خلال ثمانية عقود من الزمن تراجعت مكانة لبنان على الصعيد السياسي الدولي وفي مجال حقوق الإنسان. فالدولة التي قدمت إسهامات مهمة فلسفياً وقانونياً على مستوى صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948 يكابد مواطنوها اليوم العناء لتحصيل وتحصين حقوقهم الأساسية التي تساعدهم في الاستمرار على قيد الحياة.
فهذه الدولة تعيش في ظل واحدة من أسوأ الأزمات العالمية خلال القرنين الماضيين أو أقله، هذا ما أشار إليه البنك الدولي، عندما صنف ما يعيشه لبنان من كساد اقتصادي حاد ومزمن، إحدى أشد ثلاث أزمات، على مستوى العالم منذ منتصف القرن الـ19.
كما أنه يعيش في شغور رئاسي منذ ثلاثة أعوام، ويعاني تحللا في مؤسسات الدولة والإدارة العامة، وارتفاع نسبة الجرائم مع مستويات قياسية من الفقر المدقع وزيادة معدلات البطالة وازدهار العمالة غير النظامية وتراجعاً في جودة التعليم.
لبنان بين زمنين
في عام 1948 شارك المفكر اللبناني شارل مالك في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حينها قدمت البلاد مظهراً من مظاهر الحضارة العربية الداعية لتطبيق مبادئ العدالة والإنصاف واحترام الحق الإنساني وكونيته بوصفه لصيقاً بوجود الفرد وليس منحة من حاكم أو نظام.
وقد كتب مالك عام 1986 قبل وفاته “تقول ديباجة الإعلان إنه مثال للتحقيق… لكل الشعوب ولكل الأمم… بصفته هذه هو أيضاً مثال للقياس. إنه يقيس مكانة الإنسان ودرجة الحرية التي أنجزها شعب ما أو أمة ما”.
وشكل لبنان في خلال العهود الأولى من الاستقلال مساحة لممارسة الحرية الاقتصادية والتعايش المتعدد إلى أن جاءت الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) ومست أبشع المساس بحق الإنسان بالحياة عبر القتل والتعذيب والإخفاء القسري وغياب العيش بأمن وأمان وحرية تعبير وعدم حفظ الكرامة الإنسانية.
ثم شكل اتفاق الطائف في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1989 محطة في عودة الأمن إلى لبنان، وكتم أصوات المدافع، وكرس أيضاً إيمان لبنان بحقوق الإنسان في التعديلات الدستورية. إذ أوردت مقدمة الدستور بعد تعديله بالقانون الدستوري رقم 18 في الـ21 من سبتمبر (أيلول) 1990، إنفاذاً لوثيقة الوفاق الوطني في الفقرة باء “لبنان عربي الهوية والانتماء، وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم مواثيقها، كما هو عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وتجسد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقوق والمجالات من دون استثناء”.
كما فصلت الفقرات جيم ودال وواو جوهر النظام السياسي القائم على الاعتراف بالحقوق الأساسية للفرد المواطن، فلبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والاعتقاد وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة وتكريس الشعب بوصفه مصدراً للسلطات.
هذه المقدمة التي تشكل الإطار الفلسفي للدولة في لبنان تعاني صعوبات جمة في المسار التنفيذي بفعل طبيعة النظام القائم على الطائفية السياسية والعائلية القبلية والمناطقية. ناهيك بضعف النقابات العمالية والقوى الاجتماعية وشخصنة الأحزاب والتهميش الذي تعانيه شرائح واسعة من المجتمع.
الحقوق تتهاوى
يؤكد الحقوقيون والمجتمع المدني في لبنان سوداوية النظرة لحقوق الإنسان، ويتوقفون عند تأثره سلباً إلى حد كبير بجملة عوامل.
ففي الفترة السابقة لعبت الاعتبارات السياسية والاجتماعية والثقافية الدور الأكبر في المساس بحقوق فئات كالأطفال والنساء والأقليات والأشخاص ذوي الإعاقة والأجانب، ولكن بعد عام 2019 مارست الأزمة الاقتصادية والانهيار المالي ضغطاً شديداً.
وأدى “غياب الدولة وتفكك مؤسساتها” عن المشهد العام إلى تحلل منظومة حقوق الإنسانية وحرمان الأفراد من حقوقهم الأساسية في موازاة انتعاش الزبائنية السياسية والرشوة والفساد.
كذلك مست الأزمة بصورة مباشرة الحقوق اللصيقة والمتصلة باستمرار الفرد على قيد الحياة، إذ هددت رغيف الخبز والقدرة على تحمل كلف الطبابة وانهيار المؤسسات الضامنة وعدم القدرة على تأمين الملبس والمسكن أو تأسيس أسرة وحرمانه من التربية والتعليم ومستويات عالية من العنف ضد المرأة واضطرار الأطفال للقيام بالأعمال الشاقة وغيره.
يعتبر الباحث زياد عبدالصمد أن “لبنان يتجه نحو مرحلة ما قبل الدولة، في ظل عدم تكبد السلطة عناء المحاولة لتحسين حقوق الإنسان. حيث يصدق تعبير البنك الدولي بأن لبنان يعيش في ظل أزمة متعمدة لأنه كان بإمكان الدولة تدارك الانهيار، لكنها لم تقم بأي تدبير لمنعه، وعند وقوعه لم تتخذ أي إجراء للتعاطي معه”.
ويتهم المدير التنفيذي لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية عبدالصمد السلطة بالمراهنة على الزمن والوقت لمراقبة كيف يمكن أن تتطور الأزمة الراهنة وكيفية الخروج منها تدريجاً، مشيراً في المقابل إلى استثمار معاناة شريحة واسعة من الناس في مقابل مراكمة شريحة أخرى الثروات في وقت يزداد الفقراء فقراً، وهي شريحة استفادت من الفساد وتهريب الأموال للنافذين وتبييض الأموال.
ويشدد عبر “اندبندنت عربية” على أهمية تقرير ائتلاف منظمات المجتمع المدني الذي سلط الضوء على الانتهاكات التي تطاول كل ميادين حقوق الإنسان، وانتهاك الحق في التعبير والتجمع والتنظيم النقابي والمساس بحق الانتخاب وحرمان المرأة من حقها بمنح الجنسية لأبنائها من أب أجنبي والانتهاكات التي تطاول الصحة والتعليم والعمل إذ يشكل قطاع العمل غير المنظم، الذي لا يتمتع بالحماية قرابة 57 في المئة من سوق العمل. ناهيك بانهيار الإدارة العامة ومؤسسات الدولة الدستورية وخسارة المواطن كل الخدمات.
ثروة 1 في المئة من الشعب اللبناني
وخلال ندوة على هامش الاستعراض الدوري الشامل في معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي، كشف الباحث في الاقتصاد السياسي حسن شري عن حالة اللامساواة التي يعيشها لبنان إذ يمتلك واحداً في المئة من الأفراد ما يوازي 49 في المئة من الثروة في لبنان، ومنتقداً السياسة الضريبية للحكومات التي من خلالها نشهد إعفاء الأملاك البحرية من الضريبة، في مقابل تضخمها على الرواتب التي لا تتعدى في الحد الأدنى الـ100 دولار أميركي.
حرية التعبير
إلى جانب تهاوي منظومة الحقوق والحريات الاجتماعية والاقتصادية يجد اللبناني نفسه مهدداً في وجوده بوصفه كائناً عاقلاً ومفكراً وصاحب رأي وموقف مستقل عن الجماعة الطائفية والسياسية.
ويؤكد جاد شحرور من مؤسسة سمير قصير أن من أسباب تراجع الحريات الجانب المتعلق بملكية وسائل الإعلام اللبنانية، كاشفاً لـ”اندبندنت عربية” عن إطلاق مؤسسة سمير قصير مرصداً بنسختين، الأولى كانت في 2018، إذ تعاملت مع الإعلام الكلاسيكي أي التلفزيون والإذاعة والصحف، أما في 2024 فقد شمل المواقع الإلكترونية التي انطلقت بوصفها مبادرات مستقلة خارج التمويل السياسي.
ويوضح شحرور توصلت الدراسة إلى وجود شبكة مصالح إذ ترتبط ملكية وسائل الإعلام بـ12 عائلة سياسية لبنانية، وهم ممن شاركوا في الحكم خلال العقود الثلاث الماضية، مشدداً على أن “تلك الوسائل تقدم محتوى مؤدلجاً سياسياً، وهو محتوى غير حقيقي ولا ينقل الواقع، وإنما يقدم رسالة طائفية أو سياسية ضد الخصم”.
يضيف شحرور “لاحقاً ظهرت مبادرات رقمية ركزت على طرح نموذج اقتصادي جديد للإعلام، لا يعتمد على التمويل السياسي، واستخدام التكنولوجيا لتبسيط المحتوى، ونشره بسرعة لجمهورها”، وينبه أيضاً إلى “محاولة بعض المؤسسات لإقامة نموذج اقتصادي متوازن مالياً إذ تعتمد على بيع منتجها والإعلانات. ولكن هذا النموذج الاقتصادي لم ينضح بعد، لأن على المؤسسات الإعلامية أن تعمل من أجل تأمين استمراريتها، بعيداً من التمويل الخارجي، من خلال استخدام التكنولوجيا وتطوير منتجها الإعلامي”.
القضاء الغائب
لا تقف المعاناة من انهيار الدولة عند مستوى المواطن العادي وإنما دخلت إلى القضاء إذ أصبحت المحاكم تفتقر إلى الحد الأدنى من الأدوات لممارسة عملها، وهذا ينعكس على حق المواطن في التقاضي وحماية نفسه من الانتهاكات المختلفة ويفتح الباب واسعاً أمام الحلول “العرفية” خارج إطار المحاكم.
وبحسب رئيسة قسم التقاضي في المفكرة القانونية المحامية غيدا فرنجية، بات البعض يلجأ إلى وسائل بديلة لضمان حقوقه كالزعماء و”قبضايات الحي” في لبنان، في المقابل فإن المحاكم تعاني الفراغ بسبب عدم تعيين قضاة جدد، وإضراب المساعدين القضائيين.
ولفتت خلال الندوة إلى أن محاكم العمل معطلة بسبب توقف مفوضي الحكومة عن العمل، بالتالي لا جلسات وفي حال انعقدت لا أحكام، بالتالي لم تعد المحاكم تشكل تهديداً لمنتهكي حقوق العمال.
من جهة أخرى، تنبه فرنجية من تلاقي المصالح إذ يضطر القضاة والمحاكم لتأمين الكهرباء لتلافي العتمة في قصور العدل من خلال التواصل مع أصحاب المولدات أو الأعيان في المناطق التي يعملون فيها من أجل تسيير المرفق العام.
من جهته أثار الباحث في المركز اللبناني لحقوق الإنسان فضل فقيه جملة قضايا تتصل بحق الإنسان بالحياة والوجود، كالإعدام الذي يخالف العهد الدولي الخاص رغم أنه موقوف واقعياً في لبنان منذ 2004. وتطرق أيضاً إلى الحق بالهوية، لأنه “من غير المقبول وجود أشخاص غير معترف بهم”، ناهيك بتصعيب معاملات السوريين وهو أمر يعوق عمليات التسجيل الضرورية.
ولاحظ أيضاً وجود محاولات لتقويض التجمع السلمي في لبنان، واستخدام العنف المفرط ضد المحتجين خلال الفترة الماضية واستمرار الاختفاء القسري وسياسات إلهاء المواطنين بالقضايا السجالية لعدم المطالبة بالإصلاح.
الأشخاص ذوو الإعاقة
تأخذ الانتهاكات الحقوقية أشكالاً متمادية في ما يتعلق ببعض الفئات، وتحديداً الأشخاص ذوي الإعاقة أو حتى المرأة. فعلى رغم مصادقة لبنان على الاتفاق الدولي لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في فبراير (شباط) 2023، ينتظر المجتمع الحقوقي انتقالها إلى حيز التنفيذ وإدخالها في التشريعات الواجبة، وسط مخاوف من تكرار تجربة القانون 220/2000. وترحب الناشطة سيلفانا لقيس من الاتحاد اللبناني للأشخاص المعوقين حركياً عبر “اندبندنت عربية” بمصادقة لبنان على الاتفاقية الدولية، مؤكدة أن المهمة الحالية هي بدفع المسؤولين إلى تطبيق مندرجاتها، وهذا يشكل تحدياً حقيقياً، قائلة “أصبح من واجب لبنان احترام تعهداته، وصيانة القوانين. وتدعو لقيس إلى إقرار قوانين جديدة تتوافق مع الاتفاق والبروتوكول الخاص، متحدثة عن نضال مستمر لإنصاف الأشخاص ذوي الإعاقة.
المرأة والعنف
شهدت الأعوام الأخيرة تزايد الانتهاكات ومستويات العنف ضد المرأة في ظل الأزمة الحالية. وتنوه مديرة منظمة أبعاد الناشطة غيدا عناني بالتطور الذي شهدته الحركة النسائية، ودور المرأة في تحصين حقوقها والحفاظ على كرامة الأسر، ولكن في المقابل تنبه إلى تراجع في بيئة العمل وعودة الدور الرعائي بصورة قسرية. أما على مستوى إشكالية العنف تكشف عناني عن تحد كبير يتمثل في ارتفاع نسبة العنف وفي حدته وظهور أشكال عنف لم تكن موجودة في مجتمعنا، إذ تأتي السيدات إلى مراكز الاستماع وهي تعاني حروقاً واستخدام الأسيد والسلاح والتقطيع ومحاولات دفن وعمليات تنكيل وتعذيب.
إلى ذلك، تكشف عناني مؤشراً مهماً إذ إن “96 في المئة من النساء اللاتي تعرضن للعنف لم يقمن بالتبليغ وطلب الدعم. ويعود ذلك إلى انهيار نظم المساءلة وعدم الثقة بالقدرة على تحصيل الحق لعدم جدوى المسار القضائي والقانوني تحت تأثير انهيار المؤسسات”.