تنتشر في محيط الكليات والجامعات في لبنان مكاتب الخدمات الجامعية، تحدد تلك المكاتب مهماتها بتأمين المقررات الجامعية وطباعة الأبحاث وخدمات مختلفة. كما تستعين بخبراء يؤمنون الشروط الشكلية للرسائل، ومهمات التجليد وطباعة الأطروحات وغيرها. أخيراً ظهر منافس جدي لها يتمثل بمؤسسات تنشط عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تساعد في إعداد خطط البحث وكتابة رسائل الماجستير. يستقبل هؤلاء عشرات من طالبي الخدمات، إذ تلجأ إليهم شرائح مختلفة من الطلاب والجامعيين. فهناك الطالب الذي لا يمتلك الوقت للدراسة وكتابة الأبحاث أو إعداد ملف الأعمال الموجهة. كما أن هناك الطالب الذي يعمل ويحتاج إلى الرتبة العلمية لتحسين وضعه الوظيفي. وبين هذا وذاك هناك طالب لا يمتلك الخبرة الكافية في مجال البحث العلمي ويحتاج إلى خطة محكمة للبحث لكي يوافق عليها الأستاذ المشرف، ومن ثم تسجيل رسالته في قائمة الأبحاث المقبولة في المرحلة الأخيرة من الماجستير.
يعبر أصحاب تلك الصفحات التي يقدم بعضها “الخدمات من بعد” عن استعدادهم لتقديم المساعدة المطلقة للطالب، من مرحلة اختيار الفكرة إلى وضع المخطط وتقييم مختصر للدراسات السابقة، وصولاً إلى التحرير العلمي وتوثيق المراجع. كما يدعي هؤلاء “تقديم تسهيلات” لعملائهم من الطلاب، على أن يتم الدفع عبر شركات تحويل الأموال بالدولار “الفريش”.
يتحدث طالب تعامل مع أحد مكاتب الخدمات البحثية، ويقول “هناك باحث محترف يتعامل معه زملاؤه في الكلية”، وهو “يدرك ما الشروط الشكلية والمضامين التي يفضلها كل أستاذ”، كما أنهم “يستفيدون من خبرته فهو مخضرم في مجال البحث العلمي، ويعرف مفاصل كل مادة، حتى أنه قادر على تسميع المقرر عن ظهر قلب”.
تبدأ تلك المكاتب على نطاق ضيق، ولكن سرعان ما تتسع مهماتها وتأثيراتها. وقد تكون إحدى الآثار المباشرة لها استسهال الطلاب والباحثين وتوفير الوقت والطاقة، فـ”لماذا التعب إذا وجد مساعد يقوم بالمهمات والوظائف في مقابل بدل”؟ كذلك هناك الكلفة الباهظة للمراجع العلمية الرصينة أو الأجنبية، والحصول عليها غير متيسر في ظل ظروف لبنان الراهنة. ولكن في المقابل يتسبب ذلك بنتائج كارثية، فهو يؤدي إلى ظهور متخرجين أصحاب شهادات ورتب علمية عالية، ولكن منسوب التراكم الثقافي لديهم ضئيل للغاية. كذلك تراجع نموذج الباحث المتخصص والمتجذر في ميدانه، لمصلحة الأكاديمي صاحب الشهادة.
الرقابة المسبقة واللاحقة
تكافح الجامعة اللبنانية الرسمية للمحافظة على تشددها المعهود في اعتماد المعايير العلمية في قبول الرسائل والأطروحات. ويتطرق الدكتور عفيف عثمان (رئيس لجنة بحثية سابقاً) عن الضوابط المعتمدة لضمان أصالة الأبحاث العلمية في الجامعة الوطنية، التي تبدأ من مرحلة التدقيق في موضوع البحث، إذ يفترض فيه “الجدة” والحداثة في المعالجة. وكذلك الالتزام بالمعايير الخاصة بالبحث العلمي لجهة المصادر والمراجع والمنهج، مؤكداً وجود برامج للتحقق من السرقات مثل برنامج Turnitin الذي يدقق ضمن قاعدة البيانات المتوافرة باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية، للكشف عن المصادر غير المذكورة، كما ينبه إلى نسبة النسخ العالية، علماً أن الأطروحة لا تحول إلى القراء قبل المراجعة والتصحيح.
ينوه الدكتور عفيف عثمان إلى أن “البرامج تتحقق مما هو منشور على الشبكة، ولكن هناك خوف دائم من النقل عن كتب قديمة غير معروفة أو منتشرة”. وفي ظل عدم وجود القدرة لمنع السرقة بصورة نهائية يبقى التعويل على “الضمير” و”الوازع الأخلاقي”، لذلك يجزم عثمان أن “الضامن الأكبر هو الأستاذ المشرف ومدى متابعته الطالب لأن الأساس ثقافة المشرف الذي لديه القدرة على معرفة إذا ما كان النص مأخوذاً بالكامل عن باحث آخر”.
يوضح الدكتور عثمان “ليس ممنوعاً اقتباس كتابات سابقة، ولكننا أمام ما يشبه مقطوعة موسيقية حيث يسمح بأخذ بعض النوتات، ولكن النسخ المتمادي يحول دون أصالة المعالجة”، ملاحظاً “يكون هناك نقل كبير عندما يأخذ الباحث صفحة كاملة من أطروحة أخرى”، “وفي بعض المناقشات نصطدم بعدم وجود تنوع مراجع خلال معالجة الأطروحة”. كما يتوجس عثمان خيفة من أثر الذكاء الاصطناعي على أصالة البحث العلمي بشكل عام.
معايير التعليم العالي الخاص
خلال العقد الأخير أثير مراراً السؤال حول جودة البحث العلمي العالي في الجامعات الخاصة في لبنان. يتحول الملف إلى ملف رأي عام، ولكنه سرعان ما كان النقاش يخفت. يميز الدكتور مازن الخطيب (مدير التعليم العالي في لبنان) بين التعليم الرسمي والخاص. فيما يتعلق بالجامعة اللبنانية فهي تخضع لأنظمتها الخاصة وتتبع آليات حوكمة، وتسعى إلى اعتماد مؤسسي مع الهيئة الفرنسية Rceres.
ويلفت الخطيب أن بعض الجامعات الخاصة باشرت الحصول على اعتمادات من هيئات عالمية في الخارج، على المستويين: المؤسساتي الذي يرتبط بالحكومة وحسن الإدارة، والبرامجي المتصل بالمناهج التعليمية.
يؤكد الخطيب أن “مؤسسات التعليم الخاص الحريصة على سمعتها تسعى إلى تحسين مستواها”، منوهاً إلى “حرص وزارة التربية على تطبيق معايير جودة التعليم”. ويلفت إلى أن “الوزارة أعدت مشروع قانون في عام 2010 لإنشاء الهيئة الوطنية لضمان جودة التعليم”، أقرت الحكومة المشروع إلا أنه بلغ مجلس النواب، وما زال ينتظر إقراره منذ عام 2012.
يتطرق الخطيب إلى قائمة معايير جودة التعليم التي تجهزها وزارة التربية من أجل إقرارها، وإلزام الجامعات بإنشاء وحدات للجودة الداخلية في التعليم العالي، وهي موجودة لدى عدد لا بأس به من الجامعات، أما الثاني فاعتماد تقارير وحدات التقويم الذاتي كشرط لتجديد الاعتراف بالبرامج المرخصة في مؤسسات التعليم العالي.
يعترف مازن الخطيب أنه “ما زال ينقصنا كمية كبيرة من النصوص التشريعية لسد الفراغ التنظيمي في مؤسسات التعليم الخاص”، لكي تخضع “الجامعات البعيدة من الحصول على اعتماد عالمي” لمعايير الجودة.
شهادات الخارج
كما يطاول التشكيك الشهادات والرتب العلمية التي يستحصل عليها اللبناني من الخارج. ويوضح الخطيب أنه “لا يمكن الحديث عن دول معينة في الخارج، لا تحترم معايير جودة التعليم. ففي كل دولة هناك جامعات ذات مستوى عالمي لذلك لا يصح التعميم”.
ملف العراقيين
في عام 2021 هزت الرأي العام اللبناني قضية “شهادات الطلاب العراقيين”. يشير مازن الخطيب إلى تسجيل عدد كبير من الطلاب في “حقبة التعليم أونلاين”، إبان جائحة كورونا وترافق ذلك مع صدور تشريع في العراق، يمنح بموجبه امتيازات مالية ووظيفية لمن يمتلك شهادات ماجستير والتعليم العالي من بين موظفي القطاع العام. وتراوحت حصة لبنان بالطلاب العراقيين، بين 14 و17 ألفاً في الأعوام المتتالية أغلبيتهم طلاب ماجستير.
يكشف الخطيب عن البدء بتدقيق أعداد الطلاب العراقيين في الجامعات اللبنانية الخاصة، ومدى توافق تلك الأعداد مع الحيز المكاني والمساحات المتوافرة لديها، مشيراً إلى أن “الأعداد غير متوافقة مما يشي بأن التدريس يحصل من بعد في قسم كبير منه، وهذا مخالف لأنظمة التعليم العالي في لبنان التي يجب أن تكون حضورية”. لذلك يتحدث عن إجراءات تتراوح بين فرض الغرامات واقتراح سحب مباشرات التدريس في عدد من برامج التعليم العالي الخاص، وصولاً إلى إصدار تنظيم جديد للدراسات العليا في لبنان، وإنشاء لجان التدقيق الميداني ببرامج التعليم. كما ينوه إلى أن “الجامعات وجدت مخرجاً لعدم وجود كادر كاف لديها للإشراف على الرسائل البحثية، من خلال اتفاق مع الجامعة اللبنانية للاستعانة بمشرفين”، مؤكداً أن “المشكلة ليست بالإشراف وإنما بالأعداد الكبيرة التي تتجاوز قدرة المؤسسات على استيعاب الطلاب”.
بشير مصطفى –الخبر من المصدر