ظهر جعجع في قداس الشهداء بمظهر الواثق والمطمئن إلى المصير والمنحى السياسي في البلاد، وهذا الأمر مستمدّ من عوامل داخلية وطنية ومسيحية، ومستند الى مواقف خارجية.
في المنحى الداخلي، صار جعجع زعيم المعارضة ونجح في توحيد صفوف القوى السيادية وبعض المستقلين، فلا أحد ينافسه على تلك الزعامة نظراً إلى امتلاكه أكبر كتلة في البرلمان، وهذا يؤهّله إلى الإستمرار في الوقوف في وجه طموح «حزب الله» ومنعه من السيطرة على الرئاسة الأولى.
وبالنسبة إلى النقطة المسيحية، فالإنتخابات النيابية الأخيرة أثبتت بالأرقام تفوّق «القوات» شعبياً ونيابياً، وأصبحت الممثل الأول للمسيحيين، لكن ليس هذا السبب الوحيد الذي يمنح جعجع صورة القوي، بل العصب المسيحي أو الرأي العام غير الحزبي الذي يراهن على «القوات» لقيادة المرحلة المقبلة.
وتساعد العوامل الداخلية أي قوة للصمود، لكن الأهم هو الموقف العربي والدولي. وفي هذا السياق، يطمئن جعجع إلى موقف كل من الرياض وواشنطن، اللتين لن تدخلا في صفقة مع طهران على حساب لبنان. ومن سمع خطاب جعجع يتأكّد من العلاقة المميزة التي تربطه بالخليج والسعودية تحديداً، في وقت غمز من قناة فرنسا من دون أن يُسمّيها، واعتبرها تُماشي «خزعبلات» الممانعين.
كل تلك العوامل تجعل جعجع في وضع متقدّم من حيث التصدّي لمشروع «حزب الله»، لكن الحكيم أسقط من حسابات «حزب الله» والممانعين ورقة كانوا يستعملونها منذ عام 2007 وهي ابتزاز المسيحيين بتخويفهم على موقع رئاسة الجمهورية، وسط أخبار بدأ هذا المحور الترويج لها، وهي أن العماد ميشال عون هو آخر رئيس جمهورية مسيحي.
بالأمس قال جعجع كلمته ومشى وترك التحليلات تأخذ مجراها، إذ أكّد على التعايش الطويل مع الفراغ الذي يبقى أفضل من وصول مرشح «حزب الله».
وكانت هذه الورقة مهمة يحملها «حزب الله» ويهدّد بها، وقد سارعت قوى 14 آذار عام 2007 إلى تبنّي ترشيح قائد الجيش آنذاك العماد ميشال سليمان خوفاً من تمدّد الفراغ، وكذلك حصل عند إبرام «اتفاق معراب»، ومن ثمّ التسوية الرئاسية عام 2016، وكان الخوف على البلاد وعلى موقع رئاسة الجمهورية العامل الأبرز الذي دفع القوى المسيحية وقوى 14 آذار إلى استعجال التسوية.
ويختلف الوضع كثيراً اليوم عن 2016، فالدولة التي نخاف عليها انهارت، أمّا تهديد المسيحيين بالحرمان من رئاسة الجمهورية فسقط، لأنّ كل الطوائف مأزومة، فوضع السنّة والشيعة والدروز ليس أفضل حالاً من وضع المسيحيين، والأزمة تطال الجميع.
في خلفيات خطاب جعجع يظهر عدم الخوف على الوجود ولا من «الممانعة» التي اتهمها بقتل القيادي الياس الحصروني، فـ»القوات» تحصّن ساحتها وتعمل على تأمين الخدمات لمجتمعها، وتعتبر لعبة «عضّ الأصابع» مع «حزب الله» قد تطول، لذلك استعدّت لكل شيء، بينما تُدير المواجهة السياسية بالشكل المطلوب ومن دون ارتكاب أي خطأ أو المسّ بالرصيد الشعبي الذي يتراكم.
بالأمس سقط الحوار ومحاولات إيصال مرشح «حزب الله» والتسويات وابتزاز المسيحيين، ضحايا خطاب جعجع، وهو الذي أطلق النيران على كل ما يتردّد عن قرب إبرام صفقة بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحرّ» لإحراج النائب جبران باسيل، خصوصاً أنّ الرأي العام المسيحي ضدّ أي إتفاق في هذا الإطار ولا سيّما «مار مخايل 2».
إذاً، بعد خطاب جعجع لم يعد أي مكوّن قادراً على تهديد المسيحيين بمراكزهم ووجودهم، وبالتالي ينتقل اللعب إلى الملعب السياسي وهناك يكمن التحدّي الأساسي وسط التوازن الذي فرضته «القوات» في وجه «حزب الله» سواء التوازن السياسي أو على الأرض.