لم يهدئ الخفوتُ النسبي للمواجهات على جبهة جنوب لبنان في اليومين الماضييْن، المخاوفَ من أن الأمر مجرّد «استراحة مُحارِب» وسط بقاء طرفيْها، اسرائيل و«حزب الله» على أعلى جهوزيةٍ، الأولى لتنفيذ تهديداتها بحربٍ أوسع يتبدّل فيها «العنوان» وليس «الأهداف» ومع ترسيمٍ لنطاقها الجغرافي الأشدّ التهاباً وخفْضٍ لسقْف ما يُراد تحقيقُه ضمن لائحةِ «شطْب مصادر الخطر»، والثاني لرفْع قدراتِ الصدّ لأي اعتداءٍ كاسِر بالكامل لقواعد «لعبة النار» المفتوحة منذ 8 اكتوبر الماضي ومع تلويحٍ بردعٍ أخطبوطي متعدّد الأذرع والساحات تُرسى ركائزُه أيضاً بأزاء أي اجتياحٍ لرفح.
ولعلّ أكثر معالم «التراجيديا» اللبنانية تتجلّى، وفق أوساط مطلعة، في أنه ورغم المفترق الخطير الذي تقف أمامه البلاد وقد ينعطف معه واقعها، حاضراً ومستقبلاً، نحو آفاق بالغة القتامة، فإن السلطات الرسمية تمعن في سياسة «النعامة»، ليس لتفقُّد أحوال شعبها الذي يتنقّل من حفرة إلى أخرى أكثر عمقاً، بل هرباً من مسؤولياتها في محاولة لجْم اقتياد لبنان برمّته إلى أهوال يُخشى أن تكون مميتةً في ضوء ما يترتّب على تحويله ما يشبه «دولة للإيجار» من فصائل ومجموعاتٍ غير لبنانية من «محور الممانعة» لا يكتفي بعضُها بالتحرّك عسكرياً ضدّ اسرائيل عبر الجنوب بل تَعقد اجتماعاتٍ لتنسيق آلياتٍ لتفعيل أكبر للتكامل بينها تحت عنوان «وحدة الساحات» وتوسيع دائرة المواجهات والربْط مع أي جولات تصعيدٍ من تل أبيب.
ففي حين كان أصدقاء لبنان في العالم، لاسيما المنضوين في «مجموعة الخمس» (تضم الولايات المتحدة، السعودية، فرنسا، مصر وقطر)، يَمْضون أمس في مساعيهم الرامية إلى تهيئة الأرضية داخلياً لملاقاةِ أي هدنةٍ في غزة باختراقٍ في الأزمة الرئاسية المستعصية مع حضٍّ على تجنيب البلاد أن تحترق بنار الحرب في القطاع، أدارتْ السلطاتُ في بيروت الأذن الصماء لِما كُشف عن اجتماع عُقد الأسبوع الماضي في العاصمة اللبنانية بين قادة كبار من «حماس» و«الجهاد الإسلامي» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» والحوثيين اليمنيين لمناقشة «آليات التنسيق في شأن أعمال المقاومة في المرحلة المقبلة».
واستوقف الأوساط المطلعة ما نُقل عن مضمون الاجتماع سواء بلسان مسؤولٍ حوثي وقوله إنه ناقش «توسيع دائرة المواجهات ومحاصرة الكيان الاسرائيلي وفق ما أعلنه عبدالملك الحوثي» الخميس الماضي، أو عبر مصدر فلسطيني أشار إلى أن اللقاء بحث أيضاً «تكاملية دور أنصار الله مع الفصائل الفلسطينية، خصوصاً مع احتمال اجتياح إسرائيل لرفح»، مشيرة إلى أن هذا الأمر لا يمكن فصْله عن تهديدات اسرائيل ليس فقط لرفح بل أيضاً للبنان و«حزب الله» تحت عنوان «الكيل طفح» ولن يبقى الوضع على حدودها الشمالية على حاله.
وإذ جاء هذا الاجتماع بعد فترة غير بعيدة على زيارة قائد «فيلق القدس» الإيراني إسماعيل قاآني لبيروت حيث بحث مع الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله في المَخاطر التي قد تنشأ إذا استهدفت إسرائيل الحزب وشنّت هجوماً شاملاً على لبنان وخلص إلى أن طهران ستنأى بنفسها عن مثل هذه الحرب وأن الحزب سيخوضها على قاعدة «هذه معركتنا»، فإن الأوساط المطلعة تعاطت مع تداعي الحوثيين والفصائل الفلسطينية المحسوبة على «الممانعة» لاجتماع في لبنان على أنه يحمل أكثر من رسالةٍ (إلى جانب الاجتياح المحتمل لرفح) لا يغيب عنها «حزب الله»، وإن لم يكن في واجهتها.
ووفق الأوساط عيْنها فإن أبرز الرسائل تتمثل في أن المواجهة الكبرى مع «حزب الله»، إذا أرادتْها تل ابيب، لن يكون فيها لوحده بل إن الضغط على زرّ التفجير الكبير سيفعّل مختلف ساحات «المحور»، وبينها أيضاً في العراق، وكأن الحزب بدوره يحاول تجنُّب «الكأس المُرّة» بتشارُكها مع الأذرع الحليفة لتخفيف الضغط العسكري المرتقب و«توزيعه»، وربما السعي لـ «توازن رعب» علّه يدفع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لإعادة حساباته.
ولم يكن عابراً بحسب هذه الأوساط، أنه فيما يؤكد نتنياهو أن اجتياح رفح حتميّ وليس إلا مسألة أسابيع (تلي انتهاء رمضان المبارك) في ما يبدو دعوة لـ «حماس» لرفْض أي هدنة لن تكون إلا «شراء وقت» لمعاودة الانقضاض الأكر توحشاً، فإن مسؤولين اسرائيليين كانوا يجزمون «بأننا نقترب باستمرار من الحرب مع«حزب الله»وسيتحمل لبنان عواقبها»، كما أعلن وزير الخارجية يسرائيل كاتس، فيما نقلت قناة «العربية» عن مصدر إسرائيلي انه «في حال وقوع حرب مع لبنان لدينا بنك أهداف بعمق 5 كلم لم نستهدفها بعد وسندمّرها» وأن نشوب الحرب على الجبهة الشمالية «سيكون مع دولة لبنان وليس حزب الله»، على وقع استطلاع جديد نشرت نتائجه صحيفة «جيروزاليم بوست» ومفاده بأنّ ثلثي الإسرائيليين يعتقدون أن الجيش الإسرائيلي «يجب أن يهاجم حزب الله بكل قوة».
مكرم رباح
وفي موازاة هذه المخاطر التي تلامس «الوجودية»، ثمة مَن وجد في بيروت فرصةً لاستعادة ممارسات تعبّر عن أبعاد مثيرة للقلق عبر محاولاتِ التضييق الإضافي على الحريات وخنْق أصوات تعترض على «حزب الله» واقتياده لبنان إلى الحرب، وفق ما يؤشر إليه استدعاء الباحث الأكاديمي والدكتور المحاضر في الجامعة الأميركية في بيروت والكاتب السياسي الزميل مكرم رباح تحت عنوان «ضرورة الحضور إلى دائرة التحقيق الأمني في الأمن العام»، وهو ما ردّ عليه الأخير متهكماً «ربما يحبّون أن يعرفوا مني عن اجتماع محور المشاغلة والمقاومة الذي حصل في بيروت الاسبوع الماضي».
وبلغ الأمر بمفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية فادي عقيقي، الذي كان وجّه إشارة قضائية إلى الأمن العام باستدعاء رباح على خلفية تصريحات كان ادلى بها في مقابلة تلفزيونية ضد «حزب الله»، أن وَضَع الأكاديمي رهْن الاحتجاز بعدما رفض تسليم هاتفه قبل أن يتركه رهن التحقيق.
سفراء «الخماسية»
ولم يحجب هذا الصخب، الاهتمامَ باستئناف سفراء «مجموعة الخمس» حول لبنان لقاءاتهم مع كبار المسؤولين والقادة السياسيين، وهم زاروا أمس مرة جديدة رئيس مجلس النواب نبيه بري، قبل أن يجتمعوا بالبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، على أن تشمل لقاءاتهم اليوم الرئيس السابق للجمهورية ميشال عون ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي سابقاً وليد جنبلاط.
وبدا واضحاً أن الخماسية في حِراكها تدرك صعوبةَ تحقيق انفراج في الأزمة الرئاسية قبل انقشاع الرؤية حيال حرب غزة و«أخواتها» لاسيما الأفق على الجبهة اللبنانية، وسط اقتناعٍ بأن دور المجموعة في «الوقت الضائع» هو إرساء ما يشبه «الرسم التشبيهي» للمَخرج حين تدقّ ساعته، بتوقيتٍ يُراد اقتناصه من فم أي هدنة في غزة، وأن الخماسية تريد من حركتها الدائمة رفْد التوازن السلبي في البرلمان (مع محور الممانعة) بعناصر دعم خارجي باتت واقعياً معطى لن يكون ممكناً القفز فوقه في أي تسوية رئاسية غير ممكنة إلا بمواءمةٍ بين «مَن يسمّي ومَنْ بيده الفيتو» ودائماً على قاعدة لا مكان لمرشحي الاستقطاب أو اللون الواحد ولا حتى لأسماء يتم رميها للمناورة أو لحرقها.