مع كل «تَمَدُّدٍ» لقواعد الاشتباك على الجبهة الجنوبية وتَوَغُّلِ الاستهدافات الاسرائيلية في العمق اللبناني والارتقاءِ الكمي والنوعي في عمليات «حزب الله»، «تهتزّ» اقتناعاتٌ بأنّ الحدودَ المترامية على امتداد أكثر من 100 كيلومتر من شبعا حتى الناقورة، ستبقى محكومةً بضوابط تردع خروجها عن السيطرة والتحاقها بـ «أم المعارك» في غزة.
ومن خلف دخان أول استهدافٍ اسرائيلي منذ حرب يوليو 2006 لعمق منطقة النبطية حيث أطلقت مسيّرة فجر أمس، صاروخين باتجاه معمل الومينيوم (يقع على طريق تول – الكفور) ما أدى لاحتراقه بكامل معداته، في مقابل إسقاط الحزب مسيَّرة اسرائيلية «هيرميز 450» بصاروخٍ عَكَسَ قدراتٍ نوعيةً جديدة على صعيد منظومة الدفاع الجوي، عادت الضبابية لتكتنف ما كان يُعتقد أنه بات ثوابتَ يَنتظم تحتها العمل العسكري على الجبهة الجنوبية ربْطاً بخيْط سياسي «مربطه» الأساسي استراتيجيةٌ إيرانية ارتأت تجزئة ساحات «محور الممانعة» واعتماد ضغطٍ «بالمفرّق» على جبهات إسنادٍ ومشاغلةٍ من دون الانغماس بالحرب.
فحجمُ العمليات التي نفّذها الحزب، أمس، على طول الحدود مستهدفاً مواقع عسكرية، وبعضها مستحدَث، والقصف الاسرائيلي والغارات المكثفة التي ألهبت شريط البلدات الحدودية وصولاً إلى النبطية، جَعَلَ أطرافاً سياسية في لبنان تتحرى مجدداً عما إذا كان ثمة سرٌّ ما وراء اندفاعة النار يؤشر إلى قرارٍ بالضغط على زرّ التفجير الكبير مع استمرار العدّ التنازلي لمهلة الأسبوعيْن لاسرائيل لـ «إنجاز مهمتها» في شمال غزة قبل ترْك الضغط الدولي يفعل فعله، إذا صحّ هذا التقدير.
على أن أوساطاً مطلعة، مازالت تعتبر أن إبرازَ كل من اسرائيل و«حزب الله» المزيد من «الأنياب» في المواجهات على مقلبيْ الحدود لن يَخرج عن الحدود المرسومة لاعتباراتٍ ثابتة، تبدأ:
– من قرار إيراني، جرى التعبير عن حيثياته بلسان أكثر من مسؤول وآخِرهم العضو البارز في مجمع تشخيص مصلحة النظام غلام علي حداد عادل، الذي قال «إن إيران رفضتْ المشاركة في حرب غزة لتجنُّب الحرب مع الولايات المتحدة».
– واستطراداً امتناع «حزب الله» عن أي عمل يكون فيه المبادِر لكسْر الخطوط الحمر واكتفائه بمحاولة ترسيم قواعد الاشتباك على نحو يومي بما ينسجم مع وقائع الميدان وسلوك اسرائيل تجاهه بما في ذلك داخل سورية.
– وصولاً إلى ثبات عدم الرغبة الأميركية في اتساع رقعة الحرب، وحرص واشنطن على ردع «حزب الله» وإيران، سواء بديبلوماسية الأساطيل وحاملات الطائرات أو «الهاتف الأحمر»، وهو ما جَعَلها قبل أيام تشكّل ما يشبه «خلية طوارئ» اندفعت لتواصل على عَجَل مع مسؤولين كبار في بيروت للاستفسار عن أبعاد الخشونة الزائدة من «حزب الله» تجاه اسرائيل غداة مقتل 7 من عناصره بغارة في سورية، وإذا كان ذلك في إطار معاودة تثبيت قواعد الاشتباك أو يعبّر عن نية حربية، وحين أتاه الجواب بأن لا قرار بدخول الحرب تولّت لجْم خياراتٍ اسرائيلية كانت وُضعت على الطاولة وأُبلغت بها واشنطن وانطوتْ على سيناريوهات عدوانية موسّعة.
وفي حين استوقف دوائر متابعة ارتفاع منسوب الانتقادات في وسائل إعلام أميركية بارزة، وأبرزها «سي ان ان»، لبنيامين نتنياهو وحكومته على خلفية مجمل أدائه لاسيما في الضفة الغربية «والذي سيعود لينفجر في وجهنا ويجعل حل الدولتين مستحيلاً»، ما يؤشر إلى أن «إطلاقَ يد» تل أبيب في غزة والذي تحوّل غطاءً لتمرير مخطط خبيث في الضفة بدأ يتحوّل عنصراً ضاغطاً أكثر على الإدارة الأميركية لفرْملة نتنياهو ومساره التدميري لأي حل سياسي، فإن أوساطاً أخرى لم تُسقِط بالكامل احتمالات مفاجأةٍ ما قد تطلّ على الجبهة اللبنانية المشتعلة حالياً ولكن بـ «أعواد ثقاب» محسوبة حتى الساعة.
وتخشى هذه الأوساط، وكما في كل حرب مفتوحة تتطور ديناميتها الميدانية على مدار الساعة، ليس أن يؤدي خطأ غير محسوب إلى فتْح جبهة جنوب لبنان، ما دام طرفاها ملتزمان قرار «ضبط النفس» و«يَفهمان تماماً على بعضهما البعض» في حدود العمليات «المقبولة» والردود «المسموحة»، بل الخشية أن يبلغ الجنون الاسرائيلي حدّ تَجاوُز واشنطن وعدم إبلاغها مسبقاً بأي خيار حربي تجاه لبنان، على قاعدة محاولة فرْض أمر واقع عليها وإطلاق عملية «إزالة خطر حزب الله» من ضمن المسار نفسه المعتمَد مع «حماس» فيكون أي مرتكز سياسي لإنهاء المعارك «موْصولاً» بالحزب ووجوده جنوب الليطاني.
ولم تحجب هذه القراءات الوقائع الميدانية التي انطبعت بقصف الجيش الاسرائيلي شريطاً واسعاً من القرى الحدودية، من أطراف رأس الناقورة ومحيطها وجبل اللبونة وأطراف بلدتي مجدل زون والناقورة، إلى قرى شمع، طيرحرفا، علما الشعب، عيتا الشعب ورامية ودبل، مروراً بأطراف المنصوري والجبين، وشيحين وغرب تل نحاس وخراج دير ميماس منطقة الخرايب، وتلة حمامص ووطى الخيام وديرميماس حرش هورا، والمناطق السكنية في محيبيب ومركبا وكفركلا.
في المقابل، أعلن «حزب الله» تنفيذ سلسلة عمليات «أوقعت إصابات مؤكدة في صفوف العدو» وأبرزها ضد «تجمع لجنود الاحتلال الإسرائيلي في خلة وردة»، و«مقر القيادة العسكرية المستحدث في وادي سعسع بالنيران الصاروخية»، وموقع الراهب، و«تجمعاً لجنود الاحتلال الإسرائيلي في حرج شتولا»، وموقع بياض بليدا، وثكنة راميم (قرية هونين اللبنانية المحتلة) «بالصواريخ والقذائف المدفعية».
وكان الحزب أعلن أنه «دعماً لشعبنا الفلسطيني الصامد في قطاع غزة وتأييداً لمقاومته الباسلة والشريفة… تعلن المقاومة الاسلامية إسقاط طائرة إسرائيلية معادية نوع هيرميز 450 وهي طائرة مسيرة قتالية متعددة المهام بواسطة صاروخ أرض جو أطلقه مجاهدوها عند الساعة 1:45 فجر السبت. وقد شوهد حطامها يتساقط فوق منطقة أصبع الجليل».
في موازاة ذلك، أعلن رئيس المجلس التنفيذي في «حزب الله» هاشم صفي الدين، أنه «طالما هناك حرب على غزة وتهديد لأهلها وقتل للأطفال والنساء، فإن كل قوى المقاومة الشريفة في منطقتنا تبقى تضغط على الإسرائيلي بأي وسيلة، وهذا لن يتوقف، ولا مجال اليوم للتحدّث عن وقف جبهة دون جبهة، وعن وقف ضغط مع إعطاء الإسرائيلي كامل الحرية في القتل واستهداف غزة، وبالتالي، فإن الضغط المستمر من أطراف المقاومة في منطقتنا على الإسرائيلي والأميركي، هو في الحقيقة قوة إضافية لكل محور المقاومة».