يقال إن الكذاب ذاكرته قوية ويحتاط لأصغر التفاصيل لتبقى كذبته متماسكة، وفي جريمة اغتيال باسكال سليمان، المسؤول في حزب “القوات اللبنانية”، كلما تسربت معلومة لتكون جواباً على تساؤل ازدادت الأسئلة وعلامات الاستفهام.
المراد الأساس عند “حزب الله” وأعوانه هو استبعاد الخلفيات السياسية للجريمة، سيارة دفع رباعي صندوقها الخلفي من زجاج وعلى مقاعدها جثة شاب مضرجة بالدماء، تقطع 200 كيلومتر وتعبر الحدود بين بلدين، وليس في الأمر سياسة، فالدولة انهارت مؤسساتها لأن زلزالاً طبيعياً ضربها، وصودف أن “حزب الله” جمعية خيرية لا شأن لها بالسياسة والحروب.
فكيف لا تكون جريمة سياسية وارتداداتها التي تلت وستلي سياسية بامتياز؟
زعيم “حزب الله” لم يتأخر في تصعيد الموقف وتعميق الجراح، وإذ امتنع حزب باسكال سليمان من توجيه اتهام مباشر إلى طرف بعينه، وجد أمين عام “حزب الله” الوقت الكافي لمراجعة آلاف الحسابات لناشطين على وسائل التواصل، ولم تقع عيناه على بيان صيغ بعناية ومسؤولية وطنية، وصدر عن حزب الشاب المغدور، ولم يقرأ مئات التدوينات التي تلوم “القوات اللبنانية” لأنها صابرة، ولأنها لا تحرك ساكناً “وقد بلغ السيل الزبى”.
أليس لهذه الصرخات بُعد سياسي؟ فبعد الجريمة سادت فكرة سوداوية مفادها أن باسكال مواطن ومسؤول في حزب كبير، وعلى رغم ذلك قتل ورميت جثته خارج الحدود، فكيف يطمئن المواطن العادي الذي لا حزب وراءه ولا دولة تحميه؟ الجريمة حصلت لكن سيل الأسئلة السياسية يعادلها خطورة إلى ما قد يتعداها، فالبلد ليس على شفير حرب أهلية، والحرب تحتاج إلى طرفين مسلحين، ووحده “حزب الله” يملك السلاح والأجهزة الأمنية، والبلد مخطوف ورهينة.
قبل ثلاثة أعوام دخل المسؤول الأمني في “حزب الله” وفيق صفا إلى وزارة العدل وقال علناً للمحقق العدلي في انفجار بيروت طارق البيطار ما معناه، “إذا تماديت سنقتلعك”، وهناك إجماع على وصف الانفجار بجريمة العصر، أما “حزب الله” فبرأيه أن ما حصل كان إهمالاً سببه عمال تلحيم.
حادثة بحرية ألقت بباخرة مجهولة الملكية على متنها أطنان النيترات على رصيف مرفأ بيروت، وحادثة مرورية قتلت ابن الجنوب والمسؤول في “القوات اللبنانية” إلياس الحصروني في أغسطس (آب) 2023، وعملية سطو سيارة قتلت بالصدفة مسؤولاً آخر في الحزب ذاته.
استذكر كثر أن اغتيال باسكال سليمان حصل على مقربة أيام من تاريخ اندلاع الحرب الأهلية في الـ 13 من أبريل (نيسان) 1975، والواقع اليوم أن جانباً من تلك الحرب لا يزال ساري المفعول، وهو جانب خطف الرهائن الذي ساد خصوصاً خلال ثمانينيات القرن الماضي.
رهائن أغلبهم من جنسيات غربية خطفهم “حزب الله” وتشعباته الإيرانية واستعملهم في المقايضة السياسية، وهذه المقايضة يصح وصفها اليوم “تجارة سياسية بالبشر”، وإحدى عمليات الخطف انتهت بالفشل لأن الاتحاد السوفياتي وقتها لم يكن يتقن التفاوض السلمي، ولم يكن لديه “صبر إستراتيجي”.
والذي حصل أن عماد مغنية في سبتمبر (أيلول) عام 1985 خطف أربعة دبلوماسيين سوفيات وهدد ببيان مرسل إلى وكالة “رويترز” بقتلهم إذا لم تضغط موسكو على سوريا لإنهاء “الأعمال العدائية ضد المخيمات الفلسطينية ووحدات تنظيمات إسلامية متطرفة في شمال لبنان”، وفعلاً قتل “حزب الله” الموظف القنصلي أركادي كاتكوف ورمى جثته قرب الملعب البلدي في بيروت، فتحركت موسكو على خطين، إذ استعدت للتدخل عناصر من قوة النخبة تدعى “فيمبل”، وهي وحدة متخصصة في العمليات الخارجية، وفي الوقت ذاته زار الضابط في الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي) يوري بيرفيليف الشيخ محمد فضل الله الذي كان يعتبر الزعيم الروحي وقتها لـ “حزب الله”.
رسالة الضابط السوفياتي كانت واضحة وحاسمة، فقد قال لفضل الله “إن الاتحاد السوفياتي يجري تدريبات بإطلاق صواريخ في مناطقه الجنوبية، وإن خطأ ما يمكن أن يحدث ويطير صاروخ بطريق الصدفة إلى منطقة مهمة في الشرق الأوسط”.
التقط فضل الله الإشارة وفهم أن “المنطقة المقصودة” بالصاروخ هي الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل “حزب الله”، فجرى على عجل إطلاق الرهائن. الصواريخ في هذه الأيام مصادرها إسرائيلية وإيرانية تنطلق من لبنان أو تسقط عليه، ولا يوجد أفق لتحريره، فالطرفان متآمران ليبقى في وضع الرهينة إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.