سلسلة من الانفجارات المتزامنة اجتاحت مناطق متفرقة في لبنان، لتضرب معاقل حزب الله بشكل مفاجئ، تاركة خلفها صدى مدويا تردد في أرجاء العالم، وأسئلة وتكهنات عما يجري خلف الكواليس في هذا التصعيد الجديد.
ومما جعل المشهد أكثر غموضا وإثارة للقلق أن هذه الانفجارات لم تكن نتيجة قصف جوي أو صاروخي، بل من أجهزة اتصال خاصة تسمى “بيجر” يحملها مقاتلو حزب الله، ما أسفر عن مقتل 9 أشخاص على الأقل وإصابة نحو 2800 آخرين بجروح متفاوتة الخطورة.
ماذا حدث؟
اندلعت الانفجارات في عدة مواقع رئيسية تعد معاقل لحزب الله، بما في ذلك الضاحية الجنوبية لبيروت، ومناطق جنوب لبنان، والبقاع الشرقي.
المشاهد التي وثقتها بعض كاميرات المراقبة والهواتف النقالة كانت صادمة، فسيارات الإسعاف ملأت الشوارع، بينما انتشر الهلع بين السكان الذين لم يعرفوا سبب ما حصل في ساعاته الأولى.
وزارة الصحة اللبنانية سارعت للإعلان عن حالة الطوارئ، مطالبة جميع المستشفيات بالاستنفار الكامل، في ظل توافد أعداد كبيرة من الجرحى إلى المرافق الطبية في مختلف المناطق.
وأكدت مصادر أن الأجهزة التي انفجرت هي أجهزة الاتصال التي يعتمد عليها عناصر حزب الله في التواصل الميداني بعيدا عن الأجهزة المحمولة التي قد تكون عرضة للاختراق الإسرائيلي.
حزب الله، الذي يعتبر من أقوى الفصائل المسلحة في المنطقة، والمدعوم من إيران، اضطر منذ فترة لتطوير منظومة اتصالاته الخاصة بعد عدة اختراقات سابقة اتهم فيها الموساد الإسرائيلي.
اختراق أمني أم عمل عسكري؟
مصدر مقرب من حزب الله وصف الانفجارات بأنها “اختراق إسرائيلي واضح”، وأشار إلى أن هذا الهجوم يعد الأول من نوعه في تاريخ المواجهات بين الحزب وإسرائيل.
هذا التصريح جاء بعد تحليل أولي للحادث، إذ يعتقد أن إسرائيل تمكنت من التسلل إلى سلسلة توريد أجهزة الاتصال، و”زرعت متفجرات داخلها”، لتفجيرها عن بعد في توقيت متزامن.
ويقول المحلل الأمني، إيليا مانييه، في تصريحات لـ”وكالة فرانس برس” أن هذه العملية تعتبر “خللا أمنيا كبيرا” في إجراءات الحزب، فقد تم استهداف الأجهزة عبر إدخال متفجرات متناهية الصغر داخلها، وتفجيرها بوسائل تقنية متقدمة. وأضاف أن الهجوم تم الإعداد له على مدى شهور، وربما سنوات، مما يعكس تعقيد العملية ودقتها.
ردود الفعل
وتوالت ردود الفعل على المستويين المحلي والدولي. وحميل حزب الله، في بيان، إسرائيل “المسؤولية الكاملة” عن الهجوم، متوعدا بالرد. وجاء في البيان أن الحزب سيقوم بـ “رد مناسب في الوقت والمكان المناسبين، وأن هذه العملية لن تمر دون حساب”.
في السياق ذاته، أدانت إيران الهجوم بشدة، إذ أصيب سفيرها في لبنان، مجتبى أماني، بجروح طفيفة في الانفجارات.
وزارة الخارجية الإيرانية وصفت الحادث بـ”العمل الإرهابي الذي يستهدف زعزعة الاستقرار في المنطقة”.
وحضت الولايات المتحدة، من جانبها، إيران على ضبط النفس وتجنب أي تصعيد إضافي قد يؤدي إلى اندلاع نزاع إقليمي أوسع.
كيف نفذت العملية؟
بحسب تحقيقات أولية، يبدو أن الهجوم تم تنفيذه عبر اختراق سلسلة توريد أجهزة الاتصال الخاصة بحزب الله.
وأشارت تقارير إلى أن الأجهزة وصلت مؤخرا عبر شحنة تحتوي على نحو 1000 جهاز، تمت زراعتها بمتفجرات دقيقة.
وفي تحليل نشره الخبير الأمني والمحلل السابق لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، مايك ديمينو، أشار إلى أن العملاء تمكنوا من التسلل إلى نظام التوريد وإضافة المتفجرات إلى الأجهزة من دون إثارة الشبهات.
منصة “أكس” (تويتر سابقا) شهدت تعليقات وتحليلات من خبراء عسكريين أكدوا أن العملية تشير إلى تخطيط مسبق، إذ تم استخدام مواد وتقنيات بسيطة ولكنها شديدة الفعالية لتنفيذ الهجوم.
ويقول، تشارلز ليستر الخبير لدى معهد الشرق الأوسط (MEI)، إنه “وفقا لتسجيلات الفيديو، من المؤكد أنه تم إخفاء عبوة بلاستيكية متفجرة صغيرة بجانب بطارية يتم تشغيلها من بعد عن طريق إرسال رسالة”.
وهذا يعني في رأيه أن “جهاز الموساد (الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية المسؤولة عن العمليات الخاصة) اخترق سلسلة التوريد”.
ويقول إن “المثير للدهشة أن إسرائيل استخدمت أجهزة قديمة نسبيا كوسيلة لتنفيذ هذا الهجوم، ما يعكس احترافية وكفاءة عالية في تنفيذ العمليات الاستخباراتية”.
في المستشفيات.. فوضى وألم
على الأرض، كانت الفوضى تعم المستشفيات، وشهدت الضاحية الجنوبية لبيروت ومستشفيات البقاع والجنوبي اكتظاظا غير مسبوق بالجرحى.
في أحد المستشفيات، أفاد مراسل “فرانس برس” بمشاهد مروعة، حيث اكتظت بمصابين يتلقون العلاج في مواقف السيارات بسبب عدم توافر أماكن كافية، والنقالات ملطخة بالدماء، بينما يتسابق المتطوعون للتبرع بالدم في خيام تم نصبها على عجل.
وفي شوارع بيروت وصيدا، تجمعت عائلات الجرحى أمام المستشفيات، بعضهم يبكون بحرقة على فقدان أقاربهم، وآخرون يصرخون غضبا في وجه السلطات، متهمينها بالتقصير في حماية مواطنيها.
امرأة بكت بحرقة بعد أن أبلغت بأن يد قريب لها بترت جراء الانفجار، فيما انتظر آخرون أخبارا عن ذويهم الذين ما زالوا في غرف العمليات.
مخاوف من تصعيد إقليمي
ومع تصاعد التوتر بين حزب الله وإسرائيل، حذرت الأمم المتحدة من أن هذه الحادثة قد تكون شرارة لتصعيد إقليمي أكبر.
ووصفت المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان، جينين هينيس بلاسخارت، الانفجارات بـ “التصعيد المقلق للغاية” في ظل الأوضاع القابلة للاشتعال في المنطقة.
وطالبت جميع الأطراف المعنية بالامتناع عن أي تصعيد إضافي، محذرة من أن المنطقة لا تستطيع تحمل نشوب نزاع أوسع.
على الجانب الآخر، لم تصدر إسرائيل بيانا رسميا تعترف فيه بمسؤوليتها عن الهجوم، ولكن وسائل الإعلام الإسرائيلية أكدت على أن الجيش الإسرائيلي في حالة استنفار قصوى على كافة الجبهات.
وخلال اجتماع رفيع المستوى، أكد قادة الجيش الإسرائيلي على ضرورة “الحفاظ على اليقظة” والتأهب لأي تطورات جديدة قد تشعل الحدود بين لبنان وإسرائيل.
تداعيات
امتدت آثار الانفجارات لتشمل حركة الطيران.
فقد أعلنت شركة “لوفتهانزا” الألمانية تعليق جميع رحلاتها إلى كل من بيروت وتل أبيب حتى الخميس على الأقل، نظرا للتغيرات الأمنية المفاجئة في المنطقة.
واتخذت الخطوط الجوية الفرنسية (إير فرانس) قرارا مماثلًا، وقالت إن استئناف الرحلات سيخضع لتقييم يومي للوضع الأمني.
هل يدخل الصراع مرحلة جديدة؟
ومع احتدام الصراع بين حزب الله وإسرائيل، يبدو أن هذه الانفجارات قد تمثل نقطة تحول خطيرة في مسار الأحداث.
وهذا الهجوم يعد أكبر اختراق أمني تعرض له حزب الله منذ اندلاع الاشتباكات بينه وبين إسرائيل في أكتوبر 2023.
ومع تلويح الحزب بالرد، تظل الأنظار متجهة إلى الحدود الجنوبية للبنان، حيث تزداد المخاوف من اندلاع حرب شاملة بين الطرفين، تكون تداعياتها كارثية على المنطقة برمتها.
وتأتي هذه الأحداث في وقت يشهد فيه الشرق الأوسط حالة من التوتر المتزايد، مع استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتزايد التوترات بين إيران وإسرائيل. فهل ستكون هذه الانفجارات مجرد حلقة في سلسلة الصراع الطويلة بين حزب الله وإسرائيل، أم أنها تمهد الطريق لتصعيد جديد قد يغير ملامح المنطقة بالكامل؟ الأيام القادمة ستحمل الإجابة.