بعدما انتهى الحصادُ السياسي للجولة 12 من الانتخابات الرئاسية وما شهدتْه من مواجهة هي الأولى بين مرشحيْ اصطفافيْن، أحدهما عميقٌ وراسِخ بأفرقائه المتجانسين تحت قيادة ناظِم رئيسي هو «حزب الله» والثاني بدا «موسميّاً» وقام على تقاطُع ظرفي بين غالبية المعارضة و«التيار الوطني الحر»، لم تنقشع الرؤية تماماً في بيروت حيال المرحلة المقبلة وسط انطباعٍ بأن الديناميةَ الداخليةَ باتتْ عاجزةً بالكامل عن اجتراحِ أي مَخارج من دون «إسنادٍ» خارجي لم تتبلْور ملامحه بعد وربما لا تتوافر ظروفه قريباً، ما يترك الأزمةَ اللبنانيةَ مفتوحةً على المزيد من مناوراتِ الوقت الضائع وألاعيبه وبالوناته الاختبارية.
ولم يكن عابراً أن تشهد بيروت على مرمى أيام قليلة من وصول وزير الخارجية الفرنسي السابق جان – ايف لودريان إليها لتدشين مهمته كموفد شخصي للرئيس ايمانويل ماكرون مكلّفٌ متابعة الملف اللبناني والمأزق الرئاسي، توسيعاً لـ «بيكار» الأزمة من فريق «الممانعة» على خطيْن:
الأوّل الإيحاء بأن المطاحنة الرئاسية لامستْ «الخطوط الحمر» وبأن البلاد نجت من أزمة كبرى كان سيشكّلها «مخطط الـ 67 صوتاً» التي أريد أن ينالها مرشح تقاطُع المعارضة – التيار الحر، جهاد أزعور في الدورة الأولى من جلسة الأربعاء فيبقى داعموه في القاعة على قاعدة أنه بات هناك رئيس (ضغطاً لعقد الدورة الثانية التي يتطلب لفوز أي اسمٍ فيها النصف زائد واحد أي 65 مقابل 86 في الدورة الأولى).
– والثاني التلويح بفتْح الأزمة على تعقيداتٍ أكبر عبر مباغتة الجميع بطرْحِ إجراء انتخابات نيابية مبكّرة، وهو ما تولّى نائب رئيس البرلمان الياس بوصعب «إشعال شرارته»، أول من أمس بعد لقاء رئيس البرلمان نبيه بري «الذي سمع الكلام ولم يعترض، وقال دعْنا نرى إذا حدثت متغيرات الأسبوع المقبل».
ورأت أوساط سياسية أن «الممانعةَ» في لبنان، بانتقالها من الدفاع الى الهجوم، تحاول استباقَ تفعيل المسار الخارجي للأزمة الرئاسية بترسيم حدودِ التراجعات الممكنة، وذلك بعد ما أفرزتْه جلسةُ الأربعاء من تظهير وجود 77 صوتاً رافضاً لخيار مرشّحها سليمان فرنجية (بينها 59 انتخبوا أزعور)، وما أوْحى به ذلك من بروز ميزان قوى جديد داخل البرلمان بعكس ما يشتهيه «حزب الله»، ولو أن هذا الميزان وفّرت بلوغَه التقاءاتٌ «موْضعية» بين أضداد تَقاطعوا رئاسياً على قطع ورقة لزعيم «المردة» الذي نال 51 صوتاً رغم كل الإحاطة المباشرة من الحزب وبري بـ «السكور» الذي «بُنيَ» له صوتاً صوتاً وفق هنْدسة رقمية «دقيقة» ضمنت قفز نتيجته فوق الخمسين وإنزال رقم أزعور إلى تحت الستين.
ولعل أكثر المعنيين بما يشبه «أمر اليوم» من فريق الممانعة، الذي يخيِّر الداخل والخارج بين إما الحوار بلا شروط مع إبقاء خيار فرنجية بقوة على الطاولة كمرشّح واحد ووحيد له حتى الساعة وإما تفلُّت الوضع اللبناني من الضوابط بحال أي خطأ في التقدير أو جنوح نحو رئيس «من جناح واحد»، هي باريس التي أوحت من خلال تبديل قيادة خلية الأزمة المعنية بالملف اللبناني بأنها اقتنعت بعدم جدوى ان تكون «عرّابة» ترشيح زعيم «المردة» في ضوء «انتفاضة الرفض» المسيحية العارمة، قبل أن تأتي نتيجة جلسة الأربعاء لتفرمل «عربةَ فرنجية» الرئاسية وتؤكد شبه استحالة انتخابه.
وفيما لم يكن ممكناً أمس تَلَمُّس كل خلاصاتِ أو الترجمات المحتملة للموقف الذي صدر عن القمة الفرنسية – السعودية بين ماكرون وولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان في باريس والذي أكد «ضرورة وضع حد سريع للفراغ السياسي المؤسساتي في لبنان»، وفق ما أعلن الاليزيه، مع تشديدٍ على أن عدم انتخاب رئيس منذ ثمانية أشهر «يبقى العائق الرئيسي أمام معالجة الأزمة الاجتماعية الاقتصادية الحادة التي يعانيها لبنان»، فإن مصادر سياسية استبعدتْ أن تكون الرياض خرجتْ عن ثوابتها في ما خص الملف اللبناني بكليّته كما بجزئيّته المتصلة بالانتخابات الرئاسية والتي تبتعد فيها عن أفخاخ التسميات، مكتفيةً بتحديد إطارٍ عام يقوم على أن هذا شأن سياديّ لبنانيّ، وأن اللبنانيين يعرفون ما الذي يتعيّن أن يقوموا به ليساعدوا أنفسهم كي يساعدهم الآخَرون.
وفي حين كانت الأنظار إقليمياً على زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان لطهران تحت عنوان «تحقيق الأمن والسلام في المنطقة» في ظلّ رهاناتٍ متجدّدة ومبالَغ فيها على انعكاساتٍ للتقارب السعودي – الإيراني على الملف الرئاسي وبما يشكل التفافاً على التوازنات السياسية – النيابية، فإن الترقُّبَ ساد لوصول لودريان، الذي لا يرتاح إليه فريق الممانعة ولا سيما «حزب الله»، إلى بيروت منتصف الأسبوع الطالع وسط ترقُّب لِما سيحمله وهل سيكتفي بجولة استطلاعِ آراء أم سيحمل مبادرةً محدَّدة، وهل ستكرّس هذه المبادرة طيّ صفحة فرنجية وبأي «تخريجة».
وفي هذا الوقت فإن طَرْحَ الانتخاباتِ المبكرة ملأ استراحةَ ما بين مَفاعيل جلسة الأربعاء ووصول موفد ماكرون الأربعاء المقبل مبدئياً، وسط التعاطي مع هذا الطرح على أنه لا يعدو كونه «قنبلة صوتية» مدجَّجة برسائل في أكثر من اتجاه:
– الأول خصوم «حزب الله» في المعارضة، عبر التلويح بـ «اقتياد» الجميع إلى الحوار ولو «على جثة البرلمان» الحالي، وهي رسالة سياسية أكثر منها عمليّة، في ظلّ عدم إمكان توافر نصاب سياسي وعددي لانتخابات مبكرة، لا طريق إليها أصلاً إلا بموافقة النصف زائد واحد من البرلمان على تقصير ولايته (تعديل المادة في قانون الانتخاب التي حددت ولايته بأربع سنوات)، أو بحلِّ مجلس النواب المحدَّد دستورياً بثلاث حالات «شبه مستحيلة» (رفض المجلس التصويت على الموازنة العامة وإقرارها بقصد شلّ الحكومة، عدم الاجتماع خلال عقد عادي كامل أو عقدين استثنائيين متواليين، وإذا أصرت الحكومة على رفض اقتراح قانون بتعديل الدستور) وكلها تستوجب وجود رئيس للجمهورية كون طلب الحلّ يمرّ عبره إلى مجلس الوزراء.
– والثاني رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، الحليف السابق لـ «حزب الله» الذي افترق عنه رئاسياً واعتُبر تأييده أزعور بمثابة لجوء إلى «سلاح محرّم» بوجه الحزب، بأن «رقبته السياسية» بيد الممانعة التي وفّرت له دعماً أتاح تكبير كتلته «الحقيقية» بنحو 6 نواب سيخسرهم في أي انتخابات نيابية جديدة يخوضها خارج التحالف مع الثنائي الشيعي. علماً أن هذا الطرح جرت مقابلته بأجواء لوّحت بأن أي محاولة للذهاب نحو تحالف رباعي جديد قد يُردّ عليه بمدّ التقاطع الرئاسي مع الأحزاب المسيحية في المعارضة إلى أي استحقاق نيابي.
وبدا هزّ «عصا» الانتخابات المبكرة، الذي أخرجه وللمفارقة إلى الضوء عضوٌ في تكتل باسيل (بو صعب) يزيد من تغريده خارج سرب التكتل (هو جاهر بأنه لم يصوّت لأزعور)، بمثابة دعوة لباسيل لتهدئة اندفاعته الرئاسية وملاقاة دعوة بري للحوار مع إسقاطِ شرْط إخراج فرنجية من لائحة الأسماء القابلة للتداول.
وكان لافتاً أمس موقف للنائب سليم عون (من كتلة باسيل) اعتبر فيه أن الانتخابات المبكرة «لن تغيّر شيئاً»، معتبراً في موقف لم يُفهم إذا كان تخلياً عن دعم أزعور أن «وصول أي من المرشّحيْن جهاد أزعور أو سليمان فرنجية الى سدة الرئاسة لن يؤدي إلى إنقاذ البلاد، لأن أياً منهما لن يتمكن من النجاح في ولايته في ظل محاربة خصومه له»، داعياً جميع الأفرقاء الى إعادة حساباتهم.
وأوضح أن التيار الوطني الحر مع الحوار في سبيل انجاز الاستحقاق، «إلا أن حزب الله هو مَن أصر على ترشيح فرنجية، لذا اتجه التيار نحو خيار آخَر يستطيع من خلاله تأمين أكبر عدد من الأصوات»، لافتاً إلى «أن لا مصلحة للحزب بالتقاتل مع التيار، كما وان ذلك ينطبق على التيار».
في موازاة ذلك، برز موقف للبطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الذي أعلن في اختتام سينودس أساقفة الكنيسة المارونية أنّه «في موضوع رئاسة الجمهوريّة لا نُفضّل أحداً على أحدٍ بل نأمل وصول رئيس يكون على مستوى التحديات».
وأضاف «فيما شعبنا يعيش مأساته الاقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة والاجتماعيّة، جاءت جلسة انتخاب رئيس للجمهوريّة الأربعاء الماضي بكيفيّة وقفها عن مجراها الدستوريّ والديموقراطيّ، لتزيده وتزيدنا ألماً معنويّاً، وتجرحنا في كرامتنا الوطنيّة، وتخجلنا بوصمة عار على جبيننا أمام الرأي العام العالميّ، لا سيما والجميع يتطلّعون إلى لبنان بأمل انتخاب الرئيس كي يتمكّن من الخروج من أزماته».
الكنيسة المارونية: لبنان يعاني أزمة مصيرية
أكد سينودس أساقفة الكنيسة المارونية «ان لبنان اليوم يعاني أزمة مصيرية تكمن عقدتُها الكبرى في الاستهتار المتمادي عند البعض بوجوب إتمام استحقاق انتخاب رئيس الجمهورية يتبعه تشكيلُ حكومة تضع في أولوياتها تنفيذَ الإصلاحات الملحة».
وجاء هذا الموقف في ختام أعمال السينودس الذي انعقد في بكركي بدعوة من البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، إذ قال المجتمعون: «إن تراكم الأحداث في لبنان والأخطاء السياسية والجرائم المالية والتمادي في سياسة الفساد خلال العقود الثلاثة الأخيرة أدّى إلى تهالك الأخلاق والقيم على صعيد الحياة الاجتماعية والسياسية والإعلامية، وإلى تفكك الدولة على صعيد سلطاتها ومؤسساتها وإداراتها حيث تمكّنت طبقة سياسية غالباً ما تقوم على الزعاماتية الزبائنية من وضع يدها على الدولة اللبنانية مسخّرةً مؤسساتِها ومقدراتها لمصالحها الخاصة ولو على حساب الشأن العام وحقوق المواطنين. وأدى أيضاً إلى ارتفاع نسبة الهجرة لدى الشباب اللبناني وإلى الافتقار إلى فرص العمل وتثقيل المهجّرين السوريين الأعباء على خزينة الدولة وعلى المواطنين في سوق العمل والهدر الخدماتي والتهديدات التربوية والأمنية والديموغرافية».
وأكدوا «التأييد الكامل لمواقف البطريرك الراعي الذي يقوم بالمساعي الحثيثة لتعميق التفاهمات بين جميع اللبنانيين. وقد أكدت هذا المساعي من جديد دور البطريرك المؤتمن التاريخي على كيان لبنان ووحدة أبنائه وعلى دور بكركي التي كانت وستبقى داراً للتلاقي والحوار بين كل الأطراف اللبنانيين. ويدعونه إلى متابعة هذه المساعي لجمع اللبنانيين وإقامة الحوار في ما بينهم، حوار المحبة في الحقيقة، لأن هذا الحوار بات ضرورياً من أجل قراءة نقدية لأحداث الماضي وتنقية الذاكرة وفتح الطريق أمام المصالحة الشاملة».
وشددوا «على تمسّكهم بالثوابت الوطنية، أي العيش المشترك والميثاق الوطني والدستور والصيغة التشاركية بين المكوّنات اللبنانية في النظام السياسي وتطبيقها بشكل سليم. فيعملون معاً على بناء دولة حديثة بكل مقوماتها، أي دولة وطنية لبنانية جامعة، دولة قانون وعدالة، دولة مشاركة، ودولة مواطنة يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات، دولة تحترم تنوّع الانتماءات الدينية تحت سقف الانتماء الوطني والولاء للوطن، كما كان يردّد البطريرك الياس الحويك».