صدى الارز

مشاهدة متواصلة
تقاريرنا
أرشيف الموقع
Podcast

“زنازين الموت”.. هل تنتصر العدالة لضحايا الأسد؟

أفرجت سجون الأسد عن أسرارها المرعبة، فما كان مخفياً ظهر للعلن، وما كان متوقعاً تجاوز حدود التصور. لم تكن تلك السجون مجرد معتقلات، بل مصانع للتعذيب والموت، حيث تحوّلت الأرواح إلى أرقام في سجلات موصومة بالعار.

كشف النقاب عن آلاف المعتقلين الذين أمضوا سنوات طويلة خلف القضبان، بعضهم كان في عداد المفقودين بلا أثر، فيما كانت عائلاتهم غارقة في وجع الانتظار والقلق. ورغم فتح أبواب السجون، ما زال هناك اعتقاد بوجود سجون سرية ما يبقي الأمل معلقاً في قلوب عائلات تبحث عن أحبابها المفقودين.

المعتقلون الذين خرجوا من ظلام وظلم الزنازين إلى نور الحياة والحرية، بدوا وكأنهم أشباح بشرية، أجسادهم هزيلة وعلامات التعذيب ظاهرة عليها. شهاداتهم المروّعة أفصحت عن ممارسات قمعية ممنهجة، شملت الاعتداءات الجنسية، الضرب المبرح، الصعق الكهربائي، الحرمان من الطعام، والإذلال النفسي المستمر وغيرها الكثير.

وبحسب تقارير منظمات دولية عدة، من بينها هيومن رايتس ووتش، ارتكبت حكومة بشار الأسد فظائع، وجرائم ضد الإنسانية، وانتهاكات أخرى لا حصر لها خلال رئاسته التي استمرت 24 عاماً، وتشمل الاعتقالات التعسفية الواسعة والمنهجية، والتعذيب، والإخفاء القسري، والوفيات أثناء الاحتجاز، واستخدام الأسلحة الكيميائية، واستخدام التجويع كسلاح حرب، والهجمات العشوائية والمتعمدة ضد المدنيين والأعيان المدنية.

التقارير أشارت أيضاً إلى مصير عشرات الآلاف الذين قضوا تحت وطأة التعذيب، وفي ظروف احتجاز لا إنسانية، حيث تشير إحصائيات “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” إلى أن النظام السوري السابق اعتقل أكثر من 215 ألف شخص، دون الإفصاح عن أماكن احتجازهم أو أسمائهم.

إنضموا الى قناتنا على يوتيوب

ما جرى يطرح تساؤلات حول ما إن كان سيحاسَب المسؤولون عن تلك الجرائم؟ أم أن العدالة ستؤجل وتغيّب؟

ممارسات موثقة منذ عقود

يعد التعذيب الممنهج في سجون النظام السوري واحداً من أبرز الجرائم التي وُثقت على مدار سنوات، وفي نوفمبر الماضي، قالت منظمة هيومن رايتس ووتش، إن سوريا لم تمتثل لأمر محكمة العدل الدولية الصادر قبل عام، الذي يأمرها باتخاذ جميع التدابير لمنع أعمال التعذيب الشائعة في البلاد.

وأصدرت المحكمة تدابير مؤقتة في 16 نوفمبر 2023، بشأن قضية رفعتها كل من هولندا وكندا ضد سوريا، بدعوى انتهاكها “اتفاقية مناهضة التعذيب”.

وبحسب هيومن رايتس ووتش، وصفت القضية، التي رُفعت في يونيو 2023، المعاملة غير القانونية للمحتجزين، وظروف الاحتجاز اللاإنسانية، والإخفاء القسري، والعنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي، والعنف ضد الأطفال، واستخدام الأسلحة الكيميائية، دليلاً على أن سوريا تنتهك اتفاقية مناهضة التعذيب.

أما أبرز التقارير التي نشرت عن “فظائع” النظام سوريا، فكان تسريب 50 ألف صورة من قبل مصور سابق في الجيش السوري، أُطلق عليه اسم “قيصر”. هرب هذا المصور في 2013 بعد توثيقه لحالات الموت في سجون الأسد.

بفضل هذه الصور، أُصدر قانون “قيصر” في 2019 من قبل الكونغرس الأميركي، ويتضمن شقين: إنساني لحماية المدنيين، واستراتيجي للحد من نفوذ إيران و”حزب الله”، ومعاقبة الأسد ونظامه، وضمان الحضور الأميركي المحدود في سوريا وحماية حدود إسرائيل.

وتمكنت فصائل المعارضة المسلحة من الإطاحة ببشار الأسد ونظامه في 8 ديسمبر، ما أنهى أكثر من 50 عاماً من حكم “حزب البعث” في سوريا.

مطالب بالمحاسبة

عقب انتشار الأخبار والفيديوهات المتعلقة بالمعتقلين، وصفت منظمات حقوقية وإنسانية ما حدث بأنه “جريمة ضد الإنسانية”، مشيرة إلى أن هذه الجرائم لا يمكن أن تمر دون محاسبة المسؤولين عنها.

واعتبرت منظمة “هيومن رايتس ووتش” أن المستقبل الأفضل لسوريا، يتطلب معالجة عقود من الانتهاكات التي ارتكبتها الحكومة السابقة، وغيرها من الأطراف المتحاربة خلال النزاع الذي استمر 13 عاماً، وضمان المساءلة وحماية السوريين، بغض النظر عن خلفياتهم العرقية أو الطائفية أو انتماءاتهم السياسية.

وقالت هيومن رايتس ووتش في تقرير صدر أمس الخميس، حمل عنوان “سوريا: لتركيز المرحلة الانتقالية بعد الأسد على حقوق الإنسان”، إنه “ينبغي للسلطات الجديدة أن تصادق على مجموعة من الآليات والمعاهدات الخاصة بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، لم تصادق عليها حكومة الأسد وتضعها موضع التنفيذ”.

وأوصت المنظمة الدولية، باتخاذ خطوات عاجلة لجميع السلطات التي تسيطر على مناطق في سوريا، من أجل العدالة والمساءلة عن الانتهاكات الماضية، مشيرة إلى ضرورة تأمين الأدلة على الفظائع وحفظها، قائلة “ثمة حاجة ملحة لجمع الأدلة وحمايتها، بما فيها تلك الآتية من مواقع المقابر الجماعية والسجلات والأرشيفات الحكومية، والتي يمكن أن تكون أدلة حاسمة في عمليات المساءلة المحلية والدولية المستقبلية”.

كما أوصت المنظمة الدولية، بدعوة المراقبين المستقلين فوراً إلى سوريا، والتعاون الكامل معهم وضمان وصولهم دون عوائق، بمن فيهم “الآلية الدولية المحايدة والمستقلة – سوريا” و”لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة بشأن الجمهورية العربية السورية”.

وكذلك المصادقة على “نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية”، ومنحها ولاية قضائية بأثر رجعي يعود إلى العام 2002 من خلال تقديم إعلان إلى المحكمة، والعمل على مواءمة التشريعات الوطنية السورية بشكل كامل مع نظام روما الأساسي والقانون الدولي.

من جانبها اعتبرت منظّمة العفو الدوليّة أن الخطوة الأهم بعد سقوط الأسد “هي العدالة، وليس الانتقام”، وحضّت جميع أطراف النزاع الراهن على إبداء الاحترام التام لقوانين النزاع المسلح، وهذا يشمل كما أشارت المنظمة “واجب عدم مهاجمة أي شخص يعبّر بوضوح عن نيته بالاستسلام، بما يشمل القوات الحكومية، ومعاملة أي شخص يُحتجز معاملة إنسانية”.

واعتبرت “العفو الدولية” في تقرير صدر في 8 ديسمبر، أن “أي تدابير مقترحة لتجاوز هذا الفصل المميت من تاريخ سوريا يجب أن تكون مبنية على مبادئ العدالة، والمساءلة، وعدم التكرار”، شارحة أنه “ينبغي التحقيق مع المشتبه بارتكابهم جرائم مشمولة في القانون الدولي، وغيرها من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، وإذا اقتضى الأمر، يجب مقاضاتهم على جرائمهم في محاكمات عادلة، لا تتضمّن إمكانية فرض عقوبة الإعدام”.

وحثّت المجتمع الدولي على وضع الأصوات السورية في صلب هذه المرحلة الانتقالية، داعية إياه إلى “مساندة ضحايا فظائع حكومة الأسد، لضمان العدالة والتعويضات على الجرائم المشمولة في القانون الدولي المرتكبة في سوريا. وهذا يشمل رفع دعاوى استناداً إلى الولاية القضائية العالمية ضد الجناة المشتبه بهم، ودعم الآلية الدولية الحيادية والمستقلة الخاصة بسوريا (IIIM)، علاوة على مؤسسة الأمم المتحدة المعنية بالمفقودين التي أُسست حديثاً لتوضيح مصير المختفين”.

وبالنسبة لأسر عشرات الآلاف من المختفين قسراً في سوريا، اعتبرت “العفو الدولية” أن إطلاق سراح المحتجزين من السجون العديدة في البلاد، بما فيها سجن صيدنايا العسكري، “يرفع من احتمال معرفتها أخيراً مصير أحبائها المفقودين، بعد عقود من الزمن في بعض الحالات. كما يجب بذل محاولات لجمع أدلة على أي جرائم ارتكبت، قديماً أو حديثاً، والمحافظة عليها قدر المستطاع في هذه الظروف لضمان المساءلة”.

ومن المهم للغاية وفقاً للمنظمة الدولية “الحفاظ على سجلات السجون وغيرها من الوثائق، لأن من شأن هذه المعلومات أن تشكل أدلة حاسمة على مصير المختفين، وأن تستخدم في الملاحقات القضائية، والمحاكمات المستقبلية على الجرائم المشمولة في القانون الدولي”.

الأدوات القانونية

وعن الأدوات القانونية لمحاسبة المتورطين بارتكاب الجرائم في المعتقلات السورية، تشرح الناشطة الحقوقية، المحامية ديالا شحادة، أنها “إما إن تكون عبر القضاء الدولي، أي عبر المحكمة الجنائية الدولية، وهي الهيئة الوحيدة الدائمة والشاملة، التي تختص بمحاكمة الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم تدخل ضمن إطار الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب في حالات معينة من النزاعات المسلحة”.

وتشدد شحادة في حديث لموقع “الحرة” على أنه “فيما يتعلق بالجرائم التي وقعت في سوريا، فإن منح المحكمة الجنائية الدولية الاختصاص، يتطلب الأخذ بعين الاعتبار أن اختصاصها يبدأ من 1 يوليو 2002، وبالتالي فهي لا تملك صلاحية النظر في الجرائم التي وقعت قبل هذا التاريخ. أما بالنسبة للجرائم التي حدثت بعد ذلك التاريخ، فيمكن للحكومة السورية الجديدة، أن تعلن قبولها باختصاص المحكمة. ويتم ذلك من خلال إيداع إعلان رسمي بقبول الاختصاص لدى قلم المحكمة، عبر ممثل معتمد للحكومة السورية”.

أما إذا كانت المحاسبة القضائية ستتم على المستوى الوطني، فتوضح شحادة أن ذلك قد يتم “إما عبر محاكم وطنية داخل سوريا، مع وجوب تحديث القوانين الوطنية لتضمن نصوصاً تجرّم الأنواع المختلفة من الجرائم ذات الطابع الدولي، أو عبر محاكم في دول أخرى تمتلك اختصاصاً قضائياً عالمياً. 

هذا يعني أن تلك الدول تستطيع محاكمة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة خارج أراضيها، حتى وإن لم يكن هؤلاء الأشخاص من مواطنيها، وذلك نظراً لخطورة هذه الجرائم”.

وتشير المحامية إلى أن معظم دول الاتحاد الأوروبي، وكذلك لبنان، تتمتع بهذا النوع من الاختصاص، إلا أن تطبيقه أحياناً يخضع لشروط، “على سبيل المثال، قد يشترط وجود المتهمين على أراضي الدولة التي ترغب في محاكمتهم، أو أن يكون المدّعون من مواطنيها أو مقيمين فيها”.

كما تضيف أنه “يمكن للدولة السورية المطالبة بتسليم الأشخاص المرتكبين لتلك الجرائم، الموجودين في دول أخرى إذا بدأت إجراءات قضائية ضدهم. 

ومع ذلك، فإن مسألة التسليم تعتمد إما على الإرادة السياسية للدولة التي يتواجد فيها الشخص، أو على الاتفاقيات الثنائية القضائية والأمنية. 

وتجدر الإشارة إلى أن لبنان وقّع اتفاقية قضائية ثنائية مع سوريا منذ عام 1951، تلزمه بتسليم المطلوبين طالما أن محاكمتهم ذات طابع جنائي وليس سياسي”.

هل تحقيق العدالة ممكن؟

“تحقيق العدالة الانتقالية في سوريا، صعب لكنه ممكن بشرط توفر عدة عوامل”، كما يقول رئيس مؤسسة “جوستيسيا” الحقوقية في بيروت، المحامي بول مرقص.

ويشرح مرقص، العميد في الجامعة الدولية للأعمال في ستراسبورغ، في حديث لموقع “الحرة”، أن ذلك “يتطلب أولاً صدق النوايا وتضافر الجهود الوطنية لإقامة دولة حقوق، لا دولة بوليس واستخبارات وسجون. كما يتطلب ذلك ظروفاً إقليمية ودولية مواتية لإنجاح هذا المسار”.

ويضيف في حديث لموقع “الحرة”، أنه “إذا كانت هناك مخططات كبرى سلبية لسوريا، فقد تعرقل هذا المسار الديمقراطي والحقوقي الذي نطمح إليه، خصوصاً أن الوضع الداخلي لا يزال هشاً”.

وعن رأيه في تصريح رئيس الحكومة الانتقالية السورية، محمد البشير، بشأن محاكمة مجرمي الحرب من النظام السابق وفقاً للقوانين السورية، يوضح مرقص “هذا ما يجب أن تقوم به أي دولة تسعى لاستتباب النظام والعدالة. 

لكن يبقى السؤال: إلى أي مدى يمكن الوثوق بالقضاء المحلي لدولة يعاد بناؤها؟ القضاء في حاجة إلى سنوات طويلة ليبرهن أنه عادل ولا يسعى للتشفي أو العقاب لمجرد العقاب. 

يجب أن تُرسخ مبادئ المحاكمة العادلة، وهو أمر لم يتحقق بعد. بناء المصداقية يتطلب وقتاً وجهوداً جبارة، وإلا قد يجد السوريون أنفسهم أمام نظام استبدادي مغلف بمظهر ديمقراطي”.

ويختتم مرقص بالقول “الثقة بالقضاء المحلي والمحاكمات الوطنية ليست كبيرة حتى الآن، رغم وجود قضاة سوريين مشهود لهم بالكفاءة على المستوى الفردي. لكن ذلك لا يشكل نظاماً قضائياً متكاملاً.

 بناء نظام قضائي عادل ومستقل يحتاج إلى وقت وجهود كبيرة، بينما تفتقر سوريا حالياً إلى ترف الوقت لانتظار هذه التغييرات الجوهرية”.

وحول التحديات التي تواجه محاسبة الأسد والمتورطين بجرائم ضد المعتقلين، ترى شحادة أن “هذه التحديات ذات طبيعة سياسية بالدرجة الأولى. فهي تعتمد على تعاون الدول التي فروا إليها. 

قبول هذه الدول بتسليم هؤلاء الأشخاص إلى الجهات القضائية الدولية أو الوطنية التي تحاكمهم، غالباً ما يكون مرتبطًا بإرادتها السياسية. وتجدر الإشارة إلى أن بعض هؤلاء المتورطين صدرت بحقهم مذكرات توقيف أو أحكام قضائية غيابية في دول مثل ألمانيا وفرنسا”.

وتؤكد أن على الدولة السورية الجديدة، عبر حكومتها المستقبلية، أن “تواجه هذه التحديات إما بالدبلوماسية السياسية أو من خلال الالتزام بالقوانين الدولية. وإلا فإن الإرادة السياسية للدول التي تؤوي مجرمين دوليين ستظل عقبة كبيرة تعرقل محاسبتهم ومحاكمتهم”.

تستند مسؤولية المجتمع الدولي في تحقيق العدالة كما تقول الناشطة الحقوقية، إلى “معايير حقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة، لكنها تعرقل بسبب نظام الفيتو في مجلس الأمن. ومع ذلك، يمكن للحكومات الوفاء بالتزاماتها الدولية عبر محاسبة مرتكبي الجرائم ورفض استضافة المطلوبين”.

وتشجع شحادة الحكومة السورية الجديدة على قبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، التي تلزم قراراتها 124 دولة، ما يضمن محاسبة أوسع مقارنة بالمحاكم الوطنية، كما تدعو الدول غير المنضمة للمحكمة إلى الانخراط فيها، “من أجل ضمان محاسبة المتورطين بجرائم خطيرة، أو بالحد الأدنى تقييد حركتهم أي سفرهم إلى الدول المنضمة لهذه المحكمة”.

تابعوا أخبارنا على Google-News

نلفت الى أن منصة صدى الارز لا تدعي بأي شكل من الأشكال بأنها وسيلة إعلامية تقليدية تمارس العمل الإعلامي المنهجي و العلمي بل هي منصة الكترونية ملتزمة القضية اللبنانية ( قضية الجبهة اللبنانية) هدفها الأساسي دعم قضية لبنان الحر و توثيق و أرشفة تاريخ المقاومة اللبنانية منذ نشأتها و حتى اليوم

ملاحظة : التعليقات و المقالات الواردة على موقعنا تمثل حصرا وجهة نظر أصحابها و لا تمثل آراء منصة صدى الارز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اكتشاف المزيد من صدى الارز

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading