ويتجلى هذا الإصرار في دعوته الأخيرة لأهالي الجنوب للعودة إلى قراهم، ساعياً من خلال ذلك إلى ترسيخ هذه المعادلة كجزء أساسي من استراتيجيته السياسية والعسكرية.
وفي بيان أصدره مساء الأحد، شدد حزب الله، المصنف جماعة إرهابية، على أن “معادلة الجيش والشعب والمقاومة ليست حبراً على ورق، بل واقع يعيشه اللبنانيون يومياً، ويجسدونه بصمودهم وتضحياتهم”.
وقال أمين عام الحزب، نعيم قاسم، في كلمة الاثنين، إن “الثلاثية هي التي وضعت حداً لإسرائيل من أن تصل إلى بيروت أو أن تصل إلى جنوب نهر الليطاني”.
وكان عضو كتلة “الوفاء للمقاومة”، النائب إبراهيم الموسوي، قد قال يوم الاثنين، إن شعب الجنوب “يفرض معادلة الجيش والشعب والمقاومة، سواء رضي من رضي أو أبى من أبى. وإن لم تذكر في البيان الوزاري، فقد سُطرت من خلال الزحف الشعبي”.
يأتي إصرار حزب الله على التمسك بمعادلته الثلاثية، التي بدأ بفرضها في البيانات الوزارية بعد حرب يوليو 2006، نتيجة مخاوفه من احتمال استبعادها من البيان الوزاري للحكومة المقبلة التي يسعى القاضي نواف إلى تشكيلها.
هذا التخوف يثير تساؤلات عن إمكانية لجوء الحزب إلى استخدام هذه المعادلة كورقة ضغط لفرض شروطه في عملية تشكيل الحكومة.
في المقابل، يرى معارضو هذه المعادلة أنها تهدد سيادة الدولة، كونها تمنح شرعية لسلاح حزب الله، ويصفون الجمع بينها وبين القرار 1701 بأنه شكل من أشكال الخداع السياسي.
وفي خضم هذا التجاذب السياسي، يطرح السؤال: هل سينجح حزب الله في فرض معادلته مجدداً في البيان الوزاري، رغم الضغوط الداخلية والخارجية؟ أم أن هذه الضغوط ستجبره على إعادة النظر في خياراته السياسية بما يتماشى مع المتغيرات الإقليمية والمحلية؟
استثمار “دموي”؟
“لا شك في أن حزب الله أو الثنائي الشيعي”، سعى كما يقول المحلل السياسي إلياس الزغبي، “إلى الاستثمار في دماء الجنوبيين وفي حركته الدعائية لعودة الأهالي إلى قرى جنوبية حدودية، كي يعيد تمرير ثلاثيته الصدئة إلى الواجهة السياسية وفرضها على تشكيل الحكومة الجديدة، إضافة إلى تثبيت وزارة المال لشريكه رئيس مجلس النواب نبيه بري”.
ولم يتأخر كثيراً حزب الله، وفق ما يقوله الزغبي لموقع “الحرة”، “في توظيف ضحايا الجنوب والضجيج الدعائي حول العودة، فسارع بعد بضع ساعات فقط إلى تحريك مسيرات دراجات نارية نحو مناطق مسيحية مع هتافات مذهبية وأسلحة استفزازية، في خطة لترهيب هذه المناطق لعل قواها السياسية ترضخ لمنطق هيمنته السابقة وتقبل بشروطه في الحكومة الجديدة”.
ولكن رسالته الاستفزازية للحكم الجديد وهذه المناطق لم تحقق غايتها، كما يقول الزغبي، “وحسابات حقل الثنائي لم تتطابق مع حسابات البيدر اللبناني، لا لجهة تنفيذ مندرجات اتفاق وقف إطلاق النار، خصوصاً نزع سلاحه، ولا لجهة فرض إرادته على العهد الجديد برمزيه الرئيس جوزاف عون والرئيس نواف سلام”.
واللافت، كما يقول، “هو إقدام قيادة الجيش بلا تردد على التحذير من هذه الاستفزازات التي قام بها الثنائي والتنبيه إلى ضرورة كبح مخططات الفتنة”.
وشهد يوم الأحد مقتل 24 شخصاً وإصابة 134 آخرين خلال محاولات أهالي الجنوب العودة إلى بلداتهم الحدودية، وفي اليوم التالي، لقي شخصان مصرعهما وأُصيب 26 آخرون بجروح.
ويرى المحلل السياسي، وجدي العريضي، أن التحرك الذي نظمه حزب الله في الجنوب اللبناني يحمل “رسائل تجييشية تهدف إلى إعادة ترسيخ المعادلة الثلاثية، التي يصفها البعض بالخشبية وآخرون بالذهبية، وذلك على وقع الحديث عن استبعاد هذه المعادلة من البيان الوزاري للحكومة المرتقبة، في تطور يختلف عن النهج السابق”.
ويشرح العريضي، في حديث لموقع “الحرة”، أن “حزب الله يعاني من خلل كبير في بنيته السياسية والعسكرية، لا سيما بعد الحرب الأخيرة، التي شهدت اغتيال أمينه العام السابق حسن نصر الله وقيادات الصف الأول، إلى جانب سقوط نظام بشار الأسد”.
“هذا الواقع، دفع الحزب إلى إعادة تقييم استراتيجيته، بما في ذلك حشد بيئته للقيام بتحركات ميدانية والدخول إلى القرى الحدودية التي ما زال الجيش الإسرائيلي يتواجد فيها، رغم المخاطر الكبيرة”، وفق العريضي.
كما يربط العريضي هذه التحركات بمحاولة الحزب “مواجهة ما يعتبره انقلاباً سياسياً تمثل في تكليف القاضي نواف سلام بتشكيل الحكومة، بعد توقعاته بإعادة تكليف نجيب ميقاتي. هذا التطور أثار استياءه، خاصة بعد استيعابه لفكرة وصول قائد الجيش العماد جوزاف عون إلى رئاسة الجمهورية”.
وفي السياق، أكد رئيس حزب الكتائب، النائب سامي الجميّل، على ضرورة عدم استغلال المشهد في الجنوب لتحقيق مكاسب سياسية، مشدداً على أهمية أن يكون الانتصار للدولة ومنطق الدولة والجيش.
وقال الجميّل، خلال مقابلة مع تلفزيون الجديد أمس الاثنين، إن “التضامن يتجلّى بالدولة، وشعار الجيش والشعب والمقاومة لم أفهمه يوماً، لأنه ليس منطقياً”.
وأضاف: “المطلوب هو أحادية الدولة، وليس ثلاثيات. نحن نطالب بالشراكة بين اللبنانيين تحت سقف الدولة وبإطارها، حيث يكون الدفاع بيد الجيش وحده، وتتخذ قرارات الدولة من قبل رئيس الجمهورية والحكومة”.
استعراض دعائي؟
واستطاع حزب الله، من خلال مشهد عودة الأهالي إلى بعض القرى في جنوب لبنان، “تسجيل خروقات وخلق حالة من الإرباك السياسي”، كما يرى العريضي.
ومع ذلك، يؤكد العريضي أن “الحزب لن يتمكن من فرض شروطه بالكامل، في ظل وجود معادلة دولية-إقليمية-عربية تقودها الولايات المتحدة ودول الخليج، ترفض هيمنته وسلاحه”.
ويشدد: “لن يستطيع الحزب إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 27 سبتمبر، تاريخ اغتيال نصر الله”.
ويشير إلى أن “فائض القوة الذي كان يتمتع به حزب الله قد تراجع بشكل كبير”، موضحاً أن “الحزب ربما نجح في تثبيت وزارة المال بيد الطائفة الشيعية في الحكومة المقبلة، لكنه غير قادر على فرض شروطه السياسية بالكامل”.
كذلك يقول الزغبي إنه من “الواضح أن حزب الله الذي خرج منهكاً من الحرب الأخيرة لم يعد يملك القدرة السابقة على فرض المعادلات والسلطات والإدارات كما في السابق، بحيث بات مضطراً للقيام بحركات استعراضية دعائية أكثر منها فعلية ذات تأثير حاسم”.
فسواء على مستوى السلاح أو على مستوى المال، تراجعت طاقات الحزب، وفق الزغبي، “إلى حد كبير بعد إقفال مسار تزويده بهما، لذلك تراجعت قدرته الميدانية عما كانت عليه في غزوتي بيروت والجبل في 7 مايو 2008، وكذلك قدرته على تنفيذ انقلابات على الحكومات بالقمصان السود أو بالدواليب المحروقة، كما تضاءلت قدرته على تكرار غزواته الصغرى مثلما فعل في الطيونة وخلدة وشويا الجنوبية، وكذلك في مخطط الاغتيالات التي ارتكبها”.
والأكيد، كما يقول، “أنه بات يحتاج إلى تعويض معنوي نسبي عن انتكاساته كي يحافظ على تأييد بيئته المصدومة”.
تجدر الإشارة إلى أن رئيس حزب “القوات اللبنانية”، سمير جعجع، سبق أن أكد أن “القوات ستكون خارج أي حكومة تلحظ في بيانها الوزاري معادلة: جيش، شعب، مقاومة، أو تضم وزراء عليهم أي شبهة، وستشارك في حكومة تشبه صفات رئيس الجمهورية المنتخب ورئيس الحكومة المكلف”.
وشدد جعجع، في مقابلة مع قناة “الحدث” في 13 يناير، على أن “القصة ليست بمثابة صراع بين فريقين لبنانيين، بل تكمن في اختلاف بالأفكار والمشاريع، ولو أن ثمة مشروعاً تقدم فعلياً على الآخر، علماً أنني لا أحبذ كلمة (المنتصر)”.
رسائل حازمة
تؤكد “تجارب المقاومة العالمية”، كما يقول العريضي، “أن دور المقاومة ينتهي بتحرير الأرض، لتحل مكانها سلطة الدولة المتمثلة بجيشها الوطني. وفي الحالة اللبنانية، ينص القرار الدولي 1701 على مسؤولية الجيش اللبناني في حفظ الأمن والاستقرار في الجنوب. غير أن حزب الله يتمسك بالمعادلة الثلاثية، ما يعكس رغبته في الحفاظ على دوره الداخلي والإقليمي المرتبط بمصالح إيران، خاصة بعد تراجع نفوذها في المنطقة بعد ضرب أذرعها وسقوط النظام السوري”.
ويلفت العريضي إلى أن “زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إلى لبنان حملت رسائل واضحة بضرورة تحقيق الاستقرار السياسي بعيداً عن هيمنة حزب الله، كما أكد وزير الخارجية الكويتي عبد الله اليحيا الموقف ذاته، مشدداً على أن دعم لبنان مشروط بتوفير بيئة سياسية مستقرة تعزز جذب الاستثمارات وتعيد بناء الاقتصاد”.
وفي السياق ذاته، يشير إلى تصريحات رجل الأعمال الإماراتي خلف أحمد الحبتور، “الذي انتقد السياسات السابقة التي أسهمت في تدمير الاقتصاد اللبناني، داعياً إلى تشكيل حكومة إصلاحية تضم أصحاب اختصاص لإنقاذ البلاد”.
واليوم الثلاثاء، أعلن الحبتور عن إلغاء جميع المشاريع الاستثمارية التي كان يعتزم تنفيذها في لبنان، إلى جانب بيع كافة ممتلكاته واستثماراته هناك، وأوضح في تغريدة عبر حسابه على منصة “إكس” أن “هذه القرارات لم تتخذ من فراغ، بل جاءت نتيجة دراسة دقيقة ومتابعة عميقة للأوضاع هناك”.
كذلك يقول الزغبي إن الحزب ووراءه إيران “يخضع لمراقبة شديدة من المجتمع الدولي المشرف على تنفيذ اتفاق وقف النار، وكذلك للمراقبة العربية، ولا سيما من المملكة العربية السعودية، فالمسؤولية ليست فقط أمام العهد الجديد، بل أمام الإرادة الدولية التي ترعى مسيرة النهوض اللبناني، ومن غير المسموح لإيران استخدام ذراعها في لبنان مرة أخرى لتخريب هذه المسيرة”.