عندما يتردد اسم إيران عسكريا في سوريا دائما ما تتجه الأنظار إلى شرقي البلاد حيث محافظة دير الزور ومدينة البوكمال الواقعة على الحدود مع العراق، ورغم أن هذه المنطقة يصفها خبراء ومراقبون باسم “عاصمة ميليشيات الحرس الثوري” لا يقتصر الانتشار فيها فحسب، بل ينسحب إلى مناطق أخرى على كامل الجغرافيا السورية.
وقالت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، يوم الجمعة، إن طائرتين مقاتلتين أميركيتين قصفتا منشآت للأسلحة والذخيرة تابعة لـ”الحرس الثوري الإيراني” في سوريا، وأوضح مسؤول دفاعي أنها تقع بالقرب من البوكمال (القريبة من الحدود العراقية).
ووفق إعلان لوزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن “كانت الهجمات دقيقة”، وجاءت “للدفاع عن النفس، وردا على سلسلة هجمات مستمرة وغير ناجحة في معظمها، ضد أفراد أميركيين في سوريا والعراق، من قبل ميليشيات مدعومة من إيران”.
ومنذ يوم السابع عشر من أكتوبر تعرضت عدة قواعد أميركية في سوريا والعراق لقصف من جانب ميليشيات تدعمها إيران، ومع أن هذه الحوادث ليست بجديدة وحصلت في أوقات متفرقة سابقا، حمل التوقيت الذي حصل فيه “طابعا خاصا”.
إذ تزامنت مع دفع الولايات المتحدة لحشود عسكرية وحاملتي طائرات إلى شرق المتوسط، من أجل دعم إسرائيل في الحرب التي تشنها على حركة “حماس” في قطاع غزة، بينما تلت سلسلة بيانات أصدرتها ميليشيات تدعمها إيران، مهددة بالرد من خلال استهداف القواعد الأميركية.
“التركيز على الشرق”
وتنتشر في سوريا، عشرات الميليشيات التابعة لإيران، حيث تسعى الأخيرة لدعم سيطرة قوات النظام برئاسة بشار الأسد، ضد القوات الموالية للمعارضة، على اختلافها.
ورغم أن هذا الدعم اتضح جليا بين عامي 2013 و2018، أخذ مسارا آخرا بعد ذلك، حسب ما تشير إليه تقارير غربية، متحدثة في وقت سابق عن تحوّل طرأ على الانتشار لصالح “التموضع” من أجل تحقيق أهداف إيرانية تتجاوز سوريا.
وكثيرا ما استهدفت إسرائيل مواقع لميليشيات تابعة لطهران -ولو أنها لم تعترف بذلك رسميا- كما تستهدف القوات الأميركية من فترة لأخرى مواقع لتنظيمات مسلحة تابعة لـ”الحرس الثوري”، إثر هجمات تتعرض لها قواتها على الأرض.
ويوضح الباحث السوري في “مركز الشرق للدراسات”، سعد الشارع أن “الحرس الثوري” الإيراني، سواء “فيلق القدس” أو المجاميع الأخرى التي تتبع له “منتشرة في معظم الجغرافيا السورية”.
ولكل تجمع للميليشيات مركز قيادة “أشبه بغرفة عمليات تدير العمليات العسكرية من جانب، والميليشيات من حيث نقاطها العسكرية، ونقاط الإمداد من جانب آخر”.
ويقول الشارع لموقع “الحرة” إن تركيز “الحرس الثوري” والميليشيات التي تتبع له “ينحصر بشكل أساسي في المنطقة الشرقية والضفة الغربية لنهر الفرات، وذلك لأهمية المنطقة”.
وتأتي أهمية المنطقة الشرقية المتمثلة بمحافظة دير الزور، من عاملين الأول أنها “نقطة الربط الجغرافي الوحيدة للميليشيات الإيرانية بين سوريا والعراق”، ولذلك في حال ضعفت أو فقد الإيرانيون هذه النقطة “سيكون من المستحيل العثور على تواصل جغرافي إلا عبر الجو”.
أما العامل الآخر فيرتبط بأن منطقة غرب الفرات أشبه بصندوق بريد أمني عسكري بين إيران وأميركا”، وفق الشارع، مشيرا إلى أنه نقاط وقواعد الميليشيات الإيرانية لا يفصلها عن القواعد الأميركية إلا نهر الفرات”.
وتتواجد في جنوب مدينة الميادين بدير الزور عدة قواعد ومواقع لمليشيات “الحرس الثوري”، وقبالتها توجد قاعدة حقل “العمر” النفطي، أهم القواعد الأميركية في شرق سوريا.
وبينما ينسحب انتشار الميليشيات إلى مناطق واسعة في البادية السورية، تتموضع قاعدة التنف الأميركية على المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، حسب ما يوضح الباحث السوري.
ولا يمكن الجزم في الوقت الحالي “بطبيعة الأهداف التي هاجمتها الولايات المتحدة في سوريا ليلة الجمعة”، لكن الباحث السوري ضياء قدور يرى “نقطة مهمة تتعلق بالبيانات الرسمية”.
ويتابع لموقع “الحرة”: “بيان البنتاغون إشارة إلى استهداف مواقع للحرس الثوري، وليس لوكلائه كما حصل في الضربات السابقة”.
وبعد أن اطمأنت إيران على الأسد في السلطة ومسار خطها الحيوي والاستراتيجي مرورا بالعراق وسوريا، تسير الآن بمرحلة انتشار و”إعادة تموضع”.
ويوضح قدور أن “محافظة دير الزور تحظى بمكانة حيوية لدى إيران، وخسارتها يمثل فشل استراتيجيتها. وتعني الخسارة أيضا قطع شريان الحرس الثوري الإيراني”.
“إيران تنظر للدير والبوكمال بمثابة مكافأة على جهودها العسكرية والسياسية والمادية التي قدمتها في سوريا، وتنظر للمنطقة على أنها ذات نفوذ حصري”، ويتابع الباحث: “هذه المنطقة تشكّل نطاقا حيويا للتحرك والنشاط الإيراني في البلاد”.
“3 مناطق انتشار”
وعند الحديث عن الانتشار الإيراني في سوريا “لا يمكن إهمال محافظة حلب، حيث يركز الحرس الثوري حضوره هناك منذ سنوات، لعدة أسباب”، وفق ما يقول الباحث سعد الشارع.
وكان “الحرس الثوري” ومليشياته قد خاضت عدة معارك في حلب قبل سنوات ضد فصائل المعارضة.
ويضيف الباحث أنه “ما زال لإيران طموح واحد للتمدد في الشمال السوري على حساب الفصائل في إدلب والأرياف المحيطة بها، والسيطرة على الأتوستراد الدولي المعروف باسم إم فور”.
من حلب شمالا إلى دمشق جنوبا يتواجد “الحرس الثوري” وميليشيات إيران في محيط العاصمة، وتحديدا في مطار دمشق والثكنات العسكرية القريبة منه هناك، وهو ما تؤكده الاستهدافات الإسرائيلية المتكررة، كما يشير الشارع.
“هذه الأماكن الثلاث في جنوب العاصمة دمشق وحلب وأيضا المنطقة الجنوبية الشرقية من دير الزور يشغلها الحرس الثوري الإيراني بشكل مكثف”.
لكن “إذا ما حاولنا المقارنة بينها يمكن القول إن المنطقة الممتدة بين الميادين والبوكمال على حدود العراق هي الأكثر إشغالا من جانب الحرس الثوري”.
وبحسب الباحث السوري: “تحاول إيران أن تصب ثقلها الأمني والعسكري وحتى الاجتماعي والديني فيها”.
“انتشار من بعيد”
وعلى مدى السنوات الماضية، شنت جماعات مسلحة تدعمها إيران في العراق وسوريا هجمات متكررة على القوات الأميركية، لكن تلك الهجمات هدأت بموجب هدنة قائمة، منذ العام الماضي، في العراق، بينما استمرت بشكل متقطع شمالي وشرقي سوريا.
وللولايات المتحدة نحو 900 جندي في سوريا و2500 جندي في العراق، في إطار جهودها لمكافحة تنظيم “داعش”، الذي كان يسيطر على مساحات كبيرة من الأراضي في البلدين، قبل أن تدحره قوات محلية مدعومة بضربات جوية نفّذها تحالف دولي قادته واشنطن.
والخميس، قال البنتاغون إن نحو 900 من القوات الأميركية الإضافية تتجه إلى الشرق الأوسط أو وصلت في الآونة الأخيرة إلى هناك، لتعزيز الدفاعات من أجل حماية الجنود الأميركيين، في ظل تصاعد الهجمات بالمنطقة من جماعات موالية لإيران.
من جانب إيران يقول الباحث في شؤونها الدكتور محمود البازي إن “قرارها بالدخول إلى سوريا تم بناء على معطيات عديدة، أهمها هو فقدان الجسر الواصل بين (فصائل المقاومة) التي دعمتها طهران في كل من لبنان وفلسطين”.
ولذلك فقد تدخلت طهران بكافة قواها للحفاظ على هذه الشبكة الواسعة الانتشار من العراق إلى سوريا إلى لبنان ثم فلسطين.
ولم تعول طهران كثيرا على قواتها الحقيقية في “الحرس الثوري” أو حتى الجيش للانتشار في سوريا، وهي أيضا لم تقوم باستقدام أعداد كبيرة من الداخل الإيراني (إيرانيين).
على العكس عولت في البداية على مجموعات “الدفاع الوطني” بوصفها قوات رديفة للجيش السوري، ثم عملت على إنشاء فصائل محلية شيعية، كـ”لواء الإمام الباقر” على سبيل المثال.
كما أنها استقدمت الفصائل العراقية ومن ثم عملت على خلق “لواء فاطميون” من الأفغان و”زينبيون” من الباكستانيين.
ويعتقد الباحث البازي في حديث لموقع “الحرة” أن “المرحلة الأخيرة لإيران كانت خلق فصائل وقوات محلية وعشائرية تابعة لها خصوصا في شرق سوريا في دير الزور”.
“إبهام استراتيجي”
وفيما يتعلق بالانتشار يوضح البازي أنه “واسع ومتغير بحسب المتغيرات الدولية، كالحرب الروسية على أوكرانيا والحرب على غزة وحتى التفاهمات مع تركيا في بعض الأحيان”.
وتعتبر مناطق شرق سوريا أهم منقطة استراتيجية لإيران في البلاد، لربطها بسوريا والعراق، وللسيطرة على آبار النفط.
كما أن المنطقة الجنوبية من سوريا مهمة لأنها “محطة لأي عمليات عسكرية قادمة تجاه إسرائيل”.
ويرى الباحث البازي أن “الهجمات على القواعد الأميركية في سوريا يأتي ضمن استراتيجية أكبر تسمى الإبهام الاستراتيجي، لطالما مارسها الإيرانيون في الجانب السياسي أو العسكري”.
وتعني هذه “الاستراتيجية” أن طهران لا تريد إظهار موقف واضح، ما “يعقد المشهد ويجعل إسرائيل والولايات المتحدة تعيد حساباتها عند أي تحرك بري ضد قطاع غزة أو حتى في محاولة فتح جبهة أخرى مع لبنان”.
ويعتبر الباحث أن “إسرائيل تحاول جاهدة أن تجر الولايات المتحدة إلى حرب ضد إيران، لأنها ترى في إيران العدو الأول والأقوى والأهم وهي غير قادرة على المواجهة منفردة”.
ويتابع أن “الرد والرد المتقابل بين الفصائل التابعة لإيران وبين الولايات المتحدة لا يعتبر استثناء إلى هذه اللحظة، وذلك لأن القواعد الأمريكية قبل عملية طوفان الأقصى تعرضت إلى أكثر من 80 هجمة منذ العام 2021”.