يسدل الستار على عام 2024، ومنطقة الشرق الأوسط تقف فوق ركام أزماتها، حيث اختلط غبار الحروب بنذر التحولات الجيوسياسية العاصفة. ويترنح لبنان تحت وطأة الانهيار الاقتصادي واضطرابات أمنية، وأزمات اجتماعية فضلاً عن خروجه منذ وقت قريب جداً من حرب الجبهات التي أدخله فيها “حزب الله” والتي أطلق عليها اسم “جبهات المشاغلة أو المساندة”، منذ اشتعال حرب غزة أو “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2023، علماً أنه وبحسب التقديرات والتطورات على الجبهة الجنوبية، فإنها توحي بأن تلك الحرب ما زالت جمراً تحت رماد.
ويحاول البلد الذي يقيم أصلاً في غرفة الإنعاش ومنذ سنوات، استقبال عام 2025 ببعض التفاؤل والخروج إلى النور، والبحث عن حلول سياسية تنهي الفراغ الرئاسي وتعيد الحد الأدنى من الاستقرار المؤسسي، في ظل انقسام داخلي حاد وتراجع الثقة الشعبية بالنخب الحاكمة.
وينظر اللبنانيون بعين الحذر إلى ما يجري في سوريا التي أنهكت بفعل سنوات الحرب الطويلة والتي تستقبل العام الجديد مثقلة بجراحها المذهبية وانقساماتها الداخلية، وحكم متزعزع بعد سقوط نظام بشار الأسد وما خلفه من تصدع في المشهد السوري والإقليمي بل العالمي.
وسط هذا المشهد، توحي نهاية عام 2024 بأن المنطقة لم تُطوِ صفحة الصراعات، بل أضافت إليها فصولاً جديدة من التصعيد وفي أحسن الأحوال مراوحة المكان، تاركة السؤال الأهم معلقاً، هل يحمل المستقبل انفجاراً أوسع أم بوادر خجولة لانفراج ينعكس سلاماً وازدهاراً؟.
خسائر الحزب لا تعوض
وألقت التوترات الإقليمية التي انعكست على الجبهة اللبنانية الجنوبية بين “حزب الله” وإسرائيل بظلالها الثقيلة على الداخل اللبناني، وأصبح لبنان طرفاً مباشراً في معادلات الردع والتصعيد الإقليمي، سواء أراد ذلك أو لا. وأدت تلك الحرب التي استمرت لأكثر من عام إلى تأثيرات كبيرة في الحزب، بخاصة بعد خسارته أعداداً كبيرة من عناصره وعشرات القادة بمن فيهم الأمين العام السابق حسن نصرالله. وكان الجيش الإسرائيلي أعلن في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي القضاء على 52 قائداً في صفوف الحزب منذ اندلاع المواجهات، وأنه قام بـ”تصفية سبعة قادة ألوية و21 قائد كتيبة و24 قائد سرية تابعين لـ’حزب الله'”، علماً أنه طوال فترة الحرب شن الطيران الحربي الإسرائيلي مئات الغارات بعضها استهدف أهدافاً عسكرية، وبعضها الآخر استهدف قياديين، معظمهم اغتيلوا في معقل الحزب في الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت. ومن بين هؤلاء القادة نذكر بعضهم لأهميته، ومنهم بالطبع نصرالله الذي اغتيل بأكثر من 80 قنبلة خارقة للتحصينات في مقر قيادة الحزب في حارة حريك (بالضاحية) في الـ27 من سبتمبر (أيلول) الماضي، واغتيل إلى جانب نصرالله قادة كبار في الحزب بينهم مسؤول جبهة الجنوب علي كركي، إضافة إلى عدد من كبار المرافقين، والقيادي في “الحرس الثوري” الإيراني عباس نيلفروشان. ومن بين هؤلاء القادة نذكر أيضاً رئيس المجلس التنفيذي هاشم صفي الدين وقائد “وحدة الأمن الوقائي” نبيل قاووق وقائد “وحدة الرضوان” (قوات النخبة) إبراهيم عقيل وفؤاد شكر الذي كان مسؤولاً عن عمليات الحزب الحربية كافة، ووسام الطويل الذي تولى قبل عقيل “وحدة الرضوان”، أيضاً من بين هؤلاء القادة، مسؤول “وحدة النصر” سامي عبدالله، ومسؤول “وحدة عزيز” محمد ناصر. وفي الـ14 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أعلن الجيش الإسرائيلي القضاء على مسؤول الصواريخ المضادة للمدرعات في “قوة الرضوان” محمد كمال نعيم بغارة جوية، وبعدها بـأيام قليلة، أعلن عن اغتيال قائد منطقة الطيبة محمد حسين رمال (جنوب لبنان)، إضافة إلى كثير من القادة الذين سقطوا منذ الثامن من أكتوبر عام 2023.
قضية المفقودين وأعداد قتلى الحزب
وكانت قضية المقاتلين المفقودين خلال الحرب تفاعلت بين عائلاتهم، إذ تنتظر أن تعرف مصير أبنائها، أو الحصول على رفاتهم لدفنها، بعد مرور أكثر من 30 يوماً على بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار، علماً أنه توارد في الإعلام أن مصير أكثر من ألف مقاتل ما زال مجهولاً، بعدما فُقد الاتصال بهم ولم يُعثر على جثثهم، وهذا الرقم اعتبره مصدر عليم بشؤون الحزب “مبالغاً فيه”. ووفقاً للمصدر فإن هناك ستة أسرى للحزب لدى إسرائيل، نشرت مقاطع مصورة لبعضهم أثناء التحقيق معهم، إضافة الى عماد فاضل أمهز الذي اختطف من منطقة البترون (شمال لبنان) منذ أكثر من شهر إثر عملية بحرية، وتتابع الدولة اللبنانية موضوعه.
ووفقاً لتقارير صحافية عدة ونقلاً عن مصادر الحزب، “لا تزال هناك عشرات القرى لا يمكن الدخول إليها حتى اللحظة، فلا يمكن إحصاء عدد الذين فُقد الاتصال بهم، بالتالي لا يمكن اعتبارهم ’شهداء‘، إلا بعد العثور على جثامينهم، وإن لم يُعثر عليها، كما هي حال عشرات الشبان، فهم منصنفون كمفقودي الأثر”، ولكن وفقاً للمصادر عينها فإن “عددهم قد لا يتجاوز الـ100”.
وكان الحزب وعلى لسان المسؤول الإعلامي السابق محمد عفيف الذي اغتالته إسرائيل أيضاً، اعترف بوجود أسرى لدى إسرائيل. ومنذ سريان الاتفاق لم يشِر أحد من المسؤولين إلى الموضوع، بل اكتفوا بالتذكير بمقولة نصرالله بأنه “لن نترك أسرانا في السجون”. أما عن أعداد القتلى، فكانت وزارة الصحة اللبنانية أعلنت أنه حتى الـ24 من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، قتل 3768 شخصاً وجرح 15699 آخرون في الأقل في لبنان، علماً أن تقارير السلطات اللبنانية لا تميز بين المدنيين والمقاتلين، لكن غالبية القتلى، وفقاً لوكالة “رويترز”، سقطوا بعد أن شنت إسرائيل هجومها في سبتمبر الماضي. ولم يعلن الحزب رسمياً عن أعداد قتلاه، ولكن بحسب “معهد دراسات الأمن القومي” التابع لجامعة تل أبيب، فإن “جماعة ‘حزب الله’ خسرت 2450 فرداً إجمالاً”. وكان لوحظ أن الحزب قلص بصورة ملحوظة من إعلاناته عن نعي مقاتليه الذين يسقطون أثناء الاشتباكات على الحدود الجنوبية إلى حد التوقف، مما لم يكُن معتاداً خلال حروبه السابقة، إذ كان يسارع إلى الإعلان عن قتلاه ترويجاً لفكرة “المقاومة” والتضحية في سبيل “تحرير القدس”. ولكن مصادر قريبة من الحزب قالت إن عدد من سقطوا في صفوفه منذ بداية الحرب بلغ نحو 2500 قتيل.
وتكبد “حزب الله” تلك الخسائر الفادحة في صفوف مقاتليه وقياداته ومخازن أسلحته والأنفاق التي عمل على إنشائها لعقود، مما طرح سؤالاً عن مصيره كقوة عسكرية في حال إنجاز تسوية ما، وهل يمكن أن يكتفي بدور سياسي داخلي، مثله مثل بقية الأحزاب والقوى السياسية اللبنانية؟.
استعادة بعض من التوازن العسكري
على رغم هذه الضربات الموجعة، كان الحزب استرجع بعضاً من قدرته على تكبيد إسرائيل خسائر كبيرة، بخاصة بعد اغتيال نصرالله، واستمر في إطلاق الصواريخ والطائرات المسيّرة نحو العمق الإسرائيلي، وكان “لواء غولاني” تلقى ضربة موجعة خلال تناول جنوده العشاء في صالة الطعام بقاعدة للتدريب قرب بنيامينا جنوب حيفا في أكتوبر الماضي، بعد إطلاق مسيّرة من قبل الحزب اخترقت الدفاعات الجوية الإسرائيلية وقتلت أربعة جنود إسرائيليين وأصابت 67 آخرين، ومعلوم أن هذا اللواء يُعدّ من أقوى الألوية في الجيش الإسرائيلي. أيضاً خلال تلك الفترة ضربت طائرة مسيّرة أطلقت من لبنان، منزل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في قيساريا، محدثة انفجاراً كبيراً، وأكد ذلك ديوان رئيس الحكومة الإسرائيلية حينها، مما عدّه مراقبون إشارة إلى بنية تنظيمية متماسكة لدى الحزب وقدرة على تنفيذ العمليات بصورة شبه مستقلة. وفي السياق، كانت صحيفة “الراي” الكويتية نقلت في ربيع عام 2019 عن مصادر من الحزب، تحدثت عن محضر اجتماع لنصرالله مع كبار قادة حزبه، وأفادت بأنه كان متشائماً جداً، بل “لم يكُن يوماً بهذا التشاؤم”، وفقاً لمصادر الصحيفة. وقال نصرالله في ذلك الوقت للقادة حرفياً “قد لا أبقى بينكم فترة طويلة وقد يذهب معي أكثر قادة الصف الأول، بالتالي من الممكن أن تنجح إسرائيل في اغتيال القادة. إلا أن هذا لا يعني نهاية ’حزب الله‘ الذي لا يعتمد بوجوده على الأفراد بل هو جزء من المجتمع اللبناني الباقي في هذه البلاد”، معلناً عن خطة في حال غيابه مع قادة الصف الأول والثاني للحزب. وكشف عن “إجراءات اتخذت حتى في الحالات القصوى وقتل القادة”. وهذا التقرير نفاه نصرالله شخصياً في اليوم التالي لنشره، ناصحاً الصحيفة أن تكلف كاتب المقالة كتابة “سيناريو لفيلم خيالي”، ووصف ما نشر بـ”الكلام الفاضي الذي لا أساس له من الصحة”.
وربطاً بما سبق، كان النائب حسن فضل الله، التابع لكتلة “حزب الله” في البرلمان اللبناني أعلن أن “’المقاومة‘ باقية ومستمرة”، وأن “’المقاومة‘ جزء من معادلة وطنية عنوانها ‘الجيش والشعب والمقاومة'”، وإن هذه المعادلة لم تستطِع الحرب الإسرائيلية تفكيك عراها، مما يعني أن الاغتيالات والخسائر لن تؤدي بالضرورة إلى انهيار الحزب، نظراً إلى بنيته الهرمية المعقدة ووجود قيادات بديلة جاهزة.
هل يستطيع الحزب أن يرمم نفسه مجدداً؟
قبل الحرب الأخيرة، كان “حزب الله” يُعدّ أحد أقوى الفصائل العسكرية غير النظامية في العالم، ويمتلك أسلحة “جيش متوسط الحجم”، مستنداً إلى كمية الصواريخ التي في حوزته ونوعيتها، واعتبرت تقارير عدة أنه الأكثر تسليحاً في العالم لأن لديه مخزوناً كبيراً ومتنوعاً من صواريخ المدفعية غير الموجهة، فضلاً عن الصواريخ الباليستية والصواريخ المضادة للطائرات والصواريخ المضادة للدبابات والسفن، مستفيداً من الدعم الإيراني. وتقول وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في كتاب “حقائق العالم” إن عدد مقاتلي “حزب الله” كان يقدّر عام 2022 بنحو 45 ألف مقاتل من بينهم نحو 20 ألفاً يعملون بدوام كامل و25 ألفاً من جنود الاحتياط. وبحسب موقع “ميليتري ووتش” العسكري ضمن تقرير نشر في يناير (كانون الثاني) الماضي، فإن “حزب الله” يمتلك فئة جديدة من الصواريخ المضادة للدبابات تشبه صواريخ منظومة “سبايك” الإسرائيلية و”جافلين” الأميركية اللتين تجمعان بين استخدام الرؤوس الحربية المشحونة الترادفية والقدرة على الاشتباك مع الدروع العليا للأهداف، لتعظيم قدرتها على هزيمة دروع المركبات. ويشير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، وهو مركز أبحاث مستقل وغير ربحي مقره في العاصمة الأميركية واشنطن، أنه ينظر إلى ترسانة “حزب الله” من الصواريخ والقذائف على أنها “الرادع الأساس ضد العمل العسكري الإسرائيلي”، ويقول دانيال بايمان، وهو زميل بارز في المركز، ضمن مقالة له نشرت في “اندبندنت عربية” في ديسمبر (كانون الأول) عام 2023، “وهم (عدد كبير من الإسرائيليين) يخشون أن يهاجم ’حزب الله‘، إسرائيل أيضاً، مستخدماً ترسانته الصاروخية الأكبر حجماً ومقاتليه الأكثر مهارة لشن هجوم أكثر تدميراً على الشمال”. وكان نصرالله أعلن في أكتوبر عام 2021 أن عدد المقاتلين الجاهزين للقتال في صفوف حزبه يبلغ 100 ألف، باستثناء الحلفاء والمنظمات غير العسكرية، وكانت المرة الأولى التي يحدد فيها تعداد مقاتلي “حزب الله” بصورة علنية، بعد مواجهات عُرفت حينها بحادثة الطيونة -عين الرمانة، خلال تظاهرة لمناصري الحزب و”حركة أمل”، اعتراضاً على أداء المحقق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار الذي طالب “الثنائي الشيعي” بعزله في ذلك الوقت. ولكن بعد سقوط النظام السوري الذي كان يعتبر حلقة الوصل بين المنافذ الإيرانية العراقية ولبنان، بالتالي إغلاق طرق الإمدادات، تُثار تساؤلات حول قدرة الحزب على ترميم نفسه والاستمرار في ظل انقطاع الإمدادات الرئيسة. مما لا شك فيه، أن الحزب يتمتع ببنية تنظيمية قوية تشمل هيكلاً قيادياً محكماً، يعتمد على قرارات مركزية وسيطرة صارمة على الفصائل التابعة له، وكان راكم مخزوناً كبيراً من الأسلحة، بما في ذلك الصواريخ الدقيقة والطائرات المسيّرة، وعمل على بناء شبكات من الأنفاق والاتصالات تمكنه من التحرك والعمل في بيئة معادية من دون الاعتماد على خطوط الإمداد الخارجية الفورية، فضلاً عن امتلاكه قوات مدربة على حرب العصابات والتحصينات. ولكن كل ذلك سيتأثر بصورة بالغة بعد انقطاع الإمدادات من إيران، وبعد انقطاع الجسر البري بين طهران ولبنان عبر سوريا سيتعقد نقل الأسلحة الثقيلة والذخائر المتطورة، وأيضاً غياب القدرة على إيصال الإمدادات عبر الجو نتيجة الرقابة الدولية، بخاصة من قبل إسرائيل. وقد يتراجع مستوى التحديثات التقنية للأسلحة، مما يحدّ من تفوق الحزب التكنولوجي، ومحدودية الذخائر الدقيقة والمضادة للطائرات قد تعوّق قدرة الحزب على خوض عمليات أو حرب طويلة، علماً أن مصادر إيرانية تحدثت إلى “اندبندنت عربية” قالت إن “الحزب سيخرج أقوى من هذه المحنة، وبعد انكسار المسلمين في غزوة أحد أتت مرحلة فتح مكة”، في إشارة إلى الفتوحات الإسلامية خلال عهد النبي محمد، وفقاً للمتحدث الدبلوماسي الإيراني. وتابع أن “الحرب هي كر وفر، وشعوب المنطقة هم أصحاب الأرض بينما الكيان الصهيوني هو الغريب ولا بد من أن يرحل”. ويضيف أن “إسرائيل في السابع من أكتوبر 2023، انتهت وهزمت وانكسرت” وأن “مشروع الشرق الأوسط الجديد يبنى على رؤية ولاية الفقيه و’المقاومة‘، ولا مكان للكيان الصهيوني، هذا اعتقادنا وإيماننا”. ويشير المتحدث ذاته إلى أن “’محور المقاومة‘ كبر، وأصبح لدى ’المقاومة‘ في العراق واليمن وفلسطين ولبنان، إمكانات ذاتية محلية ودولية، وأن طهران ومنذ أعوام طويلة توقفت عن إمداد هذه الفصائل بالمال أو بالإمكانات، هناك استشارات فقط، و’حزب الله’ لديه إمكانات مالية كبرى، وأيضاً أصبح الحزب يمتلك مصانع أسلحة خاصة وهو قادر على تطوير مسيّراته بعدما نقلت إيران إليه تقنيات التصنيع”. وكان الحزب بدأ منذ سنوات تطوير ورش تصنيع محلية لإنتاج ذخائر وصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى، مما يقلل من اعتماده على الشحنات الخارجية، وأشارت تقارير عدة إلى قدرته على تطوير طائرات مسيّرة محلياً. ولكن مع تراجع الدعم المالي المباشر من إيران نتيجة الضغط الدولي، سيؤثر ذلك في رواتب المقاتلين والبرامج الاجتماعية التي يديرها الحزب. من هنا قد يضطر إلى استخدام وسائل التهريب عبر البحر والبر، وسيعمد إلى توظيف الدعم الشعبي في المناطق الشيعية لتأمين مزيد من التجنيد لتعويض الخسائر البشرية التي مني بها.
سيناريو الانهيار الجزئي للحزب
ولكن في حال انقطاع الإمدادات بصورة كاملة وتعرض الحزب لضغوط داخلية وإقليمية، فسيتراجع نفوذه العسكري والسياسي تدريجاً، وسيواجه صعوبات لوجستية، ومع أنه يمتلك قدرة عالية على التكيف مع التحديات نتيجة بنيته التنظيمية الصلبة وتخزينه الاستراتيجي للأسلحة وخبرته الطويلة في الحروب غير النظامية، فإن انقطاع الإمدادات الإيرانية المباشرة سيضعه في موقف دفاعي أصعب، بخاصة إذا واجه صراعات متعددة في آنٍ واحد. لذا، سيعتمد بقاؤه على قدرته على تطوير إنتاج محلي وتحقيق استدامة مالية والاستمرار في بناء تحالفات إقليمية (إن وجِدت) لتعويض أي خسائر استراتيجية محتملة.
النفوذ السياسي
وعلى رغم الضغوط العسكرية، فإن “حزب الله” لا يزال لاعباً أساسياً على الساحة السياسية اللبنانية، لكن الأصوات المطالبة بنزع سلاحه تزايدت، خصوصاً بعد اتفاق وقف إطلاق النار الذي ينص على انسحاب مقاتليه إلى شمال نهر الليطاني. بالتالي يواجه الحزب تحديات غير مسبوقة في تاريخه، مما سيؤثر في دوره المستقبلي في لبنان والمنطقة. لكنه ما زال يُعتبر ذراعاً إقليمية إيرانية ضمن “محور المقاومة”، مما يضعه في سياق استراتيجي يتجاوز لبنان، كما أنه يعتمد في تمويله وتسليحه على الدعم الإيراني، مما يصعّب فصله عن هذه العلاقة في أي تسوية مستقبلية.
سيناريو التسوية ومصير السلاح
يرى الحزب أن سلاحه جزء من عقيدته الدينية ومهمته في “مقاومة الاحتلال”، مما يجعله يرفض التنازل عنه بسهولة، وهو يدخل ضمن الشرعية العقائدية. ويعتبر أن أي تسوية يجب أن تشمل إيران، وهو أمر معقد نظراً إلى العداء (حتى الآن) بينها والولايات المتحدة وإسرائيل. ويتخوف الحزب إذا سلّم سلاحه من فقدان النفوذ، ذلك أنه في اعتباراته، التخلي عن السلاح يعني خسارة ورقة القوة التي تفرض نفوذه داخلياً وإقليمياً. وكثيراً ما ذكر حزبيون في تصريحات غير رسمية إلى “اندبندنت عربية” أن قوة لبنان تنبع من وجود “حزب الله” على أراضيه.
التحول إلى حزب سياسي صرف
ربما يكون من إيجابيات دخول “حزب الله” في السياسة، تعزيز فرصه بالحفاظ على شعبيته ونفوذه من دون أخطار عسكرية، ولكن من السلبيات وفق مقربين منه، أن ذلك سيفقده دوره المحوري كذراع إقليمية لإيران، مما يعرضه لضغوط داخلية وخارجية، وقد يلجأ الحزب إلى تقليص حجم ترسانته العسكرية مقابل الحفاظ على قدرات محدودة تحت ذريعة “الدفاع الوطني” عبر نموذج شبيه بنموذج “الحشد الشعبي” في العراق.
وفي هذا الإطار كان حُكي عن مشروع دمج عناصر الحزب في الجيش اللبناني مع الحفاظ على الجناح السياسي، لكن ذلك يتطلب إعادة هيكلة جذرية يصعب تحقيقها من دون ضمانات دولية.
البعد الداخلي والتوازنات الطائفية والسياسية
يمثل “حزب الله” العمود الفقري لغالبية الشيعة اللبنانيين، والتخلي عن سلاحه من الممكن أن يثير مخاوف الطائفة من فقدان الحماية والتمثيل القوي في النظام الطائفي اللبناني. وتفسح التسوية المجال ربما لظهور قوى شيعية بديلة تنافس الحزب، مثل “حركة أمل” أو شخصيات مستقلة، مما يضعف قبضته على الطائفة. وقد يتمكن الحزب من الاستمرار كقوة سياسية فاعلة عبر تحالفات انتخابية ووزارية، لكنه سيواجه تحديات في الحفاظ على تأثيره من دون الدعم العسكري وفائض القوة اللذين يتمتع بهما بفضل السلاح. من هنا قد يعمد إلى الاحتفاظ بوحدات أمنية محلية تحت غطاء حماية الطائفة الشيعية أو دعم مؤسساته الاجتماعية، مستفيداً من قاعدته الشعبية الواسعة. ولكن تغيير دوره قد يؤدي إلى خلافات داخل الحزب نفسه بين الجناحين العسكري والسياسي، إذ يرى بعض الأعضاء أن التخلي عن السلاح يضعف مكانتهم.
سيناريو التسوية وآثارها المباشرة
إذا تم التوصل إلى تسوية إقليمية أو دولية تشمل الصراع العربي-الإسرائيلي أو التوترات الإيرانية-الأميركية، فإن “حزب الله” سيكون أحد أبرز المتأثرين، ويرجع ذلك إلى أنه طرف فاعل مرتبط بصورة وثيقة بالمحور الإيراني، ومشارك أساسي في الحروب الإقليمية، مثل سوريا واليمن، إضافة إلى دوره في الحرب الأخيرة ضد إسرائيل. وفي ظل تسوية كهذه قد يحتفظ الحزب بدوره الإقليمي كذراع استراتيجية لإيران، لكن مع تقليص عمليات التدخل العسكري المباشر، إلا أن إيران قد تحتفظ به كورقة ضغط ضد إسرائيل والغرب، من دون التفريط بالسلاح الاستراتيجي، لا سيما الصواريخ الدقيقة والمسيّرات، حتى الآن.
ونظراً إلى شبكة مصالحه الاقتصادية، من المحتمل أن يوسع الحزب نفوذه المالي والتجاري كبديل عن الدور العسكري المباشر. وستستغل الأحزاب اللبنانية المعارضة التي تطالب منذ أعوام بنزع سلاح الحزب، أي تسوية لتعزيز مطالبها بنزع سلاحه أو إخراجه من المعادلة العسكرية كلياً، مما يدفع الولايات المتحدة والدول الغربية ربما إلى دمج الحزب في النظام السياسي اللبناني كحزب مدني خاضع للقوانين اللبنانية، مع الاستمرار في فرض عقوبات إذا خالف شروط التسوية.
الخلاصة أن أي تسوية إقليمية تُجبر “حزب الله” على تعديل استراتيجيته، من غير المرجح أن تدفعه للتحول إلى حزب سياسي داخلي صرف، نظراً إلى طبيعة بنيته العقائدية والعسكرية، وارتباطه بالمشروع الإيراني الإقليمي. وسيحاول الحزب موازنة دوره بين الاحتفاظ بقوته العسكرية بصورة غير معلنة وتوسيع نفوذه السياسي والاقتصادي داخلياً. ومع ذلك، فإن أي تغييرات مفروضة ستخلق تحديات داخلية وخارجية، وستعيد تشكيل المشهد اللبناني برمته.