تعود ذكرى الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1989)، مرة جديدة ولبنان على مفترق طرق. لم تُمحَ تلك الحرب من ذكريات وعقول الناس التي عاصرتها أو شاركت بها، أو الذين كانوا أطفالاً وقت اندلاعها وأصبحوا في الخمسينيات أو مقتبل الستينيات، والشباب الذين أتوا من بعد تلك الحرب الدموية، ولم يشاركوا فيها ولم يشاهدوها، لكنهم رأوها في عيون وعقول أهلهم وأجدادهم. وعلى رغم فظاعة تلك الحرب التي استمرت ما يقارب 15 عاماً وأتت على البشر والحجر، وتركت ندوباً في جسم الوطن، إلا أن تلك الندوب والجروح لم تندمل، ولبنان مؤهل جداً، بعد كل ما حصل ويحصل في المنطقة، للدخول في حرب جديدة، وإن كان على الأغلب لم يغادرها نهائياً.
بوسطة عين الرمانة
تلك البوسطة تحولت إلى رمز بعد أن كانت سبب اندلاع الحرب. وتختلف العديد من المصادر على توقيت وأسباب اندلاع الحرب، ولكن ووفقاً للعديد من المراجع أن تزايد وجود الفلسطينيين على الأراضي اللبنانية كان عاملاً شديد التحفيز، حيث أسهم نزوح مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين إلى لبنان ما بين أعوام 1948 و 1967 في تغيير التوازن الديموغرافي.
وتتفق غالبية المراجع على أن بداية حرب لبنان كانت في 13 أبريل (نيسان) 1975، عندما قام حزب “الكتائب اللبنانية” وبعد محاولة فاشلة لاغتيال الزعيم الماروني بيار الجميل (الجد) نفذها مسلحون، وأدت إلى مقتل مرافقه جوزيف أبو عاصي، والمواطن أنطوان ميشال الحسيني، بنصب كمين لحافلة (البوسطة) في منطقة “عين الرمانة” شرق العاصمة بيروت، وكانت تقل فلسطينيين، وأطلقوا النار عليها، ما أدى إلى مقتل 27 شخصاً، ودخلت البلاد بحرب استمرت 15 عاماً، بين مختلف الطوائف والمكونات اللبنانية، إضافة إلى “منظمة التحرير الفلسطينية” وفصائل فلسطينية متعددة أخرى. ومع ذلك يشير باحثون إلى أن الأسباب الفعلية للحرب سبقت مقتل الفلسطينيين في عين الرمانة. ووفقاً لمنظمة “الأمم المتحدة” فهي حرب أهلية متعددة الأوجه، وأسفرت عن مقتل نحو 130 ألف شخص بحسب تقرير لمجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة الأممية نشر عام 2006، وأسفرت عن نزوح قرابة مليون شخص.
“صدمات نفسية جماعية”
وتتساءل مراسلة “نيويورك تايمز” لشؤون أميركا اللاتينية، اللبنانية ماريا أبي حبيب وهي من مواليد الثمانينيات من القرن الماضي، في تقرير لها نُشر في 15 يناير (كانون الثاني) 2022، بعنوان “32 سنة بعد الحرب الأهلية، لحظات عادية تثير ذكريات فظيعة”، “عندما تكون طفلاً، كيف تتجاوز آثار الحرب؟ لقد تحول كثير من الألعاب مثل (مونوبولي)، و(سكرابل)، وأوراق الكروت، والشموع إلى ذكريات مروعة عندما تحولت الحمامات الخالية من النوافذ إلى ملاجئ عائلية للحماية من القنابل… هل يمكن أن نتجاهل البلاط القاسي الذي كنا ننام عليه وعمليات القصف المدوية لبعض المجموعات التي تحاول قتلك لأسباب لا تفهمها بالمرة؟”. وتتابع الكاتبة أبي حبيب، “أن الحرب فعلاً، بصورتها النمطية، عبارة عن مبانٍ محطمة، ودوي صخب سيارات الإسعاف، ودماء مُراقة، ومراسم جنائز. لكن الحرب يمكن أن تكون مؤذية إذا استمرت لفترات طويلة، في حين أنك تحاول تمضية الوقت عن طريق اللجوء إلى القيام بالأعمال المبتذلة والعادية. لكن بعض تلك الأشياء التي استُخدمت لتجاوز مرحلة الطفولة التي عصفت بها الحرب، مثل ألعاب الطاولة، أصبحت حالياً مصدراً للصدمات النفسية لي ولكثير من أصدقائي، إذ وُلدنا وترعرعنا إبان الحرب الأهلية التي شهدها لبنان قبل أكثر من ثلاثة عقود ونحاول حالياً ونحن ناضجون أن نعيش حياة طبيعية ونُربي أولادنا، بينما ينهار لبنان ويحترق مرةً أخرى”. وتشير الكاتبة إلى أن جيلها يعاني مما تشبهه بـ”حقول ألغام عاطفية”، وتنقل عن صديقتها البالغة من العمر 40 سنة وتعمل مطورة سلع ومنتجات وتعيش حالياً في مدينة نيويورك، قولها، “لا أشعر بأنني على ما يرام في الأجواء الرومانسية، إذ تُسبب لي الشموع القلق لأنها تذكرني بأننا أمضينا كثيراً من الوقت في الدراسة، أثناء الحرب الأهلية في لبنان، على ضوء الشموع بعد اليوم المدرسي”. فهل حقاً انتهت تلك الحرب، مع كل الانقسامات التي يشهدها البلد اليوم؟ وهل حقاً عبارة “تنذكر وما تنعاد” سارية المفعول، وكيف تأثر جيل ما بعد الحرب الأهلية بها، وهل يتأرجح لبنان بين حرب أهلية معلنة وحرب أخرى غير معلنة؟
“الموت غيلاً وغدراً استمر بعد الحرب”
يقول الباحث اللبناني في الفكر السياسي وتاريخ الأفكار، الأستاذ في معهد العلوم السياسية في جامعة “القديس يوسف”، وسام سعادة لـ “اندبندنت عربية”، “نعم الحرب انتهت، ولم تعد هناك مجازر، لكن بالمقابل تاريخ ما بعد الحرب ارتبط إيقاعه وعلى نحو كبير بسلسلة من الاغتيالات والتصفيات”. ويتابع أن “الموت غيلاً وغدراً استمر بعد الحرب بل تحول إلى عنصر مهيمن بشكل كثيف على العلاقات السياسية، وعلى الحياة الثقافية، وعلى الوضع النفسي للعدد الأكبر من السكان”. ويقول الباحث سعادة عن الأجيال التي تعاقبت خلال الحرب وبعدها، أن “هناك جيلاً عرف لبنان قبل الحرب وخاض الحرب وعاش بعد الحرب وحتى الانهيار. وهناك الجيل، الذي أنتمي إليه، ولد في الحرب، كانت صدمته ليست بالحرب بما أنه ولِد فيها، بل بتراجعها، أو بالسلم الأهلي، الذي لم يشعر في الوقت نفسه بأنه نقيض عنها بالكامل، بل كان الشعور الدائم بهشاشته، وباستمرارية دينامية العنف خلاله، بالاغتيالات والتفجيرات”. ويرى سعادة أن “المشكلة أيضاً تكمن في أن التروما أو الهلع من عودة الحرب تميل إلى التراجع بمرور الزمن من جهة، وبزيادة رثاثة ما يُفترض أنه السلم، وهو سلم معجون بأعمال الاغتيال والترهيب والتخوين”.
جيل ما بعد الحرب الأهلية
في دراسة للباحث والكاتب والمحاضر الجامعي، المتخصص في العلاقات الدولية، حسام مطر صادرة بتاريخ 25 أغسطس (آب) 2021، عن “المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق” حول جيل ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية من حملة الشهادات الجامعية والمنضوي في الأحزاب والحراك، جاءت الدراسة إثر اندلاع “انتفاضة 17 أكتوبر” (تشرين الأول) 2019، والتي جاءت بعنوان “جيل ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية بين السلطة والحراك”، وناقشت الدراسة كيف ينظر ذلك الجيل إلى الأزمة بعد 17 أكتوبر، وأسبابها، وكيف يوزع المسؤوليات، وتضمنت مقابلات مع 64 شاباً وشابة. ووفقاً للأكاديمي مطر وعن “ذاكرة جيل ما بعد الحرب الأهلية”، قال إن “ما تختزنه الذاكرة هو جزء من الهوية. والذاكرة ليست محايدة، فالأحداث السياسية التي تثبت فيها تعكس أبعاداً وجدانية وأيديولوجية، وتعزز الانتماء السياسي، وتُستخدم لتفسير الوقائع الحالية، ثم أنها تعكس مصالح الجماعة التي ينتمي إليها الفرد. هناك علاقة مباشرة بين انتماء الفرد لجماعة سياسية، وبين تقييمه للأحداث السياسية المختزنة في ذاكرته، واسترجاعه لهذه الذكريات وتفسيرها ومنحها معنى، ما يكشف عن فهم الأفراد لواقعهم السياسي”.
“17 تشرين مرتكز في ذاكرة جيل ما بعد الحرب الأهلية”
بحسب الدراسة والتي هي عبارة عن كتيب من 64 صفحة، فإن “الإجابات التي قدمها المشاركون تظهر أن الأحداث المستذكرة تعود لما بعد عام 2005، (تقريباً كان المشاركون في بداية سنيّ المراهقة) وهي واقعاً الأحداث التي تدور حولها الحياة السياسية اللبنانية منذ ذلك الوقت، تحرير جنوب لبنان عام 2000، واغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في عام 2005، وتظاهرات 14 مارس 2005، وعودة الرئيس السابق العماد ميشال عون من منفاه في العام ذاته، وانتصار (المقاومة) في عام 2006، وأحداث السابع من مايو (أيار) 2008، ووصول العماد عون إلى الرئاسة في عام 2016، واحتجاجات 17 أكتوبر 2019”. وتخلص دراسة الباحث حسام مطر إلى أنه “تحول حدث 17 تشرين إلى مرتكز في ذاكرة جيل ما بعد الحرب الأهلية المنضوي في قوى الحراك والمعارضة. فذاكرة هذه الشريحة أصبحت خاضعة لهذا الحدث لدرجة تغيب عنها الكثير من الأحداث السابقة، وهو ما يعني أن الشحنة الوجدانية لهذه الذكرى ستعمل على مدى السنوات المقبلة كمحفز رئيس. أنتج هذا الحدث مشاعر القدرة والخيبة في آنٍ معاً وهي ستظهر عند كل اختبار جديد في الشارع. ويتجسد هذا التناقض من خلال تجاهل مجموعة من المشاركين لحدث 17 تشرين والرجوع لأحداث أسبق منه، في مقابل إصرار مجموعة أخرى على أن هذا الحدث هو محطة في مسار يتقدم وحتميّ ومتصاعد”.
ويتابع أن حدث “17 تشرين عزز الهوية المشتركة لمعارضي الوضع القائم، وكذلك صار مصدراً للمشروعية لا غنى عنه. في حين أنه “يمكن اعتبار أن حادثة انفجار المرفأ (الرابع من أغسطس/ آب 2020) كانت الركن الثاني الموازي لاحتجاجات 17 تشرين في ذاكرة شباب الحراك والمعارضة، فهي أكدت لهم، من منظارهم الخاص، صوابية القطيعة مع الوضع القائم وأعادت شحن الغضب تجاه النظام السياسي. ويضيف مطر في دراسته أنه “كان للعامل الطائفي دور واضح في الذاكرة السياسية، فالمشاركون من كل مذهب، من كلتا الفئتين، ركزوا نسبياً على قضية محددة أكثر من البقية. فالمشاركون الشيعة ركزوا على القضايا المرتبطة بالمقاومة و17 تشرين، والمشاركون السنة على حدث اغتيال الرئيس الحريري، والمشاركون المسيحيون على حادثة انفجار مرفأ بيروت. لكن الحدث الأفضل الذي برز مشتركاً لدى بعض المشاركين من الفئتين ومن طوائف مختلفة كان مرتبطاً بالمقاومة سواء تحرير جنوب لبنان في عام 2000 أو الانتصار على العدوان الإسرائيلي في عام 2006”.