لم تكن التطورات في سوريا الممثلة في سقوط نظام الأسد وتسلم “هيئة تحرير الشام” القيادة قد أكملت أسبوعها الثاني حتى توجه رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” السابق النائب السابق وليد جنبلاط إلى العاصمة السورية للمرة الأولى بعد 13 عاماً.
ولاقت الزيارة رفقة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز على رأس وفد من كتلة اللقاء الديمقراطي و”الحزب التقدمي الاشتراكي” مواقف متباينة راوحت بين الانتقاد والتفهم، وربط كثيرون الاستعجال الجنبلاطي بهاجس الزعيم الدرزي بعد بروز إشارات استقلالية في محافظة السويداء.
كما استغرب كثيرون ما وصفوه بتسرع الزعيم الدرزي لإقامة علاقات مع القيادة السورية الجديدة والتقرب من الشرع، طالما أن السلطة في سوريا لم ترتب أوضاعها بعد وهي في مرحلة انتقالية. وبغض النظر عن مواقف التأييد أو الاعتراض إلا أن الزيارة الاشتراكية – الدرزية إلى دمشق طرحت إشكال مستقبل العلاقات اللبنانية – السورية التي قامت خلال أعوام حكم بشار الأسد على أساس الهيمنة على القرار السياسي اللبناني، واحتلال عسكري امتد من عام 1976 حتى عام 2005.
وخلال استقباله جنبلاط والوفد الدرزي أكد رئيس “هيئة تحرير الشام” أحمد الشرع أن سوريا على مسافة واحدة من الجميع وستحترم سيادة لبنان واستقراره الأمني، وتمنى أن تمحى الذاكرة السورية السابقة من أذهان اللبنانيين، فهل يكفي هذا الكلام لتأسيس علاقة ثنائية جديدة بين الدولتين؟ وكيف تنظر القوى السياسية في لبنان إلى مستقبل العلاقات الثنائية؟ وهل هي مرتبطة بصورة الحكم المستقبلي في سوريا؟
المسار طويل
قبل التبصر بمستقبل العلاقات الثنائية بين الجارين، يقرأ الباحث السياسي يوسف مرتضى مطولاً في أسباب الانهيار السريع لنظام الأسد والمرتبطة بسقوط وحدة الساحات وانهيار “محور المقاومة” وتراجع الركيزتين الداعمتين له، “حزب الله” وروسيا المنشغلة بحرب أوكرانيا والفساد الداخلي المستشري. ويرى أن المشهدية الجديدة أبطالها تركيا والولايات المتحدة الأميركية اللتان استفادتا، بحسب رأيه، من تآكل النظام وأدخلتا الجولاني بحلة جديدة ومعه نحو 15 تنظيماً لتسلم سوريا الجديدة برعاية تركية – أميركية.
يضيف مرتضى أن هناك مشروعين في سوريا، الأول تحاول إسرائيل الضغط لتحقيقه ويرتكز على التفكيك الدرزي والعلوي والكردي، ووالثاني مشروع آخر أميركي يتقاطع مع المشروع الإسرائيلي في بعض جوانبه، لكن إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب تفضل تأجيله الآن لمصلحة الاستقرار في المنطقة، لأن أولوية الرئيس الأميركي الجديد هي المشروع الاقتصادي.
ويتوقع مرتضى أن ترعى أميركا بمساعدة الشرع مشروع “التعايش بين الإسلام والديمقراطية” على غرار تجربة أردوغان في تركيا من خلال حزب “العدالة والتنمية”، ويتوقع أن تتجه سوريا إلى نظام لا مركزي، فيحصل الأكراد مثلاً على بعض الحقوق الخاصة باللغة والتعليم لكن ليس على الحكم الذاتي، مشيراً إلى أن المسار الديمقراطي في سوريا سيكون طويلاً ولن تكون المهمة سهلة، لكن التوجه العام لن يكون بتفكيك سوريا أو تقسيمها، لأنه لا مصلحة لهم في ذلك.
ويقول مرتضي إن العلاقة بين لبنان وسوريا لا يمكن إلا أن تكون متساوية، مستبعداً أي تدخل سوري في الشؤون اللبنانية في ظل وجود من يصفه بـ “جاسبر كنعان”، في إشارة إلى رئيس لجنة المراقبة الدولية الجنرال الأميركي جاسبر جيفرز، كاشفاً عن أنه بعد انتخاب رئيس الجمهورية ستبدأ الحكومتان السورية واللبنانية في الإعداد لإنهاء المعاهدات السابقة، وستبدأ تدريجياً إزالة النصب التي شيدت لحافظ الأسد وابنه بشار في لبنان.
ويعتبر مرتضى أن رسم العلاقة بين البلدين سيحتاج إلى بعض الوقت بانتظار أن تتشكل الدولة السورية وكذلك الدولة اللبنانية غير الموجودة حالياً، منوهاً بأنه “في كلام الشرع المتعلق بلبنان حتى الآن رسائل تطمينية خصوصاً لجهة تأكيده على أن سوريا لن تتدخل في شؤون لبنان”، لكن الباحث السياسي لم يستبعد أن يلجأ فلول النظام في لبنان إلى خلق أجواء مفبركة تهدد بانفلات “داعش” على الحدود مع لبنان حال تسلم القيادة الإسلامية الحكم، وهذا تهويل سيحاول المهزومون الاستفادة منه، بحسب مرتضى.
المستوى الرسمي
وخلال الأسبوع الماضي أعطى رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي توجيهاته بعد اجتماع مع وزير الخارجية عبدالله بوحبيب لإعادة فتح السفارة اللبنانية في دمشق بعد إقفال فرضته الأحداث الأخيرة في سوريا، ويوضح رئيس لجنة الشؤون الخارجية النيابية النائب فادي علامة أن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لا تزال قائمة، مثلها مثل أية علاقة مع دولة صديقة، مشدداً على أن العلاقات تتحكم بها عادة الأطر الدبلوماسية، والهدف ألا يكون هناك أي تدخل في شؤون لبنان وألا يتدخل لبنان في شؤون سوريا، أما مصير المعاهدات والاتفاقات التي وقعت بين البلدين في عهد النظام السابق فسيجري دراستها من قبل الدولتين بعد استقرار الأمور وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة، وهذا مسار سيجري العمل عليه في المستقبل، بحسب علامة، للنظر في مضمون هذه الاتفاقات ومصلحة البلد فيها.
وينفي رئيس لجنة الشؤون الخارجية أي نيات حالية لدى كتلة حركة أمل “التنمية والتحرير”، وهو عضو فيها، لزيارة دمشق قريباً، بانتظار استقرار الأمور في سوريا ليبني على الشيء مقتضاه.
بين مصلحة الدروز ومصلحة لبنان
ومع سقوط نظام الأسد اعتبر النائب السابق وليد جنبلاط أنه حقق نوعاً من الانتصار السياسي الذي طال انتظاره ليحاول استثماره في الداخل والخارج، وتحقيق ذلك يتطلب إزالة عوائق تقلقه أبرزها محاولات بعض دروز إسرائيل التأثير في دروز السويداء للالتحاق بالدولة الإسرائيلية مما قد يضعف نفوذه، والزيارة إلى دمشق هدفها قطع الطريق على مشروع كهذا، وهي بحسب النائب الاشتراكي هادي أبو الحسن ستسهم في الإبقاء على وحدة سوريا، لكن إلى جانب الشأن الدرزي حمل جنبلاط معه مشروعاً مكتوباً عن تصوره للعلاقة اللبنانية – السورية المستقبلية التي تقوم على أساس الندية بين البلدين ومراعاة مصلحتهما، من دون تدخل أي منهما في الأخرى، سواء في الأمور السياسية أو الأمنية.
وينظر أبو الحسن بعين الرضا إلى ما قامت وتقوم به حتى الآن القيادة السورية الجديدة، قائلاً لـ “اندبندنت عربية”، “نحن أمام سوريا جديدة”.
وإذ يعترف بأن الثورة كانت مسلحة فهو يرى أن النظام أجبرها على ذلك، “وهي في مرحلة تحرير بلادها من النظام البائد كانت تقوم بهذه العملية بنبل وانفتاح واستيعاب وتسامح، بدليل تشديد رئيس هيئة تحرير الشام أحمد الشرع المتكرر على الحفاظ على الأقليات ومشاركة الجميع، وبناء مستقبل لسوريا الغد بالتشارك بين الجميع ومن خلال دستور جديد”. ويضيف أبو الحسن أن “سوريا هي الدولة العربية التي تحاذي حدود لبنان، ومن الطبيعي أن نبني علاقة معها خصوصاً وأن مواقف الإدارة الجديدة متقدمة وفيها انفتاح وتبشر بشيء واعد”، معتبراً أن وليد جنبلاط يقرأ السياسة بكل وضوح وانطلاقاً من مصلحة لبنان، وهذا ما عبر عنه بالاتصال بينه وبين الشرع من أجل إقامة أفضل العلاقات بين البلدين بما يراعي سيادة البلدين.
مؤشرات إيجابية
وخلال اللقاء مع جنبلاط جزم الشرع بأن نظام الأسد قتل رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، وفي صفوف “تيار المستقبل” ارتياح لسقوطه وتطلع إلى علاقات ثنائية مستقبلية مع سوريا قائمة بحسب النائب السابق محمد الحجار على احترام سيادة كل دولة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدولة أو تلك، مع الانفتاح على حصول تعاون وتنسيق في الأمور التي فيها مصلحة للبلدين، ولا سيما على الصعيد الاقتصادي تيمناً بالسوق الأوروبية المشتركة.
ويقرأ عضو “تيار المستقبل” سابقاً مؤشرات إيجابية في القيادة الجديدة يمكن البناء عليها لتحسين العلاقة التي مرت بأسوأ أيامها زمن الأسد، مضيفاً أن “الكل يعلم الوصاية والهيمنة التي كان يفرضها النظام السابق، وتدخله بالشاردة والواردة والتي استمرت بعد انسحاب جيشه من لبنان”. ويستبعد حجار تشكيل وفد من “تيار المستقبل” للقيام بزيارة إلى سوريا خلال الوقت الحالي، لكن لا شيء يمنع ذلك في المستقبل كما يقول، بعد أن تستقر الأمور، متمنياً أن تتمكن القيادة الجديدة من تأمين الاستقرار للشعب السوري بجميع مكوناته مع وضع دستور جديد يضمن حقوق الجميع.
ويشدد الحجار على ضرورة اتباع كل الطرق لتأمين الوحدة الداخلية والتضامن الداخلي، سواء في سوريا أو لبنان أو أية دولة عربية، منعاً لفتح المجال أمام المتربصين والأعداء وفي مقدمهم إسرائيل.
تريث مسيحي
وعلى الضفة الأخرى حيث المهللون لسقوط الأسد لكنهم في الوقت نفسه متريثون تجاه القيادة الجديدة، تقف الأحزاب المسيحية التي عانت ما عانته من زمن هيمنة النظام السوري على لبنان واختلال الأسس الطبيعية التي تقوم عليها العلاقات الثنائية بين أية دولتين، فيرى عضو كتلة “الجمهورية القوية” النائب غياث يزبك في زيارة “الحزب التقدمي الاشتراكي” خطوة سريعة لمحاولة لملمة الواقع الدرزي في القنيطرة والجولان وجبل الدروز، وتأمين وسائل حمايته بعد أن بلغ واقعاً مزرياً في ظل نظام الأسد.
لكن النائب المتفهم لزيارة جنبلاط يؤكد أن حزب “القوات اللبنانية” لا يقيم في المطلق علاقات مع دول، وهو بحسب أصول الحزب ومبادئه يقيم العلاقات مع الأحزاب في الدول الأخرى، على غرار العلاقات التي تربط حزب “القوات “بالأحزاب الأوروبية.
وعن شكل العلاقة ومستقبلها بين لبنان وسوريا يرى يزبك أن مثل هذه العلاقة يجب أن تتدرج انطلاقاً من عملية الانتظام السياسي وعودة العلاقات الدبلوماسية وفتح السفارة في دمشق وتطبيع العلاقات وتثبيت الحدود وعدم تشكيل أي من البلدين خطراً على الآخر، ويتابع النائب القواتي أن “مسار سوريا يجب أن يبدأ بالانتخابات ووضع دستور جديد ومعرفة أي نظام سترسو عليه الدولة الجديدة، ومدى احترام التنوع والأقليات، وكل هذه العناوين تسبق أية علاقة بين دولة وأخرى، كما تجب إزالة كل ما في النصوص وخصوصاً في الدستور السوري مما يوحي بعدم الاعتراف بكيان لبنان المستقل، والاعتراف بحدود لبنان الدولية البرية والبحرية، وإزالة كل الالتباسات الناجمة عن عدم الترسيم بصورة رسمية، وعلى لبنان في المقابل أن يحترم الحدود الدولية وألا يكون أي لبناني مصدراً للااستقرار في سوريا كما في أية دولة أخرى، كما حصل عندما قرر ‘حزب الله’ أن يتوسع بعملياته العسكرية داخل الأراضي السورية دعماً للنظام ضد الشعب”.