مع تَمادي شغورِ مركز رئاسة الجمهورية، بدأ عدُّ عكسي لشغورٍ من نوع آخَر بات يرخي بظلاله على منصبيْ حاكم المصرف المركزي وقائد الجيش.
الأول تنتهي ولايته آخِر يوليو الجاري والثاني يودّع موقعه مع بداية 2024 أي بعد ستة أشهر.
ورغم أن الموقعين هما من مناصب الفئة الأولى، وعُرْفاً تابعان للمكوّن المسيحي (الموارنة تحديداً)، لكن الخلاف حولهما لا ينحصر بالطائفة المارونية، لان لكل منهما حيثية مختلفة عن الآخَر.
فسلامة لم يأتِ إلى موقعه بناء على تسمية القوى المسيحية له، إنما جاء به الرئيس الراحل رفيق الحريري عام 1993، حين كانت القيادات المارونية بعيدة عن الساحة السياسية في ظل الوجود السوري.
لكن حاكم «المركزي» عَرف بعد اغتيال الحريري، عام 2005، كيف يَستقطب القيادات السياسية مسيحيةً وإسلاميةً، في بلادٍ قائمة على التوازنات السياسية والطائفية. فصاغ علاقاتٍ جيدةً مع كل القوى التي رأت فيه مُهْنِدِساً مالياً لسياسةٍ أثبتت بعد عقود فشلها فإنهارت الليرة والنظام المصرفي وفَقَدَ اللبنانيون ودائعهم.
وحين مُدد لسلامة أربع مرات، جرى ذلك بموافقة كل القوى السياسية من دون استثناء، بما في ذلك المرة الأخيرة التي تمّت في عهد الرئيس العماد ميشال عون، الذي وافَقَ على التمديد له.
واليوم تقف هذه القوى، ما خلا «التيار الوطني الحر»، على مفترق طرق في رسْم سيناريو ما بعد نهاية يوليو.
قبل ثلاثة أسابيع من نهاية ولاية سلامة، وفي وقتٍ كانت أنظار اللبنانيين المتضرّرين من سياسته المالية وانهيار قيمة الليرة، تتطلّع إلى موعد «رحيله» وإلى التحقيقات القضائية الأوروبية حول الحاكم وشقيقه ومُساعِدته، بدأتْ التلميحات أولاً إلى احتمال بقائه مستشاراً أو حاكِم ظِلّ، وصولاً إلى احتمال التمديد له مجدداً.
كان من المفترض أن يحزم سلامة حقائبه ويترك منصبه بعدما بقي فيه لمدة ثلاثين عاماً، على أن يتولى نائبَه الأول وسيم منصوري – بحسب قانون النقد والتسليف – مهماته.
كان منصوري متهيِّباً لحلوله مكان سلامة، وتَرَدَّدَ سابقاً أن الرئيس نبيه بري و«حزب الله» لا يريدان أن يتولى هذه المَهمة، في ضوء تسلُّم الوزير المحسوب عليهما يوسف خليل وزارة المال ما يعني إلقاء التبعات عليهما في أي تدهور مالي، مع ان الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله كان قال في خطاب له ان منصوري سيحلّ محل سلامة، وان الحكومة الحالية غير قادرة على القيام بتعيينات.
وبعد زيارة منصوري الأخيرة للولايات المتحدة، ظَهَرَ كأن الأخير قَبِل المهمة، إلى أن باغتتْ الجميع قنبلةُ نواب حاكم «المركزي» الأربعة عبر بيان إنطوى في صياغته على ان القصد منه رمي كرة النار في حضن القوى السياسية الموجودة في الحكومة وخارجها.
في مرحلة الانهيار المالي كانت القوى المسيحية، وعلى رأسها البطريركية المارونية (بكركي) تدافع عن سلامة وعن سياسته المالية وترفض التعرّض له بحجة انه تَعَرُّضٌ لموقع مسيحي من الفئة الأولى. في حين ان «التيار الوطني الحر» الذي كان مؤيِّداً لسلامة إنقلبَ عليه وشنَّ حملةً شرسة ضده وفَتَحَ معركة قضائية في وجهه وتبنّى الحملة الأوروبية عليه.
وقد فَتَحَ بيان نواب الحاكم الطريقَ أمام إجتهادات التمديد مجدداً لسلامة، بحجة عدم قدرة الحكومة على التعيين، مع ان «القوات اللبنانية» سبق وغطّت هذا التعيين حصراً تحت عنوان «الضرورة القصوى» التي تفترض بالحكومة التعيين ولو كانت حكومة تصريف أعمال. علماً أن من بين
الأسماء التي كانت طُرحت لخلافة سلامة، حتى قبل انتهاء عهد عون، الوزير السابق كميل أبو سليمان الذي كانت «القوات» سمته وزيراً للعمل في حكومة سابقة، كما طُرح اسم المرشح الرئاسي الحالي جهاد أزعور الذي نأى بنفسه عن هذا المنصب، وقبْله اسم رجل الأعمال اللبناني- الفرنسي سمير عساف بتزكيةٍ فرنسية، وهو رَفَضَ المهمة.
اليوم وقبل ثلاثة أسابيع من انتهاء ولايته، يفرض سلامة نفسَه الرجل الذي لا يمكن الاستغناء عنه، وهذه المرة من باب حضانة الرئيس بري له، واستطراداً يصبح الموقع الماروني الأعلى رتبةً في المجال المالي، عرضةً للتجاذب السياسي، فلا يشكل معركةً مارونية حوله، بقدر ما يشكّل عنواناً لإستمرارية الطبقة السياسية في حمايته والإبقاء عليه، بحجة انه لا يمكن تعيين حاكم جديد وفرْضه على رئيس الجمهورية المقبل.
لكن احتمال التمديد لسلامة لن يكون خطوةً منفردة إذا حصل، إذ انه يفتح باباً لإمرار التمديد لقائد الجيش العماد جوزف عون عند انتهاء ولايته مطلع السنة الجديدة.
فقبل ستة أشهر من هذا الاستحقاق، طَرَحَ قائد الجيش على الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي ضرورةَ استكمال التعيينات في المجلس العسكري، الذي لم يَبْقَ من أعضائه سوى عضوين كاثوليكي وسني، إضافة إلى قائد الجيش، وضرورةَ تعيين رئيس للأركان وهو المنصب الذي يشغله عادة ضابط درزي. وبعد إحالة رئيس الأركان السابق اللواء أمين العرم إلى التقاعد، حُصرت المهام والقيادة العسكرية بقائد الجيش، الذي أمضى ستة أشهر حتى الآن من دون رئيس للأركان.
لكن العماد جوزف عون طَرَحَ تعيين رئيس للأركان على أمل التوافق عليه، من أجل تحريره من فرَضية البقاء في لبنان وعدم قدرته على السفر إلى الخارج لإنعدام إمكان تجيير مهامه إلى نائب له بسبب عدم وجود نص في قانون الدفاع الوطني يجيز تسليم مهامه إلى غير رئيس للأركان.
وتحتمل خطوة تعيين رئيس للأركان، وإحتمال طرْح التمديد لعون، رسالةً سياسية إلى «التيار الوطني الحر» الذي كان يراهن على ان عضو المجلس العسكري اللواء بيار صعب المحسوب عليه، يمكن أن يتولى مهام قيادة الجيش حال إحالة عون على التقاعد. لكن أي تمديدٍ لسلامة سيفتح الباب أمام إحتمال تكرار الأمر نفسه مع عون وإبقائه تالياً في السِباق الرئاسي.
والواقع أن المنصب الماروني الأعلى رتبة في القوى العسكرية، يمثل اليوم كذلك حالة سياسية لا تجتمع عليها القوى المسيحية. فعون هو أحد الأسماء المطروحة للتوافق عليها لرئاسة الجمهورية، و«القوات اللبنانية» تؤيّد التوافق عليه خلافاً لـ «التيار الوطني»، في حين ان «حزب الله» وبري اللذين يصران على التمسك بمرشحهما سليمان فرنجية، يصوغان معه علاقة جيدة. وبري أفرج أخيراً عن ترقيات ضباط دورة 1994 التي كان أوقفها خلال عهد العماد ميشال عون، لكنه قدّمها على «طَبَق من فضة»
لقائد الجيش الذي تشهد علاقته برئيس الجمهورية السابق الذي إختاره بنفسه لموقع القيادة، توتّراً وجفاء نافراً.
وفي حين تكثر الإشكالات المتعلقة بالقيادة العسكرية، كون وزير الدفاع المحسوب على «التيار الوطني الحر» مُعارِض للتعيينات العسكرية وسيعارض حتماً أي تمديد لقائد الجيش الذي إختلف مع وزيري الدفاع السابق الياس ابو صعب ومن ثم الحالي موريس سليم وكلاهما محسوب على «التيار». إلا ان الفراغ في المؤسسة العسكرية سيشكّل حافزاً للقوى السياسية لإجتراح مَخْرج للإبقاء على قائد الجيش، إذا إعتُمد الأمر نفسه مع سلامة. فما يصحّ على الأول سيصحّ على الثاني، والمفارقة أن المَخْرج للأول وللثاني لم يَعُدْ في يد القوى السياسية المسيحية، بل يتحكّم به «الثنائي الشيعي».