وضع الإصبع على الجرح من دون لفّ ودوران: العقدة في خشبة العلاقة الأميركية – الإيرانية. وما زيارات الموفد الفرنسي جان ايف لودريان المكوكية، إلّا تكريس لواقع معقّد مرتبط برزمة ملفات متشابكة تبدأ بالاتفاق النووي والانتخابات الرئاسية الأميركية ولا تنتهي بنفوذ ايران في المنطقة وبعلاقاتها مع دول الخليج وتحديداً السعودية… فيما يبدو لبنان مركوناً على الرفّ ولو أنّ أزماته المتتالية الناجمة عن الانهيار الاقتصادي- المالي- الاجتماعي تضعه على فوّهة بركان.
بهذا المعنى، لا يعوّل كثيراً على «حوار الاختبارات المدرسية» الذي اختاره لودريان لتوثيق مواقف وإجابات الكتل النيابية في مقارباتها للاستحقاق الرئاسي. الدبلوماسي الفرنسي تورّط هو أيضاً في متاهة تضييع الوقت واللعب على المبادرات والمحاولات العبثية لتحقيق خرق في الجمود الرئاسي، وهو المتيقن كما إدارته، أنّ العلة في مكان آخر، أبعد من بعبدا، ومحيطها اللبناني، لتطال خطّ واشنطن- طهران مباشرة.
وبهذا المعنى، يقول المعنيون إنّ دخول قطر على الملعب الرئاسي اللبناني بالتوازي مع المبادرات الفرنسية التي انتهت حتى الآن إلى فشل ذريع، ليس أكثر من «دوريات استطلاعية» تهدف إلى جسّ النبض لتبيان حقيقة مواقف القوى المعنية، من كلّ السيناريوات المحتملة، قبل أن يتدخّل «لاعب الأساس»، أي واشنطن لحسم التفاوض. وفق هؤلاء، يتكفّل القطري كل فترة بإقتفاء أثر المتغيّرات على الشطرنج الرئاسي، ومدى تأثير التطورات الداخلية والخارجية، لرصد الاحتمالات الممكنة.
بين «تشرين وتشرين»… انفجار ثانٍ
ولهذا، تبدو الصورة على مسافة سنة من عمر الشغور الرئاسي على الشكل الآتي:
– إلى الآن، يرفض «حزب الله» التخلي عن ترشيح رئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية، ولو أنّه مقتنع أنّ ترئيسه من دون غطاء دولي يسهم في انقاذ العهد من الانفجار الكبير، هو مخاطرة لن يقدم عليها، وهذا ما تمّ إبلاغه إلى فرنجية. ما يعني بالنتيجة، أنّه حتى لو نجح «الحزب» في تأمين تأييد رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل للاقتراع للقطب الزغرتاوي، وضمان 65 صوتاً، لن يكون «الحزب» متحمساً لنقل فرنجية إلى «القصر» في ظلّ الحصار الخارجي.
– إلى الآن، تبدي واشنطن رفضها لترئيس فرنجية، وهي قناعة باتت راسخة لدى «حزب الله» رغم المحاولات الفرنسية المتكررة التي كانت توحي بأنّ الإدارة الأميركية غير ممانعة، أسوة بالسعودية. وبالتالي إنّ أي محاولة داخلية لكسر الجمود الرئاسي قد يتمّ التصدي لها بأكثر من طريقة ووسيلة.
– ثمة من يعتقد أنّ حالة الهدوء النسبي التي كرّسها استقرار سعر الصرف عند عتبة التسعين ألفاً، غير مرشحة للاستمرار، ذلك لأنّ الخزعبلات المالية التي تركها رياض سلامة في ميراثه المالي، تساعد على تمرير ثلاثة أشهر لا أكثر، يفترض أن تنتهي خلال شهرين، ليفقد بعدها مصرف لبنان السيطرة على العملة، وما إقرار منصة بلومبرغ إلّا خطوة رسمية للتخلّص من سياسة تثبيت سعر الصرف، والتي يواظب الحاكم بالإنابة وسيم منصوري على اعتمادها. وهذا ما يفتح الباب على مزيد من الضغوط الدولية التي قد تمارس على القوى اللبنانية تحت عنوان الفوضى المالية والاجتماعية.
– إلى الآن، لا يزال الحوار بين جبران باسيل و»حزب الله» يراوح مكانه رغم التقدّم الشكلي الذي حققه من خلال تأليف لجان تقنية ستعمل على مناقشة مطالب «التيار» وتوثيقها ضمن إطار مشاريع قوانين لعرضها على بقية الكتل النيابية. لكن في العمق، يعرف «الحزب» أنّ خطوط باسيل التفاوضية مفتوحة في كلّ الاتجاهات: مع القطريين للتفاوض على ترشيح قائد الجيش جوزاف عون، ومع المعارضة لتثبيت ترشيح جهاد أزعور، أو الاتفاق على مرشح جديد. ولهذا، يجوز القول إنّ باسيل و»الحزب» يتبادلان لعبة المناورة، وكلاهما يعرفان أنّهما يستخدمانها، وكلاهما مقتنعان أنّهما حاجة لبعضهما البعض ويحرصان على إنعاش هذا الحوار بالمقويات. لهذا قطار النقاش الثنائي مستمر في مساره، لكنّ منسوب التوقعات من نتائجه، متدنٍ جداً، اذا لم نقل معدوماً.
كثيرة هي الأسباب، التي تجعل هذا الحوار محكوماً بالمصاعب والمطبات والعقد، ولعل أبرزها خشية باسيل من العودة إلى تفاهم مار مخايل من دون ذخيرة كافية تساعده على إقناع الشارع المسيحي بالتفاهم بعدما تولى هو بنفسه رجمه بحجارة رفض الحزب مشاركته في بناء الدولة. ولهذا هو يحتاج إلى سلّة مكاسب يمكن تسويقها لدى المسيحيين لتشجيعهم على قبول هذه العودة، ويبدو أنّ «الحزب» غير قادر على تلبية كل مطالبه التي تبدأ باللامركزية، وهي أقل المطالب تعقيداً، ولا تنتهي بالصندوق الإئتماني وما يمثله من شراكة بمالية الدولة، مروراً بحصصه في العهد الجديد…
أضف إلى ذلك، معضلة المفاضلة بين سليمان فرنجية وجوزاف عون. اذ خلافاً، لكل التكهنات، يرى بعض مسؤولي «حزب الله» أنّه عند ساعة الحسم، باسيل قد يهرب من فرنجية إلى عون، لأنّ الأول سيشكل منافسة زعاماتية في الشمال خصوصاً، وسيكون عهده محصناً بدعم «الحزب» وبتحالفه مع بري، فيما عهد جوزاف عون قد يكون منزوع التفاهمات السياسية وأقلّ ضرراً عليه. أمّا الأهم من كل ذلك، فهو أنّ معركة باسيل الأولى والأخيرة هي نزع العقوبات الأميركية عنه. وهو هدف لن يتحقق اذا اقترع لفرنجية خلافاً لرغبة الأميركيين.
– وحده استحقاق كانون الثاني المقبل، موعد بلوغ قائد الجيش السنّ القانونية، قد يحرّك برأي بعض المعنيين، المياه الراكدة. إلى الآن، الطريق مقطوع أمام تعيين رئيس للأركان يمكنه أن يتولى قيادة الجيش مع إحالة قائد الجيش إلى التقاعد، فيما يذهب البعض إلى حدّ التكهن بإمكانية تدخّل الأميركيين مع وزير الدفاع موريس سليم عشية بلوغ هذا الاستحقاق، لاقتراح تأجيل تسريح قائد الجيش أو استدعائه من الاحتياط، رغم ممانعة رئيس «التيار الوطني الحر»، ذلك لأنّ الأميركيين حريصون على عدم ضمّ المؤسسة العسكرية إلى بقية المؤسسات المشلولة أو المعطلة أو تعريضها لخضّة في هيكليتها القيادية. ولهذا قد يتدخلون بشكل حاسم عشية هذا الموعد.
– واذا ما حصل ذلك، يرجّح بعض المعنيين أن يكون الانخراط الأميركي في مسألة قيادة الجيش، مدخلاً لتدخّلهم الجدي في ما خصّ الرئاسة الأولى. وإلا فإنّ الشغور مرشح للبقاء في قصر بعبدا، إلى أمد غير منظور.