قبل ثلاث سنوات بدأت ميشلين العمل في المزرعة الواقعة في بلدتها برسا شمال لبنان، وذلك عن طريق الصدفة، وتشرح “يومها قصدت المكان لشراء الحليب، فأطلعني مالك المزرعة أنه يبحث عن موظف للاهتمام بالأبقار، مستفسرا فيما إن كان بإمكاني القيام بهذه المهمة.
“لم أعارض أبدا لاسيما وأنه منذ طفولتي كنت أراقب جدي أثناء عمله في ذات المهنة، وحين عدت إلى المنزل أخبرت والديّ بالعرض لألقى دعمهما اللامحدود”، تقول ميشلين.
منذ صغرها أبت ميشلين الاستسلام لصعوبات الحياة التي قست على عائلتها حارمة والدها من قدرته على العمل بعد إصابة تعرض لها أثناء حرثه لأرض زراعية.
وكونه لم يرزق بمولود ذكر يكون عكّازه لتجاوز العقبات التي يواجهها، لم تتوان عن الوقوف إلى جانبه وما زالت رغم ارتباطها بشاب اختارته شريكا لها في رحلتها على هذه الأرض.
في عمر الـ14 تعلمت صغيرة عائلتها مهنة تصفيف الشعر، وعملت خلال عطلة الصيف في صالون تزيين، ومن ثم في محطة محروقات، فقرع الطبل خلال المناسبات، إلى أن وصل قطار رحلتها خلال الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان، لمحطة جديدة لا تعلم مدة مكوثها فيها.
وسبق أن أعلنت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقرير نشرته تحت عنوان “تزايد الفقر والجوع وسط الأزمة الاقتصادية في لبنان” أن غالبية سكان لبنان عاجزون عن تأمين حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية وسط أزمة اقتصادية متفاقمة، حيث تتحمل الأسر ذات الدخل المحدود العبء الأكبر.
وحضت الحكومة اللبنانية والبنك الدولي على “اتخاذ إجراءات عاجلة للاستثمار في نظام حماية اجتماعية قائم على الحقوق ويضمن مستوى معيشيا لائقا للجميع”.
كما توصل تحليل أطلقته منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة وبرنامج الأغذية العالمي ووزارة الزراعة اللبنانية، في فبراير الماضي، إلى أن “انخفاض قيمة العملة اللبنانية وإلغاء الدعم وارتفاع تكاليف المعيشة يمنع الأسر من الحصول على ما يكفي من الطعام والاحتياجات الأساسية اليومية”.
“مناقضة” المجتمع
يوميا تقصد ابنة الـ 21 عاما المزرعة للعناية بالأبقار، تضع لها العلف، تراقب صحتها وتحلبها، بل كما تقول لموقع “الحرة”، “سبق أن ساعدت إحداها في وضع مولودها، كانت لحظات رائعة إذ شعرت حينها بمساهمتي في إبصار روح جديدة النور، وها أنا أهتم بها وأرعاها”.
لم تكن الأمور سهلة خلال الأيام الأولى لخوض ميشلين غمار تجربة رعي الأبقار، فقد واجهت بعض الصعوبات، منها الاستيقاظ باكرا لكي تتمكن من الوصول عند السادسة صباحا إلى المزرعة، إضافة إلى عجزها عن حمل أكياس العلف التي يبلغ وزنها نحو 40 كلغ، ما اضطرها إلى تقسيمها، وعدا ذلك “كنت أطبق إرشادات رب العمل الذي علّمني الكثير في هذا المجال”.
قد يتساءل البعض ما الذي يجبر شابة تتابع دراستها الجامعية على رعي الأبقار والاستمرار بذلك رغم زواجها، وعن ذلك تجيب “ليست المرة الأولى التي أعمل فيها في مهنة تثير علامات استفهام، ربما لأن الأعمال التي يستغربها مجتمعنا تستهويني، مع العلم أن تحمّل إناث مسؤولية مزارع تضم عددا كبيرا من الأبقار أمرا طبيعيا في الدول الأوروبية، أما المزرعة التي أعمل فيها فلا تتجاوز عدد بقراتها أصابع اليد الواحدة “.
ورغم أنها تعشق تصفيف الشعر، فإن ضغط العمل في صالون التزيين والوقت الطويل الذي يستغرقه، كانا السبب في توقف ابنة شمال لبنان عن ممارسة هذه المهنة، لاسيما بحسب ما تشدد “لا يمكنني اختلاس ولو ساعة واحدة للمذاكرة، أما في مهنتي الحالية لدي متسعا من الوقت، فبعد أن أنتهي من علف الأبقار وحلبها وتقديم ما تحتاج له، اركّز في مستقبلي، أدرس قدر المستطاع وكلي أمل أن يأتي اليوم الذي أحمل فيه شهادة الجامعة”.
شهرة.. لم تكن مستهدفة
واجهت الشابة العشرينية تنمر عدد لا يستهان به من أفراد محيطها، من دون أن تسمح لهم بأن يؤثروا في نفسيتها، فهي تعرف كما تقول ما تصبو إليه، وهدفها الأساسي في هذه المرحلة تأمين ما يحتاجه والداها، لاسيما وأن شقيقتيها اللتين تكبرانها متزوجتان ولا يمكنهما ذلك.
وتشدد أن “الجميع يعلم ما آلت اليه الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يمر بها لبنان واللبنانيون، فكل شيء بات باهظ الثمن، وبالكاد يمكن أن تكفي كل عائلة نفسها.. من هنا عاهدت نفسي أن أبقى سند والديّ ما دامت الروح في جسدي”.
أسئلة عدة تُطرح على ميشلين من قبل “المتنمرين”، منها كيف يمكنها تقبّل الرائحة الكريهة التي تفوح من الأبقار، التي يصعب التخلص منها كونها تلتصق بالملابس والشعر والجلد، عن ذلك تجيبهم “لا شيء يستعصي على أدوات التنظيف، ما يهمني أني أحصل على المال بتعبي ولا أمد يدي للغير”.
وتضيف “أنا كأي فتاة تهتم بمظهرها، فخارج العمل أصفف شعري وأتزيّن وأرتدي الملابس الجميلة، وإن كنت لا أستطيع الخروج كثيرا كون عطلتي تقتصر على يوم واحد في الأسبوع”.
تمكنت معيلة والديها، كما تصف نفسها، من حصد آلاف المتابعين على موقع التواصل الاجتماعي “تيك توك” بعد نشرها مقاطع مصورة عن عملها اليومي في المزرعة، وفيما إن كان حب الشهرة والرغبة بالاستفادة المادية من هذا التطبيق يقفان خلف قبولها هذا العمل أجابت “بالتأكيد كلا، فهذه السنة الثالثة لي في رعي الأبقار أي قبل أن يتم انشاء الموقع، وأول صورة نشرتها من مكان عملي هذا كانت على إنستغرام، من دون أن أقصد جلب انتباه أحد، لا بل كانت صفحتي حينها مخصصة للأصدقاء وليس للعامة”.
وتشدد “رغم المشاهدات المرتفعة التي أحصدها على تيك توك، إلا أنه في لبنان لا نستفيد ماديا من التطبيق سوى من خلال البث المباشر، وفوق هذا أحارب بتبليغات البعض على صفحتي بدافع إغلاقها، لذلك أسعى إلى توثيقها”.
أحلام الفتاة العشرينية كثيرة، على رأسها رؤية والديها سعيدين لا يحتاجان شيئا، وهي تفتخر بنفسها كون ما تقوم به تعجز عنه بنات جيلها.