في المقابل، جاء الخروج المأسوي الكبير من سوريا، لملايين اللاجئين في اتجاه البلدان القريبة فالبعيدة، ليخفّض نسبياً عدد من هم على مذاهب أهل السنة في سوريا، وإن بقوا أكثرية مطلقة من عدد السكان.
لا يُستفاد مما سبق أنه لم يحصل نزيف سكانيّ من جانب الشيعة والعلويين والمسيحيين، أو الجماعات التي يغلب احتسابها بالمعيار القومي قبل الطائفي ـ الديني، كالأكراد، سواء في العراق أو في سوريا.
إنما السمة الأكثر رجحاناً في لوحة المتغير الديموغرافي على مستوى الجماعات الأهلية والتمثلات الثقافية والسياسية المرتبطة بها، هي السمة المتصلة بتراجع نسبة العرب السنة من مجموع سكان كل من العراق وسوريا، بشكل متسق مع ازدياد رسوخ ووضوح الطابع الشيعي الغالب على عراق ما بعد صدام حسين، وبشكل لم يكن مقدراً له من الأساس في سوريا أن يقلب الأكثرية أقلية، أو العكس، إنما بشكل تهافتت معه المشاريع المعوّلة على تكتيل الأكثرية العربية – السنية ليس إلا. لا بل ظهر أن التعويل على هذا التكتيل كان عامل تشطير وتشذير للأكثرية السنّية نفسها.
في مقابل رباعي بغداد والبصرة ودمشق وحلب، يجوز أن تُذكَر بيروت.
هي اليوم كمدينة، شأنها في ذلك شأن المدن السوراقية الأربع آنفة الذكر، تحت سطوة واحدة من التشكيلات التي تدور في فلك المحور الذي يقوده الولي الفقيه والحرس الثوري في إيران.
وهي بهذا المعنى أقل حرية من طرابلس في شمال لبنان، بما أن الأخيرة بعيدة نسبياً عن النطاق العملياتي للحرس الثوري وما يدور في فلكه.
لكن بيروت، مقارنة بالمدن الأربع الآنفة الذكر، وطرابلس أيضاً على المقلب الآخر، لا تزال المدينة التي لم يتمكن فيها المحور الموالي لإيران من حسم «المعركة الثقافية» فيها.
وقد يبدو مثل هذا القول مستهجناً لأول وهلة، ومكابراً على ابتلاء بيروت في العقود الأخيرة، وبعد أكثر في السنوات الأخيرة بباقة من صروف الدهر.
والكلام فوق ذلك كثير، في بيروت وبصددها، عن ضمور الثقافة فيها، ونضوب ما لدى النخب فيها من جديد لتطرحه، وبما ينبجس من قرننا وقضاياه وطبيعة تحدياته. كل هذا ليس من الممكن اخفاؤه ولا المكابرة عليه.
والصحافة فيها شاحبة، والإعلام فيها مُطَوَّع إلى كبير حد ومُفْسَد، والنظام التعليميّ الجائر أساساً بأبناء الطبقات الشعبية متصدّع ومجوّف، سواء بفعل الانهيار المالي أو بفعل تكالب الأفكار الرجعية وأنماط التسطيح والتجهيل.
وفوق كل هذا، هي مدينة تنوء تحت الأثر المعنوي الوخيم لتفجير المرفأ. الذي لا يقل عن أثره العينيّ الإجرامي الفظيع، بخاصة وأنّ الطريق إلى الحقيقة والعدالة في موضوع المرفأ قد صدّ بالكامل، حتى يكاد المستمسك الوحيد على ما حصل هو النظر بعين الارتياب بالتحديد من أولئك «المستقتلين» لمنع التحقيق.
حتى إذا تكامل هذا مع الظلام الذي يلف بيروت ومعظم لبنان، بفعل التقلص الهائل في ساعات التغذية الكهربائية منذ ثلاثة أعوام، ظهرت كمدينة محبطة، مستباحة، مفقودة، رهينة.
فكيف يُقال مع هذا أن «المعركة الثقافية» لم يكسبها بعد محور الممانعة فيها… وعليها؟
كل هذا صحيح. فهي المدينة التي تضافرت في وجهها وتخثرت تركات الحرب الأهلية والوصاية السورية والانقسام الداخلي من بعد الوصاية وانعدام التوازن وسط هذا الانقسام بين الفيلق العقائدي المسلّح وبين سواه. ناهيك عن تركة انحراف إعادة الإعمار فيها عن العمران الحي، المنتج لفضاء مواطنية كونية وإنسانية قدر ما هي شعبية ووطنية. وتضاف إلى ذلك أيضاً تركة المواجهة المسيحية للأسلمة الفعلية أو المقدّرة فيها، من خلال اللجوء إلى الانطوائية «الغيتوية» المتجهمة والمنقبضة. هذا من دون إنكار تركة الأسلمة الموسعة في بعض المناطق للفضاء المديني – المواطني المشترك.
إنما، مع كل ما سلف، ومع كون لبنان يقاسي إشكالية فعلية وخطيرة متعلقة بحجم اللجوء السوري فيه، والغياب المزمن للإدارة اللبنانية الناجعة لهذا الملف، إلا أن بيروت أفلتت حتى الآن من مصائر بغداد والبصرة ودمشق وحلب في العشرين سنة الأخيرة.
فانعدام التوازن فيها وحولها، وعلى امتداد الخارطة اللبنانية، لم يؤد إلى توطد حالة هيمنة مذهبية مستقرة وشاملة لحزب الله. مثلما أن المكتسب الثمين المتمثل بإخراج الجيش السوري من بيروت ومن لبنان لم يتبخر أثره بالكامل.
ورغم كل ما عاشته المدينة من كوارث، وفي طليعتها الكارثة الإجرامية المتمثلة بتفجير مرفأ بيروت وتدمير أحياء سكانية بكاملها وعلى أهلها شرقي العاصمة، ورغم كل ما شهدته شوارعها من جرائم اغتيال متسلسل ومن عراضات قوة وقلاقل، إلا أنها حافظت على قدرة مراوغة غير قليلة. لقد اكتسبت هذه المدينة الشرق متوسطية، درة العهد العثماني الحميدي وعصر النهضة العربية، طاقة كبيرة على المراوغة في القرن الماضي. تقاطعت فيها حيويات متعارضة بعد ضمها، كعاصمة، الى الكيان اللبناني، الجبلي حصراً في زمن المتصرفية قبل ذلك. قلبت بسرعة هذه العلاقة، لصالحها كمدينة، وتوسعت على حساب الجبل، وفي اتجاهه، وعلى حساب المدن الساحلية الأخرى ودورها، وفي المقدمة منها طرابلس.
هذه المدينة التي ترادفت سابقاً مع الحرب الأهلية، عرفت في الحرب دماراً لمركزها وتوسعا لها الى مجموعة من المراكز الجديدة. أُجهز على وسطها فتوسعت.
في المقابل، في العشرين سنة الأخيرة ظلت بيروت خارج أوار الحرب الأهلية، التي إما أن اخترقت الفضاءات المدنية بعنف وفظاعة كما في حال بغداد والبصرة وحلب، وإما حاصرت المدينة من على تخومها، كحال دمشق.
كذلك، بقيت مظاهر «إعادة التديين» من سلفية ومهدوية أقل جموحاً في بيروت في العشرين سنة الأخيرة مقارنة بما حلّ بمدائن الهلال الخصيب. حتى في الضاحية الجنوبية، عقر دار «حزب الله» وجد هذا التشكيل الخميني صعوبة أكبر في تشرّب تصوره عن «إعادة تديين» المجتمع، على ما يوافقه، هذا مقارنة بهيمنته السياسية الميسّرة أكثر على مجتمع الضاحية.
رغم الانهيار والقنوط والتفجير واستعصاء حل أي من المشكلات المتصلة بحزب الله وسلاحه، فإنه مقارنة بمدن بلاد الشام والعراق الأخرى، لا تزال بيروت شاهدة على اجتماع أمرين فيها في وقت واحد: سطوة أمنية وجهازية لحزب الممانعة، وتعثر كبير في الوقت نفسه في تحويل هذه السطوة الى قاعدة تحتية للهيمنة الشاملة، الهيمنة الثقافية. لأجل ذلك، كل نشاط أدبي، فني، فكري، كل فاعلية ثقافية، تعيد وتذكر في بيروت بهذه الحقيقة. لا تزال بيروت، مقارنة بالبصرة وبغداد وحلب وطرابلس، عاصمة لليبرالية الثقافية في بلدان المشرق العربي.
بالتوازي، يحضر فيها المعطى والمتخيل في باب الديموغرافيا المقارنة بين الجماعات الإثنو ـ دينية إلى حد الهوس. فالانهيار الاقتصادي زاد من نطاق الهجرة بين المسيحيين أكثر من سواهم. وأعداد اللاجئين وعدم وجود أفق عملي متوازن لمواجهة تحديات وأعباء هذا الملف الآنية والمزمنة، والشعور الشيعي بأنه لئن الوزن الديموغرافي للطائفة أكبر مما هي حاصلة عليه من مناصب في رأس الدولة، هذا في مقابل عدم استعداد للبحث في وضع السلاح والرابطة مع إيران في مقابل طرق باب هذه المسائل. كل هذا يجعل الهوس الديموغرافي يمسك بالعقول أكثر من ذي قبل. يزيد عليه أنه، إن قيس العدد بالسكان لا بالمواطنين، فأغلبية السكان في لبنان اليوم، هم من المسلمين السنة، السنة اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، بصرف النظر عن الافتراق بين الهوية الجماعتية لسنة لبنان وبين السوريين والفلسطينيين، إذ لم نعد اليوم إبان مؤتمر الساحل 1936 آخر فعالية واسعة للمطالبة بوحدة سورية كبرى تشمل بيروت وطرابلس ولبنان.
لكن كيف يجتمع استمرار كون بيروت عاصمة لليبرالية الثقافية في المشرق العربي مع كونها اليوم أكثر من ذي قبل عاصمة للقلق الديموغرافي المستعر والمتبادل بين الجماعات المرابطة على تخومها وفي ضواحيها الجنوبية والشرقية؟ يجوز التأمل في السؤال بعد أكثر، قبل محاولة الإجابة.