لن يحجب «الضجيج الجميل» من البلوك رقم 9 مع فرحة شمس اليوم ببدء عمليات التنقيب عن «الذهب الأسود» في بحر لبنان، ملفات تلهو بها بيروت كالبحث عن «الرئيس الضائع» وانتظار العصا غير السحرية للمبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان أو فك لغز حاكم البنك المركزي السابق رياض سلامة «المتواري» خلف طوفان من الإشاعات عن مكانه ومصيره وأسراره و«ضحاياه»، أو الموعد «المؤجل» لارتطام تتطاير شظاياه السباقة من كل مكان وفي كل اتجاه.
وإذا كان لبنان، «يده على قلبه» في انتظار نتائج 76 يوماً من الحفر في البلوك جنوب الجنوب لمعرفة حجم ثروته الموعودة من النفط والغاز، فإن لا حبس أنفاس في انتظار مهمة لودريان في سبتمبر وسعيه إلى دفع الأطراف اللبنانية للتوافق على رئيس ما، فالتقاطعات المحلية والإقليمية تشي بأنه من الصعب تصاعد الدخان الأبيض من المأزق الرئاسي في أمد منظور.
أما ملف رياض سلامة فسيكون يوم الثلاثاء في 29 الجاري أمام منعطف فاصل، بعدما تعدّت التباساته الموضوع القضائي البحت، وهو موعد مثوله أمام الهيئة الاتهامية في بيروت، حيث تشخص عيون الداخل والخارج على استنباط الإجابات الحاسمة عن سؤال «الجائزة الكبرى»، أين هو؟ وماذا يخطط؟ وكيف سيتصرف «المطلوب والمعاقب» محلياً وأوروبياً وأميركياً؟
ووفقاً لمصادر مواكبة ومعنية، ستظل الروايات المتعددة مشوبة بالشك مع استمرار غياب «البطل» عن مسرح الأحداث ويومياتها. بل هي تزداد غموضاً مع توالي المقاربات المتدفقة، وفي شكل استثنائي لافت، في سياق المطالعات والمعلومات، والمترافقة مع إشاعات تبدأ بتحديد أمكنة الإقامة ولا تنتهي بتجوال غير محدد لذاكرة الكترونية (فلاش ميموري) مذخرّة بوثائق وبيانات و«فضائح» تطول مسؤولين كباراً ومستفيدين من أموال عامة.
أما في التقديرات التحليلية التي لا تخلو في مجملها من علامات الصدمة، فإن مداخلات مصرفيين وقانونيين ومداولات صالوناتهم المغلقة، تجمع على ان «دوار الهوس» الرئاسي أصاب سلامة في مراحل متعددة، والأرجح انه قاده إلى ارتكابات ومخالفات برزت خصوصاً في فترات استحواذه على إدارة الجزء الوافر من المالية العامة وديونها، ولاسيما مع تكرار ظاهرة تفشي الفراغ في السلطات الدستورية.
ويروي صديق مقرّب (سابقاً) من سلامة، «لاحظت منتصف العام 2017 أعراض هذا الدوار الرئاسي، وصارحته فوراً بهواجسي. حينذاك أوكلته السلطة بتدبير السيولة المطلوبة لتغطية فوارق سلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام، ولم تأخذ مطلقاً باقتراحه تقسيط المتوجبات المالية على خمس سنوات. قلت له بالحرف، حان وقت قلب الطاولة والخروج بمسؤولية احترافية وبآمان. أترك لهم المنصب وليقرروا بأنفسهم ارتكاب هذا الانحراف المالي الخطير ويحملوا تبعاته. وما من حاجة لذكر رده المفعم بالعتب على قدر الغضب».
ويهزأ البعض من هذه المصادر من نظرية الاحتماء بـ «الفلاش ميموري». فمن الناحية التقنية البحت، لا يعوز سلامة العلم والخبرة في معرفة خبايا التوثيق الإلكتروني الآمن في فضاءات «كلاود» والمواقع والعناوين البريدية المغلقة وسواها.
وفي الرصد الميداني المتواصل من المصادر المعنية، فان المطالعة القضائية الأحدث، والصادرة عن المدعي العام التمييزي غسان عويدات، حدّدت فعلياً ثلاثة مسارات لمتابعة السير بالملف وبموجبات الاستجابة لمحتويات وخلاصات تقرير التدقيق الجنائي المنجز من شركة «الفاريز أند مارسال»، وعبر مرجعيات المدعي العام المالي، والنيابة العامة الاستئنافية، وهيئة التحقيق الخاصة.
واذ تحفل المهمات بعوائق قضائية في أساسها، وترتبط خصوصاً بشرط الموافقة المسبقة للشركة الدولية على استخدام تقريرها، فان التدقيق بذاته، وفقاً للمصادر، يطول فترة محدّدة للسنوات بين 2015 و2020، ولا يقتصر في شواهده وإشاراته على وصف مخالفات الحاكم وحده، لاسيما في الصرف المنسوب إلى قرارات السلطات السياسية وتغطية الاحتياجات المالية لمؤسسات عامة أو انسجاماً مع سياسات مالية تقضي بتحصين الاستقرار النقدي.
ووفقاً للتقديرات، فإن الاتهامات التي تواجه سلامة، والتي توثق المخالفات القانونية في إدارة المرفق (البنك المركزي) وسلطاته والاستفادة من المال العام أو استغلال النفوذ في الحد الأدنى، قد لا تحتاج إلى إثباتات من مندرجات التقرير، طالما ان صلاحيات هيئة الحاكمية الجديدة ومعها هيئة التحقيق الخاصة المنشأة في البنك المركزي، تخولها الاستحصال على كامل الوثائق ذات الصلة بالملف والمودعة في أجهزة الإدارات المعنية في المؤسسة عينها في الدرجة الأولى، وتالياً لدى المصارف المشاركة أو المشتبه بتمريرها عمليات خاصة بالحاكم السابق.
وما هو أبعد من ملف سلامة بذاته يفترض أن يصيب كيان الدولة بكامله وبمرجعيات القرار التنفيذي الآمر بالصرف والتغطيات التشريعية عبر الموازنات السنوية. وتبرز في هذا السياق «نماذج» التحويلات إلى مؤسسة الكهرباء بنحو 18 مليار دولار، والى وزارة الطاقة (الوصيّة) بنحو 6 مليارات دولار، وبالمثل للقطاع العام بنحو 8 مليارات دولار، وتمويل الدعم المقرر من السلطة التنفيذية بنحو 7 مليارات دولار.
وفي القطاع غير الحكومي، فان نموذج «العمولات»المشتبه بها التي حصلت عليها شركة«فوري»وصاحب الحق الاقتصادي«المتهم»فيها رجا سلامة (شقيق الحاكم)، ناتجة عن عمليات هندسة مالية بلغت كلفتها الإجمالية نحو 115 تريليون ليرة، وعلاوات ناهزت 30 تريليون ليرة. وقد شاركت فيها المصارف المحلية العاملة في هذه العمليات. كما ان وزارة المال فرضت ضريبة استثنائية على أرباح هذه العمليات.
مع الإشارة إلى أنه لم يكن هناك قيود على حاكم مصرف لبنان في تنفيذ هذه الهندسات، ولم تخضع إلى رقابة لاحقة ولا إلى دراسة جدوى. بذلك فهي تحفل بالشبهات أيضاً.
ووضع التقرير الموسع الذي نشرته «فاينانشال تايمز» قبل أيام، رسماً مطابقاً يلخص هذه الانحرافات المالية والنقدية المشهودة.
اذ نقلت عن مكتب المدعي العام الأميركي في المنطقة الجنوبية من نيويورك الذي فتح بدوره تحقيقاً إضافياً بملفات الحاكم السابق للمركزي، إن«صعود سلامة وسقوطه يعكسان حالة بلاده، التي عانت لعقود من الغطرسة والخداع والفساد، وهي الآن غارقة في ما وصفه البنك الدولي بأنه أحد أسوأ الكساد الاقتصادي في العالم، بتدبير من النخبة في البلاد التي إستولت على الدولة منذ فترة طويلة وعاشت على مردودها الإقتصادي».
واستطراداً، فإنه بعد عام 2019 “انهار كل شيء وكان له تأثير مدمر. بعد عقد من عدم الاستقرار الإقليمي، لم يعد هناك ما يكفي من الدولارات لإبقاء النظام قائماً».
وانخفضت الليرة إلى أدنى مستوياتها التاريخية، وفرضت البنوك إجراءات عقابية على عمليات سحب العملاء، بتشجيع من حكومة خاملة وسيئة الحظ. كما تقلّص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 40 في المئة والتضخم في الوقت الحالي يتكوّن من ثلاثة أرقام. وتركز الغضب العام على سلامة، حيث حمله العديد من اللبنانيين المسؤولية الشخصية عن القضاء على مدخراتهم والسماح للمصارف بإغلاقها.