في السعودية، يتنقّل الصحافي اللبناني فراس حليمة في كواليس حفلات الفنانين، ويُعدّ برامج تشاء مَنْح الناس ساعة تسلية. يُخبر «الشرق الأوسط» بأنّ حياة الفنانين ليست وردية وفق منتقديهم، فهم موجوعون بصور أطفال غزة وقسوة النار على أبريائها. رافق صابر الرباعي وأصالة ضمن حفلات المملكة، وينقل عنهما إحساسهما بالألم الكبير: «الجميع حزين، ولا مفرّ من التضامن الإنساني. الفنانون أكثر قلقاً لخوضهم صراع الاستمرار من دون ملامة».
يكشف تبرُّع أصالة والرباعي بجزء من عائدات الحفل المقام في المملكة للهلال الأحمر، ويؤكد أنّ المنطلق إنساني، لا لإحساس بحاجة إلى الشرح أو إسكات الذنب. من متابعته فنانين عن قرب، يقول: «إلغاء الحفلات ليس بسهولةٍ يتحدّث عنها البعض. ثمة قطاع كامل يتأثّر. الحفلات الملغاة تأتي بقرار من منظّميها، لا الفنان نفسه. لا أدري إن كان ثمة استثناء بفنان واحد. الفنانون ألغوا لأنّ المنظّمين ارتأوا ذلك. بعضٌ يفضّل، في أعماقه، لو أنّ الحفل لا يُقام».
أصوات في مواقع التواصل تُخالف حليمة رأيه، منها حساب «هوت نيوز» المعروف بنقده الفني. يقرّب الأخير الصورة: لو حلَّ موت فردي لنغَّص الرغبة في الفرح، فكيف بموت جماعي؟ يرى أنّ الحياة ستستمر إن فقد المرء عزيزاً، لكن المزاج لن يهلّل للهيصة. لا يُبرَّر للفنان عدم إلغائه الحفل، فذلك لن يتسبّب بالجوع القاضي، رافضاً الانفصال بهذا الشكل عن الواقع.
للصحافي الفني ربيع فران رأي مشابه. يذكّر بإرغام «كوفيد» فنانين على إلغاء حفلاتهم والمكوث في المنازل. ينطلق تصوّره من إمكان استدعاء سمكريّ لإصلاح عطل في قسطل ماء، وإن كان المنزل المتضرّر يقيم عزاء على خسارة راحل؛ إنما من غير المنطقي، برأيه، الاحتفال بعيد ميلاد فرد من أفراده في يوم واحد. دعوته لإرجاء الحفلات مردُّها أنّ نهر الدم جارف، ومن الخطأ الزعم بتشابُه المهن؛ فوظائف النجار والفلاح والممرض والمصرفي لا تنمّ عن احتفالية ولا تتطلّب هدوء البال، كما يقتضي الفن وحفلاته. فراس حليمة يعارض الرأيَيْن.
قد تخطر لوائل كفوري رغبة بإرجاء حفله المقرّر في 27 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي في باريس. ولوهلة، يشاء عدم الغناء في ظرف مشتعل. ينقل حليمة تخبّط الفنانين بين الالتزام وروائح الموت، «لكنّ الإلغاء متعذّر، ليس بسبب البند الجزائي فحسب، بل لما تقتضيه الاستمرارية والعلاقة الطيبة بالشركات المنظّمة. يكلّف الحفل مبالغ، ويشترط في حال إلغائه ردّ أثمان البطاقات لمشتريها، وقطع أرزاق عشرات العاملين في الصوت والإضاءة وإدارة المسرح والتنظيم وخدمات الطعام و(الفاليه باركينغ)…».
يدعو إلى التمييز بين لهو يُقام في أسفل أدراج المباني بقيادة عازف طبلة لتمضية الوقت، وحفل ينعش قطاعاً بأسره. يقول: «الخسارة المالية لا تقع على الفنان وحده، بلا على فرقته وعشرات العائلات. الفنان ليس مكسر عصا فيُنتَقد إن تابَعَ عمله. فليحاسِبوا مَن سرقونا وأمعنوا في النهب».
يعود إلى بدايات تخلّص العالم من «كوفيد»، حين اضطر فنانون إلى الغناء بربع أجورهم تجنّباً لقطع أرزاق موسيقيين وعاملين في الحفلات، وفق قوله. يتساءل: «هل ينتظر الفنانون أياماً تشرق فيها الشمس وتزقزق العصافير ليعملوا، ويسلّمون أيامهم الأخرى للنواح والأحزان؟». أخبرته أصالة بأنّ الغناء في الحفلات لا يعني انتماء الفنان إلى «لالا لاند». إنه التزام. وعلى طريقة إليسا، ذكَّر بغناء صباح على أهم مسارح باريس في الحرب الأهلية، كما غنّت أم كلثوم وعبد الحليم حافظ في ذروة منعطفات مصر.
انتُقدت إليسا لافتتاح حفلها في ألمانيا بالوقوف دقيقة صمتاً على الأرواح الفلسطينية المُغادرة إلى عالم أفضل، ثم همَّت بالغناء والرقص. يردّ حليمة: «هي أول مَن كرَّست صفحاتها للتضامن، وأول مَن ساند أهل غزة. لم تسكت ولم تعلن الحياد. تأثيرها حاضر منذ اللحظة الأولى. إلغاء حفلها يكلّف خسائر باهظة، فهل تُقدِم لإرضاء المنتقدين؟ ليتهم، عوض إدانة الفنان، يسدّدون أجور الموسيقيين والمنظّمين، ويضمنون أرزاقهم، قبل المطالبة بإلغاء أي حفل».
تحلّ نوال الزغبي ضيفة برنامج ترفيهي يتولاه حليمة في المملكة. إلغاؤه يعرقل مسار عمل طويل، استعدّ له والفريق قبل الحرب. يُخبر: «طوال الوقت من المطار إلى الاستوديو، وهي تأمل المحافظة على الإيجابية والطرافة. قالت إنّ فيديوهات الأطفال تُرهقها وتُسوِّد مزاجها، فكيف تحاول أن تكون نوال التي ينتظرها ناسها؟ وأصالة شغلتها المجازر وآلام الفلسطينيين. تبرّعت ببعض الأجر ولم تعلن، رفضاً لتبرير النفس. فعلت ما يمليه ضميرها».