس.. إذ لم أستطع مساعدة أي شخص. جاء أحد الجنود ليأخذ الكلب وكان يضحك على الرجل العجوز وما فعله الكلب به”.
دمار “مفزع”
وطالبت وزارة الصحة في القطاع منظمات حقوق الإنسان بفتح تحقيق فيما أسمته بـ “مجزرة مستشفى كمال عدوان”.
وكانت منظمة الصحة العالمية قد وصفت ما لحق بمستشفى كمال عدوان من “تدمير فعلي” من جراء عملية للجيش الإسرائيلي بـ”المفزع”.
وجاء في منشور للمدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبرييسوس، على منصة إكس “تم اعتقال العديد من أفراد الطواقم الطبية، وتسعى منظمة الصحة العالمية وشركاؤها بشكل عاجل للحصول على معلومات حول وضعهم”.
ردا على هذا المنشور، وجهت البعثة الإسرائيلية لدى الأمم المتحدة في جنيف انتقادات للمدير العام للمنظمة لعدم إشارته إلى “تواجد راسخ لحماس داخل المستشفى”، بحسب وكالة فرانس برس.
وقالت إن الجيش أعطى مهلة إنسانية وإنه “تم إخلاء معظم المستشفى”.
لكن رواية المدير العام للمنظمة تختلف عن الرواية الإسرائيلية إذ يشير إلى أن “كثرا من المرضى اضطروا للإخلاء ذاتيا وسط مخاطر تهدد صحتهم وأمنهم إذ تعذر على سيارات الإسعاف الوصول إلى المرفق”.
وتابع “من بين المرضى الذين قضوا، كثيرون ماتوا لغياب الرعاية الصحية المناسبة، وبينهم طفل يبلغ تسع سنوات”، معربا عن “قلق شديد إزاء سلامة النازحين داخليا الذين لجؤوا إلى المستشفى”.